وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: معركة الرئاسة..اختيار بين المسارات لا الرئيس

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

يخرج حزب الله تدريجياً عن صمته في ملف الرئاسة، ليُفصح عن شروط المرشح الذي يمكن انتخابه رئيساً للجمهورية.  مواصفات لا تُفهم وتُترجم إلا أن يكون المرشح الكفؤ حليفاً للحزب وفي خط “ممانعته”. بالتالي هو مسعى منه لتعويم مرشحه الضمني الذي لم يصرح بإسمه في الفترات الاولى، لكي يرفع حظوظ مرشحه في المراحل المتأخرة ولا يحرق اسمه في بازار القبول والرفض العبثي، ولغرض اختبار عزم وفاعلية المكونات النيابية المعارضة له، التي أظهرت تخبطاً في أدائها وفشلاً في الاتفاق على مرشح مشترك بينها.
بات واضحاً أن معالجة الكارثة الاقتصادية لم تكن أولوية عند حزب الله ولن تكون.

فخطاب قادته وأداء نوابه بالتنسيق المتّقن مع حلفائه، يوحيان أن لعبة السياسة لم تعد مقيّدة بقواعد وموجبات المصلحة العامة، أو مراعاة مصلحة من يمثلهم نواب الأمة، بل هي بالدرجة الأولى إبقاء ترتيب سياسي وأمني نجح حزب الله في ترسيخه بعد اتفاق الدوحة، الذي قوامه أمرين: أولهما تحييد سلاحه عن أي بحث أو نقاش أو مساءلة داخلية، وثانيهما منح الحزب اليد العليا في تقرير الأمور السيادية والمصيرية، والتي كان آخرها اتفاق الترسيم مع إسرائيل.

الرئاسة الأولى فتملك وفق حقها التعطيل التحكم بتركيبة وتكوين الحكومة نفسها قبل أن تصبح رسمية وقبل أن تمارس عملها

أدرك حزب الله أن موقع الرئاسة الأولى، يشكل صمّام أمان له ضد المتغيرات الداخلية والضغوط الخارجية. فإذا لم يكن الرئيس يملك صلاحيات تنفيذ، فإنه يملك قدرة صدّ ومنع، وصلاحية إيقاف مجرى الحياة العامة وتعطيلها، ما لم تكن متوافقة مع تصور مسبق وإيقاع مدبر، وتوزيع مهندس للنفوذ والمواقع والمناصب، فضلا عن التحكم بتدفقات المراسيم والقوانين. صحيح أن الرئيس لا يملك سلطة إصدار الأمر لوحده، لكنه قادر على إحداث الفراغ وإيقاف سير الحياة العامة، أي تعطيل الدولة بكاملها، وهذا كافٍ لممارسة ضغوط وتحقيق مطالب وفرض شروط مسبقة، ووضع قيود وأطر مسبقة لكل مستويات صناعة القرار.

بل إن الرئاسة باتت بالنسبة لحزب الله، أهم من الثلث المعطل الذي أنتجه اتفاق الدوحة. فالثلث المعطل قادر على إقالة الحكومة، أي هو تدبير لاحق على تشكيل الحكومة ولا يدخل في صميم تكوينها، وهو بمثابة ملاذ تعطيلي للمعترضين على سير الحكومة.  هو إجراء بات بالإمكان الاستعاضة عنه في حال عدم توفره باستقالة وزراء الشيعة من الحكومة، تحت حجة تأويل سيء فيه الكثير من الخفّة في فهم الدستور والاستخفاف بروحيته، بأن: “الحكومة تصبح مع استقالة وزراء مذهب معين فاقدة لميثاقية العيش المشترك بالتالي لا تعود دستورية”.

معركة الرئاسة الحالية ليست معركة انتخاب رئيس للجمهورية بل معركة الاختيار بين مسارات ووضعيات وترتيبات تقرر مصير لبنان الآتي

  أما الرئاسة الأولى فتملك وفق حقها التعطيلي، التحكم بتركيبة وتكوين الحكومة نفسها قبل أن تصبح رسمية وقبل أن تمارس عملها، ما يعني أنها ضامن أولي وبدئي، يحول دون إمكانية المجيء بحكومة لا تطابق وصفة مُفصَّلة مسبقاً من حزب الله، تتقيد به الحكومة وتعمل وفق توجيهاته.  باختصار الثلث المعطل يهدد بقاء الحكومة الموجودة، أما الرئاسة فتملك سلطة وصلاحية التدخل، في أصل تكوينها وتركيبتها، أي صلاحية أن توجد أو لا توجد. 

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اتفاق الطائف من الافتراض إلى الحقيقة

هذا يفسر لنا السبب الذي يجعل حزب الله ينظر إلى رئاسة الجمهورية، بصفتها الموقع السيادي الأول في لبنان، مدرجة ضمن نفوذه، ليكون صاحب القول النافذ والأخير في تسمية مرشحها الأكثر حظاً.  بالتالي فإن التجربة الناجحة في فرض ميشال عون رئيساً، لم تكن مجرد تجربة أولى، بل تحولت إلى مكسب غير قابل للانتزاع، يعمد الحزب إلى ترسيخه عرفاً سياسياً ملزماً للجميع.

من هنا، فإن تجربة انتخابات الرئاسة الحالية هي المفصل: بين أن يكسب حزب الله جولتها، لتصبح عادة مألوفة، ومداراً ومعياراً لتداول السلطة وانتقالها، وجزء من لعبة سياسية رسخت نفسها بنفسها، وبين أن يخسر حزب الله تلك الجولة بعد أن تتمكن القوى السيادية والتغييرية تصويب وجهتها وأولوياتها، ترشيد قراراتها، التمييز بين ما هو استراتيجي ومرحلي، مبدئي وفعلي، شخصاني ووطني، ما هو ممكن وما يجب أن يكون.

التجربة الناجحة في فرض ميشال عون رئيساً لم تكن مجرد تجربة أولى بل تحولت إلى مكسب غير قابل للانتزاع يعمد الحزب إلى ترسيخه عرفاً سياسياً ملزماً للجميع

معركة الرئاسة الحالية ليست معركة انتخاب رئيس للجمهورية، بل معركة الاختيار بين مسارات ووضعيات وترتيبات تقرر مصير لبنان الآتي، بين مسار يشق طريقه بثقة في ترسيخ عرف سياسي رديف للدستور، وقواعد لعبة سياسية مقوّضة للديمقراطية، ومبادىء شرعية من خارج النصوص المعمول بها، تدعمها معطيات فائض القوة الحالية.  وبين مسار يدعو إلى دولة كاملة السيادة، وحياة ديمقراطية ناشطة،  وسياسة متقيدة بالنصوص، وشرعية تمثيل شفافة. لكنه مسار ما تزال القوى والتيارات المطالبة به عاجزة عن ردم الهوة بين خطابها وواقعها، بين طموحاتها وأدائها، بين مبادئها وحساباتها الشخصية.

السابق
آخر بدع الحكومة..السجل العدلي بخمسين الف ليرة!
التالي
رغم الاعتراضات والشوائب القانونية..صدور موازنة 2022 في الجريدة الرسمية!