حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: التغيير في لبنان بين المنتظر والمرجأ

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.


 لم يكن اعلان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، عن ضرورة تغيير الطبقة السياسية في لبنان التي تمسك بالسلطات كافة فيه، وبكل أطرافها الطائفية وامتداداتها المالية والاقتصادية، ناتج عن غضب فرنسي او أوروبي على المنظومة الحاكمة، ولا كانت تعبيرا مجازيا او موسميا نتيجة توتر العلاقة الاوروبية الايرانية  بعد تداعيات ثورة النساء والحجاب في ايران، بل عبرت عن تعب غربي ودولي من ممارسات المنظومة وارتكاباتها وفشلها، واصرارها على منافعها الدنيئة، واستمرارها في عمليات النهب والفساد والمحاصصة في موارد الدولة ومرافقها وملكياتها، وكيدياتها السخيفة بين أطرافها، وتنكرها لأبسط النصوص الدستورية والأحكام القانونية  وقواعد الحكم الرشيد، بما في ذلك أخلاقيات العفاف المالي والنزاهة، وتعطيل المساءلة والمحاسبة، واستتباع القضاء وتقاسمه واستعماله اداة تراشق فضائحي معيب.فما أعلنه الرئيس الفرنسي هو قناعة دولية وعربية اصبحت راسخة، بان التغيير السياسي والاصلاح الاداري والمالي والمصرفي، ووقف الهدر في قطاعات الكهرباء والنفط والاتصالات والنفايات، كما وقف استباحة الشواطئ والرمول والجبال والجرائم البيئية في المقالع والكسارات، والعمل على تحصيل حقوق الدولة من الضرائب والرسوم على الحدود والمعابر الحدودية، ان هذه الاصلاحات لا يمكن ان تتم مع هذه المنظومة وأطرافها، وأنَّ التغيير السياسي  بات معبرا اجباريا وملزما ووحيدا، لخروج لبنان من دوامة الانهيار الاقتصادي والمالي، وان استعادة عافيته الاقتصادية ونهوض قطاعاته الانتاجية، اصبح مرتبطا بإعادة انتاج سلطة بديلة، تستطيع ان تحدد رؤية وافقا متطورا، لوظيفة لبنان ودوره في المنطقة، وتستند الى كفاءات ومهارات أجيال جديدة، ونخب حديثة لم تعد ترضى بالعيش في وطن فقد كل مقوماته، ودفن كل آمال شاباته وشبابه.لذلك كانت ١٧ تشرين ٢٠١٩ ثورة حقيقية للتغيير، لأنها اولاً كشفت فشل اطراف السلطة وأكدت مسؤولياتهم المعنوية والعملية عن افقار شعب لبنان والتلاعب بمصير أبنائه.

كان يمكن لنتائج الانتخابات ان تكون عبرة للمجموعات التي نزعت للانفراد والتميز والنهج الانشقاقي لكي تعدل اداءها وتعود الى سلوك التضامن والبحث عن المشتركات

وأدانت بالوقائع والمواقع مكامن الفساد والهدر والتربح من السلطة، والاثراء غير المشروع من المالية العامة، كجريمة شائنة في حق الوطن والمواطنين، وفضحت ارتهان أحزابها جميعا لدول الخارج الاقليمي، وتبنت قيما جديدة وثقافة حديثة لتغيير شامل وعميق، يهدف الى بناء دولة مدنية حديثة، وتجاوز الطائفية الى دولة المواطنة وحقوق الانسان، كما دعت الى الخروج من عباءة زعماء الاحزاب الطائفية، ورفعت رايات الوطن، متجاوزة الفواصل النفسية والسياسية والمذهبية بين المناطق والمذاهب والطوائف.وعلى الرغم من مرور ثلاثة سنوات كاملة على انفجار الازمة وتوالد تداعياتها الكارثية، في كل الطبقات الاجتماعية والفئات اللبنانية، فقد فشلت المنظومة ب تقديم اية حلول عملية للحد من الكارثة ومنع تفاقمها، بل ساهمت اطراف هذه المنظومة في تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، وفي وقف  الخدمات الاساسية في الدولة، وفي تعميم الشلل في الادارة والمحاكم القضائية والمرافق العامة، واوصلت قطاعات التعليم والاستشفاء والدواء والنقل الى العجز التام والانهيار الشامل.وقد شكلت جريمة تفجير المرفأ  وانكشاف عمليات تهريب المخدرات والتجارات غير الشرعية، حقيقة خواء الهيكلية الادارية والامنية للدولة اللبنانية، كما بين استمرار الجريمة المنظمة، فداحة الاختراق  الذي تحدثه انظمة الممانعة في البنية اللبنانية نظاما سياسيا وجماعات أهلية…يتضح مما تقدم توفر شرطان اساسيان وضروريان للتغيير:·   

الاول انطلاق ظاهرة اجتماعية وشعبية ملأت ساحات المدن اللبنانية، بملايين المواطنين يرفعون  قيما جديدة، ويتسلحون بوعي ثوري وينبذون اطراف السلطة، ويتبنون هوية وطنية جامعة عابرة للمناطق والطوائف ويعلنون ثقافة متجددة، · 

 الثاني افتضاح فساد السلطة وخوائها وفقدانها لمصداقيتها، وعجزها عن تقديم حلول للازمة وانقطاعها عن تسيير الخدمات والمرافق العامة.فلماذا لم يحدث التغيير المرتجى في السلطة؟ ولماذا تتبدى صورة المشهد اللبناني وكأن المنظومة  تتصرف على راحتها، او انها استعادت زمام الفعل والمبادرة؟ فعادت رموزها الى مخاطبة الرأي العام، واحتلال مساحات النقاشات السياسية والسجالات الإعلامية!في واقع الامر ان هذين الشرطين هما ضرورتين أساسيتين للتغيير، لكنهما غير كافيين لهزيمة المنظومة واضعافها ثم اسقاطها، بل لزاما ينبغي توفر عاملين آخرين إضافيين :· 

إقرأ ايضاً: عون يهاجم بري و«يمنن» حزب الله بمار مخايل..وإفقار اللبنانيين مستمر!

الاول اجادة قواعد اللعبة من قبل قوى التغيير، في الصراع السياسي والذي يتحدد بالتنافس على ولاء الجماهير، ومحاولة استقطابها وتنسيق فعالياتها ومبادراتها في وجه السلطة. كما يتضمن الإختيار الصائب لآليات المواجهة وساحاتها وميادينها، ولقد اختارت ١٧ تشرين، الحراك السلمي المنظم والالتزام بسقف الدستور والاحكام القانونية، كما اختارت بأكثرية فعالياتها، خوض الانتخابات النيابية على اساس قانون الانتخاب القائم، على الرغم من سلبيات القانون وخطاياه، ووجود تحفظات وفجوات فيه. 

اما القواعد الاساسية في كل مسار تغييري، فهو الحرص الشديد على توحيد القوى المعارضة للسلطة، وصياغة أجندة حراك سياسي تتحدد بنودها بأهداف عملية يمكن تحقيقها ويتسبب إنجازها بثلاثة مكاسب، الاول إضعاف المنظومة وتعميق انقساماتها واللعب على تناقضاتها، اما المكسب الثاني فهو توسيع جبهة قوى التغيير وضم قطاعات جديدة الى صفوفها، من المتضررين من السلطة او المختلفين مرحليا معها، والمكسب الثالث هو إقناع جماهير الثورة والتغيير، بإمكانية نجاح العملية الثورية والانتصار على السلطة وهزيمتها، نتيجة انجازات موضعية وجزئية. 

ولقد استطاعت ١٧ تشرين ان تطرح قضايا الفساد وتحدد مواقعه، وان تطالب بمواجهة الانهيار المالي والاقتصادي والمصرفي، كما طرحت قضية استعادة الدولة لسيادتها طبقا للدستور واحكام القانون، ويتضمن ذلك احتكار الدولة عبر مؤسساتها، للقرار والخيار في مجالات الدفاع والامن والجباية المالية والعلاقات الخارجية والدولية، والسيادة المطروحة هذه، شاملة ناجزة على حدودها وداخل حدودها. ولعل الخلل الاول في مسار التغيير اللبناني، هو عدم القدرة على صناعة وحدة مجموعات التغيير وساحاتها، حيث ضمت الانتفاضة ما يقارب ٤٥١ مجموعة تعددت اسماءها وطروحاتها ونشاطاتها وتناثرت فعالياتها ومبادراتها، وتفاوتت بمستويات وعيها للازمة وتناقضت فيما بينها حول تشخيص الازمة وسبل حلها، كانت ١٧ تشرين لحظة مصيرية، اكتشف فيها ملايين اللبنانيين حجم الكارثة التي حلت بهم، فملأوا الشوارع لأسباب عديدة وسعوا لعقاب المسؤولين عنها، كل بحسب تاريخه وانتماءاته وارتباطاته! وكان هذا أمرا طبيعيا ومقبولا تماما. والسؤال الذي يطرح هنا، هل كان هناك من طريقة لايجاد قاسم مشترك  بين هذه الجماهير التي طالبت بعقاب المنظومة وبتغيير الاداء السياسي واعادة بناء السلطة؟

والجواب ببساطة نعم… والايجاب هنا ليس تسرعا او تفاؤلا اجوفا، فالقاسم المشترك هنا، هو قاسم كان يمكن ان يضم قوى اساسية وفعاليات مختلفة من اقصى اليسار الى اقصى اليمين، لكنه سيضع على الهامش قوى اخرى لن تكون من ضمن صلب الثورة او في الكتلة التاريخية التي يستند التغيير لها ويقودها.   وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من الشلل الثورية، فانه يمكن تصنيف هذه القوى الى ثلاث مجموعات رئيسية  ؛

الأولى جبهة ١٣ نيسان / الثانية جهة المعارضة اللبنانية/ الثالثة ممفد والحزب الشيوعي، واتجاهات يسارية جادة كاطار مدى والنادي العلماني وحزب حقي، رغم ان الجهة الثالثة هذه لا تتبنى اجندة سياسية واحدة، يضاف الى كل هؤلاء بعض المجموعات الملتبسة، التي حاولت اختراق فعاليات الانتفاضة وتجييرها لاجندة الممانعة والتلاعب بمسيرتها، وقد تقاطعت مع بعض انصار الاحزاب والشخصيات الوطنية وبعض الجنرالات المتقاعدين، ومجموعات جديدة كشباب المصرف و الحركة الشبابية للتغيير.

برنامجيا اتفقت المجموعات على امور ثلاث، “حكومة كفاءات مستقلة عن احزاب المنظومة” والدعوة لقيام “سلطة قضائية مستقلة” ول”إستعادة الاموال المنهوبة”، فيما تعددت المقاربات في موضوع السيادة ومعالجات الانهيار الاقتصادي والمالي.

اتفقت المجموعات على حكومة كفاءات مستقلة وقيام “سلطة قضائية مستقلة” و”إستعادة الاموال المنهوبة” فيما تعددت المقاربات في السيادة ومعالجات الانهيار الاقتصادي والمالي

اول انقسام في المقاربات بين المجموعات آنفة الذكر، هو فهم طبيعة السلطة القائمة، والاختلاف حول تثقيل الوزن الحقيقي للحريرية السياسية داخل المنظومة، فمنهم من اعتبر ان السلطة الحقيقية الاساسية في لبنان تعود للحريرية السياسية وجمعية المصارف، وان النجاح في اسقاط الحريرية والضغط على القطاع المصرفي، عبر التواطئ مع حزب الله او تحييده، وحتى مسايرته، يمكن ان ينجز اهداف التغيير واعادة تكوين السلطة، وقد انعكس هذا السلوك في قيام مجموعات كبرى من الحراك بالتعويل على حكومة حسان دياب واعطائها فرصة سماح انتظارا لإنجازاتها. وقد اثبتت الوقائع زيف هذا التقييم وخطأه، بل تبين لكل متابع ان الحريرية كانت اضعف اطراف المنظومة واكثرها هشاشة، وان حكومة حسان دياب التي تمظهرت كحكومة مستقلين مزيفين، كانت ستارا لأسوأ ما في المنظومة، ولاستنزاف ١٧ مليار $ كاموال صرفت من احتياط مصرف لبنان، بزعم كاذب لتخفيف معاناة اللبنانيين، فيما استعملتها بقية المنظومة، بعد استقالة الحريري، لامداد نظام الاسد بكل احتياجاته من السلع والمواد الاساسية، تجاوزا لعقوبات فرضتها اميركا عليه عبر قانون قيصر، وان ما تبقى من منظومة الفساد في ظل الانهيار حققت ارباحا من تهريب المواد المدعومة الى خارج لبنان، لا تقل عن ٧ مليارات $ اميركي. المحطة الثانية في خوض الصراع السياسي كانت الانتخابات النيابية، وهي انتخابات كانت نتائجها احكاما مبرمة وعادلة، قام المواطنون بإصدارها بكل اتجاه ولكل فئة: 

 تصويت عقابي، شمل كل دوائر لبنان الانتخابية لاطراف المنظومة واحزابها، وتمثل ب ٤٣٠ الف ناخب، يشكلون ربع من ادلو باصواتهم في صناديق الاقتراع رفضا للمنظومة. وتاييدا للوائح الجدية التي قدمتها الثورة ونوابا واحزابا انحازوا للتغيير لحظة انفجار الازمة، فيما ذهب حوالي ماية وعشرون الف صوت هدرا الى لوائح ثورية متنافسة لم تستطع بلوغ الحاصل الانتخابي ونيل مقاعد نيابية.·       تدني نسبي في كثافة التصويت في مناطق الثنائية الشيعية، على الرغم من عمليات التزوير والاكراه والترغيب،  وحملات القمع والتخوين التي تعرضت لها لوائح المعارضة، والتي مارستها احزاب الثنائية الشيعية.

كان يمكن لنتائج الانتخابات ان تكون عبرة للمجموعات التي نزعت للانفراد والتميز والنهج الانشقاقي، لكي تعدل اداءها وتعود الى سلوك التضامن والبحث عن المشتركات، والسعي لتوسيع اطار التحالفات، وكان يمكن للنتائج الهزيلة التي نالتها لوائح م.م.ف.د وبيروت مدينتي ( جناح صحناوي)، كما كان لفشل مرشحي حزب الكتلة الوطنية والمرصد الشعبي للفساد في دائرة بعبدا، وضعف لوائح التغيير في بعلبك الهرمل ودائرتي صور الزهراني وزحلة، كان يمكن لكل هذه النتائج ان ترسم خارطة للوحدة والتضامن، وتؤطر كتلة نيابية لنواب ١٧ تشرين قد يصل عددهم الى ٢٥أو ٢٦ نائبا، بعد جمع النواب الذين استقالوا بعد تفجير المرفأ ( كتائب، افرام، تجدد، مستقلين) او اللذين انحازوا الى قوى التغيير بعد حدوث الانهيار ( سعد، بزري، مسعد، ميشال ضاهر)  وهو امر لو جرى تنفيذه  لن يصنع من “نواب ١٧ تشرين” اكبر كتلة برلمانية تستند الى ساحات نضالية عابرة للمناطق والطوائف فحسب، بل ستؤهل “قوى التغيير” لتكون قاطرة سياسية تجر خلفها كل عربات الاحزاب والبنى السياسية، وتحدد جدول الاعمال الوطني ومراحل تطور الاحداث السياسية وايقاعاتها. ولم يكن مفهوما ابدا اعلان حصر التغيير فقط ب ١٣ نائبا شكلوا كتلة نيابية سرعان ما انكشف ارباكها وتعثرها وانقساماتها!!·        ولعلنا نسأل بهدف الحصول على اجوبة ما زلنا ننتظرها؛ والسؤال الاول هو ؛ ما هي المعايير التي اعتمدت لقبول الانتساب لهذه الكتلة، وما هي المعايير التي اعتمدت لرفض انتساب نواب آخرين لها !؟ · 

أما السؤال الثاني فهو ؛ هل كتلة نواب التغيير هي قيادة التغيير، فإن كانت كذلك فلتبين لنا خارطة طريقها للتغيير، عبر تحويل خطابها العام، الى اهداف محددة يمكن إنجازها، وان كانوا فقط نواب التغيير فليندمجوا بجبهة سياسية تحدد لشعب لبنان خارطة طريق تخرجه من الازمة!؟· 

هل كتلة نواب التغيير هي قيادة التغيير فإن كانت كذلك فلتبين لنا خارطة طريقها للتغيير عبر تحويل خطابها العام، الى اهداف محددة يمكن إنجازها؟

أما السؤال الثالث فهو ؛ اذا كانت ١٧ تشرين ثورة شعبية عابرة للطوائف والمذاهب متجاوزة لانقسامات ١٤ و٨ اذار، وتريد دولة مدنية حديثة، تدفن صراعات الطوائف وتطفئ اية شرارات لإشعال الحرب الأهلية، اذا كانت كل ذلك وهي حتما ينبغي ان تكون على هذه الصورة، فكيف لا تكون كتلتها النيابية عابرة للطوائف وعابرة للمناطق ومتجاوزة انقسامات الحرب وتواريخها وكل انقسامات اخرى؟!  اما الشرط الثاني لنجاح التغيير، وامساك الثورة بالسلطة وهزيمة اطراف المنظومة واسقاطها، فهو متعلق بتوافر الامكانيات المختلفة من  التمويل، والتجهيز والادارة، الى القدرة على حشد الجماعات والشرائح صاحبة المصلحة بالتغيير، واستمالة المتضررين من كارثة الانهيار، وتوافر خبرات في تنظيم الموارد البشرية والمالية، ورسم السياسات العامة واجتراح الحلول البديلة، وانعقاد تفاهمات مع حلفاء اقوياء، وهو أمر سيكون موضوع مقالة قادمة تعالج شروط قيام سلطة بديلة للمنظومة وأسباب تعثرها.

السابق
عون يهاجم بري و«يمنن» حزب الله بمار مخايل..وإفقار اللبنانيين مستمر!
التالي
نبيل قدوح و رحلة 55 عاماً «كاريكاتورياً»!