وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اتفاق الطائف من الافتراض إلى الحقيقة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

قد لا يكون اتفاق الطائف مثالياً، وقد يتطلب مراجعة أو تعديل العديد من بنوده ومواده، مثله مثل أي دستور في العالم. لكن الحديث عن تغييره في هذا الظرف هو قفزة مرعبة في الهواء، بل إن الحديث عن أي مؤتمر وطني يجمع القوى والفاعليات لنقاش صيغة جديدة للانتظام السياسي العام في لبنان، هو في عمقه استثمار لحال الخلل في موازين القوى، والاستفادة من ترهل بل تفكك الدولة، وترسيخ لواقع سياسي وأمني ينافي في منطقه وطبيعته، مفهوم الدولة وأصول العملية الديمقراطية، ومقتضيات الحضور الوازن والمنصف لمكونات المجتمع اللبناني كافة.
استطاع الطائف، أن ينهي الجدل المزمن حول هوية لبنان وانتمائه وعمقه.

فالعروبة التي ظلت مصدر قلق وخوف شريحة معتبرة من اللبنانيين، بحكم ارتباط مفهومها بقيادات استبدادية وأحزاب ذات طبيعة شمولية، تم اعتبارها حقيقة مقومة للبنان، لا بمعناها الأيديولوجي أو التأويلات الماركسية لها أو الاقتباسات الألمانية لمكوناتها ومعناها، بل بصفتها مدى مفتوح ومجال نشاط منتج، وشبكة مصالح مرنة وأطر علاقات مطواعة. بالتالي لا تعود العروبة انتماء لعقيدة أو دين مخصوص، أو انخراط في مشاريع انقلابية أو ثورية، بل مدى حيوي للإبداعات والمبادرة الحرة في لبنان، تعوض على أهله ضيق مساحته وقلة موارده.

بقدر ما أنهى الطائف جدل الماضي وارتباكاته، فقد وضع أرضية صلبة لانتقال هادىء وسلس، من نظام طائفي إلى نظام مدني. فالتحول لا يكون دفعياً، إذا لم يكن المجتمع جاهزاً له، وإلغاء الطائفية ليست مجرد وصفة، بل عملية معقدة من الحذف والإضافة، الإزالة والبناء، التخلي والاعتماد. هي عملية لا تقتصر على الإجراءات القانونية والترتيبات السياسية، بل تتطلب ذهنيات مختلفة، ونظم علاقات جديدة داخل المجتمع، بل تتطلب طرق تفكير وفهم وتفسير متحررة من الأسر الطائفي، ومنعتقة من الكهف القبلي.

بقدر ما أنهى الطائف جدل الماضي وارتباكاته، فقد وضع أرضية صلبة لانتقال هادىء وسلس، من نظام طائفي إلى نظام مدني

لهذا فقد نص الطائف على أن عملية إلغاء الطائفية، منوطة بالرموز الرسمية والفاعليات الاجتماعية والثقافية. أي هي عملية سياسية ومجتمعية معاً، تتحقق لا بالقرارات والتشريعات والنصوص الدستورية، بل بالتحول المجتمعي والتغير في الذهنيات والتبدل الجوهري في الولاءات والمتحدات.

اقتراح مجلس الشيوخ لم يصمم لحماية طائفة أو دين بعينه، بل لترسيخ سمات لبنان الاساسية وهي: التعددية الدينية، والتنوع الثقافي، وإبقاء الاختلاف

حاذر اتفاق الطائف أن يكون إلغاء الطائفية، وسيلة لتحقيق غلبة عددية من طائفة أو دين على طائفة أو دين آخر. فالطوائف مكونات حقيقية لا مصطنعة، هي نتاج تاريخ طويل من التكون البطيء، وذاكرة مفعمة برغبة البقاء والصمود وحب الحياة. بالتالي كان مجلس الشيوخ الوسيلة الناجعة، التي تحول دون صيرورة الحياة السياسية لعبة طائفية، أو توسل الكثرة العددية مجال غلبة وحذف وقهر. كأن الاتفاق لحظ إنشاء مجالين مستقلين: مجال سياسي تحركه الميول والقناعات الفردية، وتوافقات النقاش العام المتصل بالمصالح العامة، وهو مجال يوسع دائرة الفرد ويطلق حريته ويعمق استقلاليته، ومجال ثقافي يحفظ للبنان خصوصيته وتمايزه الديني والتعددي، وهو مجال يلحظ الوعي والهوية الجمعية والذاكرة التاريخية. ما يعني أن اقتراح مجلس الشيوخ لم يصمم لحماية طائفة أو دين بعينه، بل لترسيخ سمات لبنان الاساسية وهي: التعددية الدينية، والتنوع الثقافي، وإبقاء الاختلاف واسعاً إلى أبعد مداه.

لم يكتف الطائف بالدعوة إلى إلغاء الطائفية، بل حدد معالم نظام ديمقراطي ليبرالي. فالتمثيل أساس الحياة السياسية، والمبادرة الفردية الحرة شرط أي نشاط اقتصادي، وحرية المعتقد والتعبير والرأي والتجمع، حقوقاً مصانة ومكرسة تكريس المقدس، والثابت الذي لا يقبل التغيير أو التعديل.

بالتالي فإن الطائف طرح كامل موجبات الوصفة الديمقراطية والليبرالية، لكنه ربط تحققها الكامل بتوفر شروطها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، أي ربط تحققها بتحول وتطور موازين في المجتمع، بحكم أن الليبرالية والديمقراطية يأتيان ويتحققان معاً ويذهبان ويتقوضا معاً.

ما فعله الطائف أنه عطل مفاعيل الحرب ورسخ معالم وثوابت الكيان اللبناني ورسم خارطة طريق للانتقال إلى الدولة القوية

ما فعله الطائف أنه عطل مفاعيل الحرب الأهلية، التي امتدت لأكثر من ثمانية عشر عاماً، رسخ معالم وثوابت الكيان اللبناني، ورسم في الوقت نفسه خارطة طريق للانتقال إلى الدولة القوية والنظام الديمقراطي-الليبرالي، وإزالة كل آثار الطائفية من الحياة العامة، أي تحقيق انتظام عام قوامه الفرد- المواطن بصفته كائناً عاقلاً غير قاصر، وحراً قادراً على تقرير مصيره، بنحو منفصل ومستقل عن إملاءات الطائفة والدين.

ما حصل أن الطائف تم تعطيله منذ لحظة صدوره، فالوجود السوري بأدائه وإملاءاته كان حكم وصاية في الأحسن وحكم احتلال في الأسوأ

ما حصل أن الطائف تم تعطيله منذ لحظة صدوره، فالوجود السوري بأدائه وإملاءاته كان حكم وصاية في الأحسن وحكم احتلال في الأسوأ. بالتالي لم يتسنَّ خلق دينامية مجتمعية، ولا نهضة سياسية ذات محركات داخلية وبواعث ذاتية.

بالدعوة إلى مؤتمر وطني لغرض: استثمار الخلل في موازين القوى الداخلي، وتحويله إلى قواعد غلبة راسخة ومشرعنة

بالتالي دخل اتفاق الطائف في طور الإرجاء المدمر والقاتل لأية مبادرة أو حيوية أو نزعة استقلالية. وهو تعطيل استمر بعد الانسحاب السوري، لتبدأ بعده، لا ورشة إطلاق الطائف ووضع مقترحاته على سكة التنفيذ، بل بدأ مسار مناقض لاتفاق الطائف، يقوم على توظيف فائض القوة في الداخل بعدما كان لأغراض تحرير ومقاومة، وعلى حلف أقليات ضد أقليات أخرى لتعزيز منطق الغلبة والقهر، وعلى إخراج لبنان من مرجعيته ومداه العربيين، وإدخال مرجعيات ومديات وثقافات غريبة، بل مناقضة لطبيعة الكيان اللبناني وثوابته.

هي مساع توجت: باتفاق الدوحة الذي رسخ عرفاً موازيا ورديفاً للدستور، وبالدعوة إلى مؤتمر وطني لغرض: استثمار الخلل في موازين القوى الداخلي، وتحويله إلى قواعد غلبة راسخة ومشرعنة، ولتقديم تعريفات جديدة ومغايرة، بل مناقضة لحقيقة الكيان اللبناني الذي نعرفه في هويته وقيمه وثوابته، وعادات مجتمعه وتقاليده وأنماط عيشه.

الدعوة إلى التمسك باتفاق الطائف منطلقاً لأية نهضة أو ورشة إنقاذية

من هنا فإن الدعوة إلى التمسك باتفاق الطائف منطلقاً لأية نهضة أو ورشة إنقاذية، بخاصة الدعوة الأخيرة التي أطلقت في الأونيسكو، هي: لتأكيد ثوابت وحقيقة الكيان اللبناني التي لا يمكن القفز فوقها، أو طرحها للنقاش وإعادة النظر، هي للحؤول دون الانتقال إلى لبنان آخر غريب علينا، هي للتأكيد، على أنه وبدلا من نقاش جدوى اتفاق الطائف أو البحث عن بديل له، لا بد من التفكير والبحث والاجتهاد في تفعيل آلياته وتنفيد مقترحاته المعطلة، وربما تعديل ما يلزم لردم الفجوة الزمنية بين صدوره والراهن الحالي. أي نقله من حال الافتراض إلى حال الواقع والحقيقة، ومن حال النص المقفل والمغلق إلى حال المعنى والدلالة الفائضين.

السابق
السيد الأمين يُثني على دعوة شيخ الأزهر للحوار «الإسلامي الإسلامي»: يُضعِف «الإسلاموفوبيا» في العالم!
التالي
بدون علم الركاب.. سائق فان يروج المخدرات في الضاحية وكمين للشرطة القضائية يضبطه في الجمهور!