الحشد الشعبي واستنساخ نموذج الحرس الثوري في العراق

الحرس الثوري الايراني

في نهاية نوفمبر 2022، وافق مجلس الوزراء العراقي على طلب هيئة “الحشد الشعبي” تشكيل شركة عامة باسم شركة “المهندس” برأسمال قدره مئة مليار دينار عراقي، بما يسمح لـ “الحشد الشعبي” بالدخول بشكل أكثر وضوحاً في النشاط الاقتصادي والاستثماري في البلد. ويعود مسعى إنشاء هذه الشركة، الذي كانت تعطّله حكومة مصطفى الكاظمي، إلى سنوات مضت، ويتعلق بالسؤال المركزي الذي أثارته نهاية العمليات العسكرية الواسعة ضد تنظيم “داعش” في نهاية عام 2017 وهو: ما مصير “الحشد الشعبي”؟ 

خيارات التعامل مع «الحشد الشعبي»

أثار السؤال السابق أزمةَ هوية للحشد الشعبي، وللتعامل مع هذه الأزمة طُرحت ثلاثة خيارات مختلفة، كما يأتي: 

الأول، دعا إلى حلّ “الحشد الشعبي” وتوزيع مُنتسبيه على بقية المؤسسات الأمنية، على اعتبار أنّه كيان تطوعي أُنشئ في ظروف خاصة لم تعد قائمة، وقد تبنى مقتدى الصدر –وإنْ بشكل مُلتبس– هذه الدعوة في بعض الأحيان، وشاركته فيها بعض القوى المدنية. 

الثاني، تبنّى فكرة الإبقاء على وجود “الحشد الشعبي” كأمر واقع قنّنه تشريعٌ صادر من مجلس النواب في نوفمبر 2016، لكنْ مع إعادة هيكلته وتشذيبه وإنهاء نفوذ الفصائل المسلحة عليه ووضْعه تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة بشكل فعلي، وهو موقف حكومتَي حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي، وتناغم معه مقتدى الصدر والقوى السنية أحياناً. 

اقرأ أيضاً: السوداني في طهران: ما الذي كشفته زيارة رئيس الوزراء العراقي الأولى لإيران؟

الثالث، تبنّى فكرة توسيع دور “الحشد الشعبي”، وتحويله إلى المؤسسة المسؤولة عن الدفاع عن “النظام”، وتوسيع أدواره المدنية بهدف أن يصبح مركز القوة الأساسي لنظام تصاعدت فيه هيمنة القوى الإسلامية الشيعية وسرديتها السياسية والأيديولوجية. ودعمت هذا الخيار هيئة “الحشد الشعبي” ومعظم الفصائل الرئيسة فيه، وبعض القوى الشيعية التي تبحث عن طرف قادر على الدفاع عن “النظام” بمواجهة الحركات الاحتجاجية وكذلك للتعامل مع التهديد الذي يشكله مقتدى الصدر. 

وقد أفْضت التحولات السياسية الأخيرة، ونجاح “الإطار التنسيقي” في تشكيل الحكومة الجديدة، حكومة محمد شياع السوداني، إلى تغليب الخيار الثالث، أي خيار “الحشد باقٍ ويتمدد”. وهناك عدد من المتغيرات التي قادت إلى ذلك، في مقدمتها الأزمة السياسية الأخيرة بين “التيار الصدري” وقوى “الإطار التنسيقي” القريبة من طهران، والتي عزّزت شعور الأخيرة بالحاجة إلى تكريس وجود ذراع عسكرية قوية لحمايتها. وقد أسهمت المحاولة الصدرية “الطائشة” باجتياح المنطقة الخضراء في أغسطس الماضي، ونجاح بعض فصائل “الحشد الشعبي” المتموضعة هناك في التصدي لها، في تعزيز الاقتناع بضرورة أن يلعب “الحشد الشعبي” دور الحامي للنظام، أي النظام الذي يخضع لهيمنة القوى الإسلامية الشيعية القريبة أو الصديقة لإيران، ومنظومة مصالحها العامّة، وسرديتها الأيديولوجية. كما أنّ هذا الخيار يأتي كحلّ لإشكالية فائض القوة لدى فصائل “الحشد الشعبي”، لجهة أنه يسمح لها بلعب أدوار أوسع من دون أن تكبّلها المعادلة السياسية التي تُنتجها الانتخابات البرلمانية، بحيث يكون لوجود “الحشد الشعبي” ونفوذه استقلالية عن تلك المعادلة التي أشعرت قادة الفصائل بالتهديد مع خسارتهم الانتخابات الأخيرة. 

بهذا المعنى، فإنّ خيار تكريس الحشد وتوسيعه إنّما يكرس أيضاً طبيعة النظام السياسي في العراق كنظام هجين من زاويتين: الأولى، من جهة أنه يؤسس عراقياً لما هو معروف في الحالة الإيرانية من اختلاف بين “النظام” و”الحكومة”، حيث تكون مهمة الحشد هي حماية النظام وليس بالضرورة الحكومة، ويسمح للحكومة بمساحة حركة محدودة لا تهدد منظومة المصالح العميقة لقوى النظام. والزاوية الثانية من خلال تأكيد وجود مسارين متوازيين ومتداخلين أحياناً، مسار العملية السياسية التي لا تزال متمسكة بـ “القشرة الدستورية” والممارَسة الانتخابية كإجراء روتيني، ومسار القوة على الأرض الذي يعكسه النفوذ الواسع للفصائل. 

اقتصاد الحشد الشعبي.. مزايا وتحديات

بدخول “الحشد الشعبي” العملية الاقتصادية رسمياً، فإنّ محاولة خلق نموذج مشابه للحرس الثوري في إيران تقطع خطوةً مهمة للأمام. وقد سبق هذا الدخول نشاطٌ مكثف للحشد الشعبي للعب أدوار خدمية وأمنية، وبشكل خاص عبر ما يُعرف بالجهد الهندسي للحشد، الذي تولى القيام بنشاطات خدمية وعمليات بناء وترميم للشوارع والطرق والجسور، تصحبها حملات دعائية مكثفة من الجهاز الإعلامي الضخم المرتبط بـ”اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” التابع لإيران، وجيوشه الإلكترونية، لرسم صورة مثالية عن “الحشد الشعبي” كمؤسسة قريبة من الناس وهمومهم وتعمل بروح تطوعية وانضباطٍ عالٍ، في محاولة لكسب الجمهور وتعزيز القوة الناعمة للحشد. 

ومن المتوقع أن تحظى “شركة المهندس” بامتيازات خاصة بوصفها شركة حكومية، لكنها أيضاً مدعومة بالقوة القسرية لفصائل الحشد، وبنجاح الأخير في تأكيد وضعه كمؤسسة غير خاضعة للمراقبة أو المحاسبة القانونية أو القضائية. وهذه الامتيازات يمكن أن تؤمّن للشركة عقوداً مجزية وموارد ضخمة تساعد “الحشد الشعبي” في مشروعه للتغلغل المجتمعي، ولتوسيع شبكته الزبائنية، وبناء اقتصاد موازٍ مرتبط باقتصاد “الحرس الثوري”. ومن المعلوم، أن القيادة الحالية للحشد نجحت في الآونة الأخيرة في بناء علاقات مع رجال أعمال وواجهات اقتصادية ومالية لتستثمرها سياسياً. 

ويبدو أنّ الغاية هي أن يتحول “الحشد الشعبي” إلى جهاز عسكري-اقتصادي-أيديولوجي ضخم، كالحرس الثوري، وأن يصبح فاعلاً اقتصادياً رئيساً، ليتنافس مع اقتصادات مُوازية أخرى مثل اقتصاد العتبات، الذي تشرف عليه إدارات العتبات الشيعية المقدسة، المقربة من الهيئة الدينية في النجف، والشبكات الاقتصادية التي بنتْها قوى سياسية-اجتماعية أخرى، مثل التيار الصدري والحزبين الكرديّين. لكن اقتصاد “الحشد الشعبي” قد يحظى بميزة إضافية، هي تحالفه المباشر مع الحرس الثوري الإيراني بشكل يمكّنه من الاستفادة من موارد الأخير وخبرته في بناء الاقتصاد الموازي وشبكة علاقاته الخارجية. 

لكن هذه الميزة قد تتحول أيضاً إلى عبء لأنّها قد تُعرض “شركة المهندس”، وغيرها من المؤسسات الاقتصادية التي يسعى الحشد إلى تشكيلها، لعقوبات اقتصادية أمريكية وغربية، وقد تؤثر تلك العقوبات في العملية الاقتصادية والمالية في العراق التي لا تزال تعتمد بشكلٍ أساسي على تدفق الدولار الأمريكي إلى السوق العراقية. وقد يسرّع من هذا الاحتمال قيام “الحشد الشعبي”، مُستعجلاً الاستثمار في التوازنات القائمة والفرص التي أتاحها له تشكيل حكومة مدعومة من “الإطار التنسيقي”، إلى مزاحمة مصالح اقتصادية لجهات أخرى لها ارتباطات خارجية وغربية، وتحويل تلك الجهات إلى خصوم ولوبيات ضاغطة باتجاه مراقبة النشاطات الاقتصادية للحشد ومعاقبتها. 

كما لا ينبغي أن ننسى أنّ “الحشد الشعبي” مازال هيئةً من عدة رؤوس، تتنافس في داخله زعامات الفصائل والقيادات الميدانية والإدارية، وأنّ التمدد في المجال الاقتصادي قد يعمّق هذه المنافسات، وقد يتسبب بتمردات من قبل الأطراف التي تشعر أنّها لم تستفد من العوائد. 

لكنْ، إن نجح “الحشد الشعبي” في تخطي هذه التحديات، واستثمر العوائد الاقتصادية لتعزيز مركزية القرار والتخلص من الأطراف غير الموثوقة، فإنّ تغلغله المحتمل في العملية الاقتصادية وفي إدارة وتوجيه الريع النفطي العراقي، قد يدشّن مرحلة جديدة في توازنات القوة في العراق، تنعكس بدورها على طبيعة النظام السياسي الذي يصبح تدريجياً أكثر قمعيةً، وأقل دستورية، وأكثر خضوعاً لقوى الأمر الواقع وجيوشها الموازية، المدعومة باقتصاد مُوازٍ وبعقيدة موازية. 

السابق
السوداني في طهران: ما الذي كشفته زيارة رئيس الوزراء العراقي الأولى لإيران؟
التالي
مصرف لبنان يعلن رفع سعر دولار صيرفة.. كم أصبح؟