كتاب «يوسف بك الزين من جبل عامل إلى الجنوب اللبناني».. سيرة زعيم نهض بالتعليم و قاوم الحرمان

يؤرّخ الباحث الدكتور منذر جابر لمرحلة مفصلية من تاريخ جبل عامل من خلال سيرة زعيم جنوبي بارز، عبر كتابه "يوسف بك الزين من جبل عامل الى جنوب لبنان"، الزاخر بالوقائع التاريخية التي تحرّاها جابر بدقة الباحث الرزين، من خلال مؤلفه الضخم الذي يقع في 962 صفحة، تبدأ احداثه منذ نهاية الحكم العثماني لبلاد الشام عقب نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، التي فرضت انقلابا جيوسياسيا حادا في المنطقة، مع انتهاء الخلافة الاسلامية التركية، وسيطرة قوات الحلفاء بوصفها دول منتدبة، لتعلن فرنسا عام 1920 قيام "دولة لبنان الكبير" بحدوده الحالية، ما تسبّب بتغيير كبير في الواقع السياسي والديموغرافي للمنطقة.

لما كانت فرنسا هي الدولة المنتدبة، بموجب اتفاقية سايكس بيكو على لبنان، في حين أن فلسطين والأردن والعراق كانت من حصة بريطانيا، فإن جبل عامل الطامح إسوة بباقي المسلمين إلى الوحدة العربية والالتحاق بالملك فيصل، سرعان ما تحطمت آماله وآمال جميع من راهن على بقاء الحكومة العربية في بلاد الشام، عقب معركة ميسلون عام 1920 ودخول البلاد تحت الحكم الفرنسي المباشر بعد طرد الملك من دمشق.

وبإعلان دولة لبنان الكبير أصبح جبل عامل اسمه “جنوب لبنان”، محافظة يحدها البقاع وجبل لبنان شمال وفلسطين، التي سوف تحتلها لاحقاً العصابات الصهيونية منتصف القرن الماضي، وتصبح “دولة إسرائيل” في الأمم المتحدة. 

في هذه المرحلة المصيرية نمت وترعرعت الشخصية، موضوع البحث “يوسف بك الزين”(1882-1962)، وسط اضطرابات سياسية اجتماعية ودينية شتى، فعاش في خضم هذه النزاعات مجبراً على خوضها، لأنه يتحمل إرث عائلة ارتقت بفضل تميزها العلمي والثقافي، وكانت وصلت زعامتها إليه بعد اغتيال والده المأساوي، بمؤامرة خبيثة دبّرها خصومه بليل “غابت عنه كل مروءة وفضيلة” بشهادة صاحب العرفان حينها الشيخ احمد عارف الزين.

يحتوي الكتاب على خمسة وثلاثين قسماً، يبدأ فيه المؤلف الدكتور منذر جابر بمقدمة، يذكر فيها بواعث نشر كتابه ويشكر فيها من تعاون وعمل على إنجاح كتابة هذا البحث، مخصّصا الحفيد صائب عبد الكريم الزين بشكر خاص، الذي بدوره كتب مقدمة ثانية مطلعها “محظوظ أنا أن أكون حفيداً ليوسف الزين”. 

عَِني الكاتب في الأقسام الأولى لمؤلفه، بالبحث في تاريخ عائلة آل الزين، مستهلاً سرد تفاصيل نسب يوسف الزين وموقعه في الأسرة، كونه أصغر أخويه الذكور، وسرد سيرته الشخصية وزواجه الأول من ابنة عمه عام 1964، شقيقة الشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلة “العرفان”، ولما لم يرزق منها أبناء، فإنه تزوج بعد ذلك بخمس سيدات من قريته كفررمان، وأنجب سبعة عشر ولداً منهن.

وبعد أن اطلع الكاتب قرّاءة على تاريخ آل الزين، الذي يرجع إلى قبيلة الخزرج الذين آووا النبي، ونصروه في المدينة المنورة بعد هجرته من مكة، كما يعود تكنيهم “بالزين” إلى جده الأقرب لـ”زين الدين” أحد قواد صلاح الدين الأيوبي الذي ورد إلى جبل عامل، مع ابن شقيقة صلاح الدين حسام الدين بشارة، ومنه عُرف الجبل لاحقاً بإسم “بلاد بشارة”. 

ثم يعرض الكاتب لاستقرار آل الزين في بلدة شحور ثم كفررمان، ولعلاقتهم المتوتّرة مع آل الصغير أو آل الأسعد، حكام جبل عامل التاريخيين، كاشفا انه لما أطلّ القرن العشرين، وبدأ الضعف والوهن يتسرّب إلى مفاصل السلطنة العثمانية اضطرت لإصدار دستور 1909 الضامن للحريات ولحقوق الإنسان, بضغط شعبي وأوروبي، فإن سلطة الوجهاء والإقطاعيين (ومنهم آل الزين وآل الأسعد) بدأت بالفتور، وفي هذا الزمن اغتيل إسماعيل الزين، وبدأ نجم نجله يوسف بك بالصعود. 

عاش في خضم هذه النزاعات مجبراً على خوضها لأنه يتحمل إرث عائلة ارتقت بفضل تميزها العلمي والثقافي 

ويعرض الكاتب أيضاً لصراع النفوذ، الذي احتدم بين يوسف بك الزين والزعيم رضا بك الصلح، والاتهامات المتبادلة والدسائس التي رافقت اعتقال رضا الصلح، من قبل الحاكم العرفي العثماني جمال باشا السفاح عام 1915 أثناء الحرب العالمية الأولى؛ وهو الذي علّق على المشانق، عشرات من أعيان لبنان الوطنيين منهم عدد من الوجهاء والأدباء والصحافيين. 

ويعرض الكتاب لفترة الانتداب الفرنسي 1918 – 1943، وما رافقها من تقلبات سياسية, بدأت من مناصرة حكومة الملك فيصل في دمشق، إلى إعلان دولة لبنان الكبير بحدوده الحالية, واعتراف العامليين بالأمر الواقع الجديد, بعد عقود من الاضطرابات والفتن, وعقد مؤتمرات أهمها مؤتمر الحجير الذي عقد بدعوة من كامل بك الأسعد وحضره الى جانب العشرات من الاعيان ورجال الدين يوسف بك الزين بصحبة وجهاء النبطية، وغني عن القول أن الأحداث اللاحقة أطاحت بمقررات المؤتمر المذكور، التي ناصرت الملك فيصل ودعت إلى الوحدة العربية، خصوصاً بعد معركة ميسلون وخروج الملك فيصل من سوريا إلى العراق، وداخلياً فقد حدثت فتن طائفية ومعارك بين العصابات الشيعية والمسيحية أسفرت عن وقوع مئات من الضحايا، وأدت بالنهاية إلى اجتياح الفرنسيين لكامل مدن وقرى جبل عامل، بحملة عسكرية قادها الجنرال “نيجر” في أيار 1920، وضعت البلاد تحت السيطرة الفرنسية المباشرة، بعد أن نكلت بالعديد من الأهالي الزعماء الوجهاء المتهمين من قبل الانتداب الفرنسي، أنهم تسببوا بفتنة “عين إبل” الشهيرة، ويؤكد الكاتب أن يوسف بك الزين تدخل لدى الفرنسيين، من أجل العفو عن كامل الأسعد وتأمين عودته من منفاه في فلسطين. 

مشروع نبع الطاسة 

 يقول الكاتب أن السيولة النقدية لدى آل الزين، سمحت للأخوين يوسف بك والحاج حسين بمباشرة لبنانيتهم في الحياة السياسية وعلاقات الاجتماع، ومباشرة يوسف بك سريعاً بالعمل على مشروع جر مياه نبع الطاسة، من جرجوع الى مدينة النبطية وضواحيها، وهو مشروع تنموي حيوي كان طرحه يوسف بك في شبابه، على قائمقامية صيدا عام 1911 في العهد العثماني، وألف شركة وترأسها لهذه الغاية، غير ان العمل تأجل بسبب اهمال تركيا، وانشغالها في حروب البلقان بداية، وحرب العالمية الاولى لاحقا، ليسارع يوسف بك مستغلا تبدل واقع الحال، وتقدم بطلب الى سلطات الانتداب الفرنسي التي وافقت على تخصيصه بامتياز، جرّ مياه نبع عين الطاسة الى مدينة النبطية مدته 8 سنوات من تاريخ 18 اب 1924، وانتهى العمل بالمشروع في تشرين الثاني من العام نفسه، “وقد جرى الماء في شوارع النبطية حيث تهللت الوجوه وعلا الهتاف بالدعاء لصاحب العمل وهمته العالية”.

من الناحية الاجتماعية والسياسية، فقد كان ليوسف بك الزين دوراً مسانداً لمطالب الشيعة، بالطلب من سلطة الانتداب الاعتراف بالمذهب الشيعي مذهباً رسمياً في لبنان، إسوة بباقي المذاهب الإسلامية المسيحية وهو ما كان عام 1926 مع إنشاء المحكمة الشرعية الجعفرية، ويقول الكتاب أن إحجام أهالي جبل عامل عن المشاركة بثورة 1925 السورية ضد الانتداب الفرنسي، كان له دوراً إيجابياً في ذلك استناداً لما قاله الباحث الأديب الراحل السيد هاني فحص الذي قال أن “موقف الشيعة من الثورة السورية كان انخراطاً باكراً في الدفاع عن الكيان اللبناني”. 

ويؤرخ الكتاب الذي استعرض تاريخ جبل عامل، الحديث في مرحلة “يوسف بك الزين”، بعد إقرار الدستور عام 1926 وكان العديد من زعماء المسلمين الشيعة في الجنوب والبقاع، قد محضوا الدولة الناشئة دعمهم، وبدأوا يشاركون في الحياة السياسية في بيروت، واتخذ يوسف بك الزين نائباً عن الجنوب اللبناني في العام نفسه، مفتتحاً هو وباقي زعماء الجنوب الندوة البرلمانية الأولى في عهد الجمهورية اللبنانية. 

وبعد استعراض الكتاب للمعارك الانتخابية، التي دارت رحاها في دساكر وبلدات الجنوب منتصف القرن العشرين، بين الزعامات والقيادات والعائلات الجنوبية، من آل عسيران والزين والخليل وبزي وبيضون وغيرهم، ومحاولات الزعيم أحمد الأسعد السياسية وما أسفر عنها من تقلّب في التحالفات، كان من نتيجتها أن استعرّ العداء السياسي بين الأسعد والزين خصوصاً، وبقي يوسف بك الزين صامداً بنيابة النبطية حتى انتخابات عام 1951، عندما تمكن أحمد الأسعد بدهائه وقوة نفوذه وتحالفاته، بإزاحة آل الزين عن النيابة، خصوصاً وأن شقيق يوسف بك، حسين الزين كان كثيراً ما يتقلّد منصب النيابة أيضاً، إلى جانب أخيه في منطقة صيدا قبل وفاته، ليعود بعد عامين نائباً رغم حماوة المعركة الانتخابية، بين آل الزين وآل الفضل المدعومين من أحمد الأسعد. 

الحركة التعليمية: 

 يؤكد الدكتور منذر جابر في كتابه عن سيرة يوسف بك الزين، ما كان قد أشير له في مقال سابق، أن رضا بك الصلح هو باحث النهضة الحديثة في جبل عامل، لأنه أسس أول مدرسة في النبطية وفق منهاج حديث عام 1884، ثم ضمتها جمعية المقاصد إليها لاحقاً بعد سنوات، ثم وزارة المعارف عام 1920. 

وقد كان ليوسف بك الزين أثر بالغ، في دعمها مالياً لأنها أنشئت من التبرعات، وكان تبرع بالدعم رواتب المعنيين. كما رمّم يوسف بك الزين وأخوه الحاج حسين، غرفة المدرسة العلمية في النبطية التابعة لجمعية المقاصد كي تستأنف عملها عام 1924. 

وفي عام 1952 تولى يوسف بك الزين رئاسة جمعية المقاصد النبطية، حتى تاريخ وفاته عام 1962، وقد ازدهرت مدرسة المقاصد في عهده حتى بلغ سيطها العراق التي أرسل سفبرها تبرعاً مالياً بقيمة 500 ليرة لبنانية عام 1955، وكانت حينها الرواتب تعد بعشرات الليرات، ويؤكد المؤلّف أن المساهمات التربوية الكبيرة ليوسف الزين، في تركيز المدارس في مدينة النبطية، كان له دوراً مهماً في ترسيم قاعدة التعليم في مرحلتيه الابتدائية والمتوسطة، للإنطلاق إلى مراحل عليا لاحقة في التعليم خارج الجنوب اللبناني. 

المطلوبية ورفع الحرمان: 

 يشرح الكاتب أن المطلوبية هي المطالب الجنوبية أو الشيعية، الموجهة إلى الدولة من أجل رفع الحرمان عنهم ومساواتهم بباقي المكوّنات في الوطن. 

ولما شكلت الحكومة عام 1928 ولم يكن فيها وزير شيعي، فقد كانت المطالبة عارمة بإنصاف الطائفة، وكان يوسف بك الزين نائب النبطية على رأس هؤلاء فقال في البرلمان: لا نطالب بطائفية، ولا بدستور، نطالب بعدل وبإنصاف ونطالب بالمساواة كما هي شعائر دولتنا المنتدبة”. 

وفي الأقسام المتبقية من الكتاب، عرض للسيرة السياسية ليوسف بك الزين، مع المحطات والانعطافات التاريخية الكبرى التي رافقتها من أحداث داخلية وخارجية، ومنها فتنة 1958 وموقفه من الوحدة العربية. 

قال في البرلمان: لا نطالب بطائفية، ولا بدستور، نطالب بعدل وبإنصاف ونطالب بالمساواة كما هي شعائر دولتنا المنتدبة” 

 ويختم الكاتب الدكتور جابر بملاحظة أن اللبنانية أصبحت هوية جديدة، فهي برأيه ” لم تعن لدى يوسف الزين إنه سيغدو مجبوراً على غير تاريخه، فعليه لم تشهد جلسات المجلس النيابي من قبله، أو قبل أي نائب شيعي آخر، أي تساؤلات حول شرعية الكيان اللبناني، مقابل تساؤلات كثيرة من قبل النواب السنة، لا بل أن نواب الشيعة، لم يدخلوا طيلة مرحلة الانتداب في صراع مع آخرين على تاريخ لبنان، أو حتى على تاريخ سورية”. أما، وقد حاز تشكيل لبنان الكبير، شرعية الأمر الواقع، فإن المعارضات السياسية من قبل بعض الطوائف له، تحولت إلى معارضة، كطريق للتفتيش عن حصة زائدة أو عن مغنم جديد. لذا كان على الشّيعة مع بداية الدولة الحديثة في لبنان، أن يظهروا مزيداً من القبول بها، وقد تمثل ذلك في دخولهم المبكر في مؤسساتها السياسية والإدارية، فكانت الباكورة في هذا المجال المحاكم الشرعية مثلاً، التي يرى السيد هاني فحص أنها “المنطقة الأشد حساسية من غيرها”. 

ولا بد من التوقف عند مقولة تبني سلطات الانتداب ليوسف الزين، واستمرار الدفع به للقول بأن “سلطات الانتداب كانت بصورة عامة – وباستثناء حالات تمليها المصلحة العامة أو الأحقاد الشخصية – تساند أكثر الزعامات شعبية لأن نجاحهم بجنبها متاعب كثيرة”. 

ولا يخفى هنا، أن سلطات الانتداب الفرنسي كانت على إحساسها من احتمال شرود يوسف الزين عن حدود سياستها، حيث يُقرأ في تقرير فرنسي عنه: “محتال، ذكي، احتال على سلطات الانتداب الفرنسي وتعامل معها من أجل مصالحه… لعب على السلطات الفرنسية، كان السيد في الجنوب، كان ينفذ ما مايشاء في الإدارات، القضاء لا يستطيع أن يفعل شيئاً معه بسبب عدم تحرك السلطات ضده، خلال الانتخابات الأخيرة، صمد في وجه رئيس المجلس ولم يلتزم بكلامه… هذا الشخص، أي يوسف الزين، هو شخصية خطيرة إذا لم تكن نعرفه…”. 

السابق
البلد «الغارق» بين «الثقافة» السائدة و«العائمة»!
التالي
«طيور الظلام وخفافيش الليل».. اعتداء على نصب شهداء جبهة المقاومة والحزب الشيوعي بقاعاً