القصة الكاملة في ذكرى «ثلاثية الثورة»..17 تشرين vs «العصابة المنظمة»!

17 تشرين
مرت الشهر الماضي الذكرى الثالثة لثورة 17 تشرين، وسط إنقسامات ضربت تكتل النواب التغييريين، تمثلت بدايةً بخروج النائب ميشال الدويهي من التكتل، تبعه بعد أيام النائب وضاح الصادق، على خلفية الخلاف حول طريقة الممارسة السياسية التي بدأت منذ أيار الماضي بعد الإنتخابات النيابية، والتي واجهت عدة صعوبات وعقبات، جعلت من هذا التكتل - ومعه بقية أطراف المعارضة - وكأنه مجرد "شاهد زور"، على ما يحصل داخل المجلس النيابي والبلد عامة، من إستمرار منطق المحاصصة بين أطراف المنظومة السياسية، التي أُفضِّل أنا شخصياً تسميتها ب "العصابة المنظمة" لكون هذه التسمية هي أقرب إلى الواقع المعاش للأسف.

الواقع بأن هذه المسيرة التي بدأت يوم 17 تشرين، والتي هي – من وجهة نظري على الأقل – من أنبل الظواهر التي سطعت في سماء هذا الوطن، بعد جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية للإحتلال الإسرائيلي، التي بدأت يوم 16 أيلول 1982، وتكللت بتحرير الجنوب في 25 أيار 2000، وثورة  الأرز في 14 آذار 2005 التي أخرجت قوات النظام السوري من لبنان – بغض النظر عن مآلات هذه الظواهر فيما بعد – هذه المسيرة التي إنطلقت بقوة وعزم على التغيير تحت شعار “كلن يعني كلن” في البداية، بدأ تراجعها للأسف عندما إعتقد البعض من “الثوار”، أصحاب الأجندات السياسية المختلفة، بأنها إنتصرت وحققت هدفها – الذي كان في الحقيقة هدفهم هم – بإستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، وتكرَّس هذا التراجع مع الهجوم المضاد السياسي والميداني الذي قامت به أحزاب المنظومة، وذلك عبر تشكيل حكومة حسان دياب، بعد إفشال مساعي مصطفى أديب، الذي لم يستطع تشكيل حكومة مستقلة ولو نسبياً عن أحزابها، وكذلك عبر القمع الذي مارسته في الشارع مجموعات حزب الله، التي شكلت رأس الحربة في التصدي للثورة، نيابة عن “العصابة”.هذا الهجوم المضاد الذي نجح بفرض حكومة حسان دياب وقبول البعض ذاته من “الثوار” بهذه الحكومة.

الثورة مكانها الشارع وليس مجلس النواب ومقولة التغيير من الداخل لا تصح في بلد كلبنان

، وهذا الواقع – ولو من دون إعلان صريح – عبر تأييد خطوتها بعدم دفع سندات اليوروبوند، التي كانت القشة التي قصمت ظهر الوضع المالي، وكذلك الإنسحاب من الشارع بذريعة كورونا، وما ذلك سوى إستجابة لشعارات شعبوية وإيديولوجية لدى البعض، ولأهداف تكتيكية في الصراع السياسي الداخلي لدى البعض الآخر. هذه التطورات يومها أظهرت، بأن هناك أكثر من تيار ضمن 17 تشرين، أو لنقل ضمن الذين إدَّعوا أبوتهم لها، الأول تيار مدني من الناس العاديين المتضررين من سياسات “العصابة الحاكمة”، وغالبيتهم من الطبقة الوسطى من غير المسيسين أو  الإيديولوجيين – إلا إذا إعتبر البعض الطبقة الوسطى أيديولوجيا بحد ذاتها – ومعهم البعض من الطبقة الشعبية، التي كانت قريبة من قوى 14 آذار سابقاً، قبل أن تخذلها قيادات هذه القوى إلا أنها بقيت على مبادئ ثورة الأرز.

وهؤلاء كان همهم التغيير في الممارسة السياسية القائمة على الفساد والمحاصصة، وتبادل المصالح بين أطراف “العصابة”. والثاني يمكن أن نصنفه على أنه تيار اليسار الراديكالي،  هو الأعلى صوتاً والأكثر حركية ربما، ويضم الطبقات الشعبية المؤدلجة – إذا صح التعبير – والتي هي بالأصل كانت في السنين الماضية ولا تزال، أقرب لطروحات قوى 8 آذار السياسية والعقائدية، هذا التيار يرى بأن السياسات المالية وحدها، هي التي أوصلت الوضع إلى ما وصل إليه، من دون أن يعير كبير إهتمام للفساد المالي والسياسي، الذي كان له اليد الطولى في ما آلت إليه الأمور، وذلك عبر التعطيل الذي ضرب الحياة السياسية.

أقله منذ العام 2011 تاريخ إستيلاء فريق 8 آذار على السلطة، عقب الإنقلاب على حكومة سعد الحريري يومها وهو هنا – للمفارقة – يلتقي مع طروحات التيار الوطني الحر، كما أنه يحيِّد سلاح حزب الله وتأثيراته على الواقع السياسي والإقتصادي، سواء من حيث تدمير علاقات لبنان العربية ومع العالم، أو من خلال عمليات دعم التهريب، أو غض النظر عنه سواء في المرفأ أو المطار أو المعابر الشرعية منها وغير الشرعية، وهو هنا أيضاً يلتقي مع طروحات حزب الله وفريق 8 آذار – سواء عن قصد أو عن غير قصد – .

تيار اليسار الراديكالي هو الأعلى صوتاً والأكثر حركية ويضم الطبقات الشعبية المؤدلجة وهي بالأصل كانت في السنين الماضية ولا تزال أقرب لطروحات قوى 8 آذار السياسية والعقائدي

 

التيار الثالث هو الإتجاه المعاكس لهذا اليسار، ألا وهو اليمين المتمثل بالقوات اللبنانية، وغيرها من الشخصيات الذين يرون بأن العقدة الأساس، هي وجود سلاح حزب الله وتبعيته للمحور الإيراني وسياساته، التي ترمي بثقلها على الوضع العام في البلد، وبأن الحل يبدأ من  مواجهة هذا الواقع الذي يعرقل كل إصلاح أو تغيير حقيقي، في الوقت الذي يحاولون أن يظهروا فيه ك “إمرأة قيصر” في التعفف والبعد عن الفساد، بالرغم من مشاركتهم في السلطة والتحالفات – ولو نسبياً – التي شكلت هذه السلطة، وسكوتهم ” أقله ” عن بعض الممارسات التي أوصلت الوضع إلى ما آل إليه.  هكذا وقعت ” الثورة ” بعنوانها المدني المطلبي، بين مطرقة وسندان الراديكاليين من اليسار واليمين، وبدا وكأن شعار “كلن يعني كلن” إنما كان من – جانب هذين الفريقين على الأقل ولكل أسبابه –  مجرد خدعة، بهدف إزاحة سعد الحريري الشخص بما يمثِّل من السلطة – أو هكذا يرى البعض من مؤيديه وأبناء بيئته – خاصة وأن البديل الذي نُصِّب خلافاً لرأي طائفته، كما هي العادة مع المراكز الأخرى في الدولة – بغض النظر عن موقفنا الشخصي من هذه الممارسة – لم تكن سياسته الإقتصادية والمالية ناهيك عن سياسته الخارجية بأفضل حال.

بل كانت سياسة عشوائية في الداخل والخارج بحيث قضت داخلياً، على البقية الباقية من الإحتياطي النقدي، التي صرفها على سياسات شعبوية دون أدنى تخطيط أو خطة، وقضت خارجياً على الباقي من رصيد كان لا يزال يتمتع به لبنان مع محيطه والعالم، كما أن الحريري – ودائماً بحسب مؤيديه – كان هو الأقرب لمطالب الناس، وأن إستقالته رغماً عن أطراف باقي المنظومة والتي دفع ثمنها إستبعاداً فيما بعد عندما أفشلوا بكل الطرق تشكيله حكومة جديدة، كان يمكن أن يُبنى عليها وتشكل عامل ضغط أكبر عليها لو أُحسن إستثمارها بالسياسة. هذا الإتفاق الضمني – إذا صح التعبير – ضد سعد الحريري بين هذين التيارين، لم ينسحب على بقية القضايا التي كان حولها خلاف عميق كان للأسف الشديد مقتل ثورة 17 تشرين وتحولها إلى 14 آذار أخرى، لدرجة أن زلزال المرفأ لم يفلح في إعادة إحياء جذوتها، فإنفضت الأكثرية الصامتة من حولها وذهب كلٌ في طريق باحثاً عن لقمة عيشه وعن مستقبل له ولأولاده، وإقتصر الأمر بعدها على تحركات موضعية هنا وهناك، من قبل كل من التيارين المؤدلجين وبحسب مصلحة كل منهما، تُرك بعدها أهالي الضحايا وحدهم في مواجهة هذه ” العصابة المنظمة” التي إنقضَّت هذه المرة على القضاء.

وكادت أن تأخذ البلد إلى حرب أهلية جديدة في عدة محطات، سواء في ذكرى الإنفجار الأولى حيث دخل البعض من أنصار اليسار “إياه” إلى مناطق اليمين “إياه” بشعارات لا تمت للذكرى بصلة مثل “سمير جعجع صهيوني”، فكان رد فعل عنيف من قوى اليمين، أو في أحداث الطيونة العام الماضي التي أسفرت عن قتلى ومصابين. وبدلاً من محاولة ” إصلاح ” ما إعترى الثورة من خلل، هي التي جاءت لمحاولة “إصلاح” النظام، أو محاولة إيجاد قواسم مشتركة أقله مع التيار المدني القريب، من تطلعات ومبادئ 14 آذار للعودة إلى الشارع في مواجهة اليسار الراديكالي، ذهب البعض من اليمين وهو هنا القوات اللبنانية إلى المطالبة وبإصرار غريب بإنتخابات نيابية مبكرة، بشكل بدا وكأنها – أي القوات – تعيش في كوكب آخر وليس في لبنان، وبأنها إختارت مرة أخرى ممارسة التكتيك السياسي، عبر تقديم صراعها مع التيار الوطني الحر، وسعيها وإصرارها أن تكون الكتلة المسيحية الأولى في البرلمان، على حساب الإستراتيجيا التي كانت تقتضي  إستقطاب أوسع قطاع من التيار المدني في الثورة – على صعوبة المهمة – ولو عبر بعض التنازلات التي تهدِّئ من هواجس هذا الطرف من محاولة “مصادرة” ” الثورة لصالح القوات، التي يعتبرها البعض – سواء عن حق أو باطل – جزء لا يتجزأ من المنظومة السياسية خاصة بعد مسؤوليتها عن وصول ميشال عون إلى السلطة، بعد تفاهم معراب الشهير. هذا المسار الطويل والمتعثر على مدى ثلاث سنوات، قد يفسر ما نحن عليه اليوم من إنقسامات، ما بين التغييريين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين من يطلقون على أنفسهم السياديين والمستقلين من جهة أخرى، على الرغم من تحقيق بعض المكاسب في الإنتخابات النيابية – بغض النظر عن رأينا بمدى فعاليتها – التي جاءت مرة أخرى بغالبيتها، جراء تعليق سعد الحريري لعمل تياره السياسي وعدم مشاركته في الإنتخابات، هذه الإنقسامات التي تُرجمت تخبطاً وعدم جدية كي لا نقول عدم مسؤولية – خاصة من تكتل التغيير – في التعاطي مع المسائل المطروحة في المجلس النيابي، من إنتخابات نائب رئيس المجلس النيابي حتى إنتخابات اللجان، والطامة الكبرى كانت في التعامل بخفة منقطعة النظير مع موضوع الإنتخابات الرئاسية.

إقرأ ايضاً: ازمات لبنان تحضر «إنشائياً» في قمة الجزائر..والقضاء يتشدد مع المودعين ويهادن المصارف!

وكأن هذه الإنتخابات أتت على حين غرة، مع أنها معروفة التاريخ سلفاً، وبذلك يكون تكتل التغيير بات يتصرف كما يتصرف أطراف “العصابة الحاكمة” بتأجيل كل القضايا وعدم درسها ومناقشتها إلى ربع الساعة الأخير ، وتكون النتيجة سلق للمواقف وتخبط وضياع وخيبة أمل. لا نقول هذا تزكية لأحد ، ولا تحاملاً على قوى التغيير التي نعتبر أنفسنا جزءاً منها، ولكن نقوله من باب النقد البناء الذي يرفض أن يتحول نواب التغيير إلى شهود زور في المجلس النيابي ثم يأتوننا لاحقاً ليخبروننا بأنهم “ما خلونا” كغيرهم من القوى، ونقول أنه حان الوقت للتعامل بواقعية مع الأمور، ولا داعي للتذكير بأن السياسة هي فن الممكن خاصة في بلد كلبنان، والمعادلة بإختصار أنه ما دمنا قد دخلنا في “السيستم” الذي يقوم عليه العمل السياسي في البلد، فلا بد من التعامل بآلياته ومع الأطراف الموجودة فيه ولو على “القطعة” كما يقال، وإختيار الموقف الأقل ضرراً أو ما يُتعارَف عليه بأهون الشرين مرحلياً، فلم يعد مفيداً التمترس وراء شعار “كلن يعني كلن” الذي سقط بمجرد القبول بخوض الإنتخابات، تحت ظل هذا النظام الذي تقوده هذه العصابة.

عدم التنسيق بين القوى المعارضة ومن ضمنها القوى الأقل ضرراً وسوءاً ولو نسبياً في المنظومة يأتي بنتائج مريحة للطرف الأقوى الذي يتحكم بمسار الأمور بالبلد

فهذا التمترس وراء المواقف أثمر حتى الآن وبصراحة نتائج  داعمة – عن غير قصد ربما – للطرف الأسوأ والأقوى في هذه المنظومة، لأن التفتت وعدم التنسيق بين القوى المعارضة ومن ضمنها القوى الأقل ضرراً وسوءاً ولو نسبياً في المنظومة، يأتي بنتائج مريحة للطرف الأقوى الذي يتحكم بمسار الأمور بالبلد، والذي تتخطى مسؤوليته فيما وصل إليه الوضع بأشواط كثيرة مسؤولية الآخرين، ولم يعد مفيداً ولا منطقياً الجمع بين الثورة والنظام تحت سقف واحد، فإما سياسة من ضمن “السيستم” وبآلياته ولكن بشفافية ووضوح وإما ثورة.

وفي هذه الحال يجب الإستقالة من مؤسسات النظام ، فالثورة مكانها الشارع وليس مجلس النواب، ومقولة التغيير من الداخل لا تصح في بلد كلبنان، ولا في نظام طائفي عشائري يحمل في داخله كل أسباب التعطيل والعرقلة والجمود، فتحمل المسؤولية والإنتخاب هو بالنهاية تكليف، وتكليف ثقيل وصعب عند الذين يقدرون هذه المسؤولية، وليس تشريفاً للوجاهة وللبحث عن دور، وعندما يعجز المرء عن ترجمة هذا التكليف، إلى إنجازات ولو بالحد الأدنى عليه، إعادته إلى أصحابه مع الشكر والإعتذار ، وإلا يكون قد إنضم إلى المنظومة ولو بشعارات براقة وخادعة، قد تخدع بعض الناس بعض الوقت، لكنها لن تخدع كل الناس كل الوقت.                        

السابق
نقابة المحررين تنعى الزميل كمال فضل الله: كان صاحب رأي حر وموقف ووقفة مشرفة
التالي
العلامة الامين يلتقي الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد على هامش ملتقى البحرين العالمي للحوار