القصة الغريبة لتحالف تنظيم القاعدة مع إيران

خامنئي والبشير

في يوم السابع من أغسطس/آب 2020 بمنطقة “باسداران” بالعاصمة الإيرانية طهران، انطلقت سيارة من نوع “رينو لوغان” ومن خلفها دراجة نارية يمتطيها شخصان، في عملية مطاردة شبيهة بتلك التي ألِفْناها في قاعات السينما أكثر مما رأيناها في الواقع. وفي أثناء عملية المطاردة، أطلق راكبا الدراجة خمس رصاصات من مسدس صامت على ركاب السيارة، اخترقت جسد رجل تقترب سِنُّه من الستين، وامرأة شابة كانت جالسة في المقعد المجاور لمقعد السائق. وبحسب ما أورد الإعلام الإيراني، كان المستهدفان هما شخص يُدعَى “حبيب داوود”، أستاذ تاريخ لبناني ينتمي إلى حزب الله، وابنته “مريم داوود”.

كانت هذه هي الرواية الإيرانية للحادث الذي وقع بالقرب من منزل “أبو مهدي المهندس”، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، في طهران، وهو الرجل الذي اغتالته الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني 2020 رفقة “قاسم سليماني”، قائد فيلق القدس. ورغم تماسك الرواية الإيرانية، كونها شبيهة حد التطابق مع عمليات اغتيال عدد من العلماء الإيرانيين الذين كانوا على علاقة بمشروع بلادهم النووي، فإن هناك تفصيلتين صغيرتين في غاية الأهمية لم يتطرق لهما الإيرانيون وكشفتهما الصحف الغربية.

التفصيلة الأولى هي أنه ليس هنالك أي شخص يُدعى “حبيب داوود” من الأساس، على الأقل بالمواصفات الواردة في الرواية الثانية، وأما التفصيلة الثانية الأهم فهي هوية الشخص الذي قُتل في الحقيقة، وهو “أبو محمد المصري”، أحد مؤسسي تنظيم القاعدة، أما الفتاة التي كانت بجانبه فهي ابنته مريم، أرملة “حمزة بن لادن” نجل أسامة بن لادن زعيم التنظيم السابق، وأما المنفذون فهم عملاء إسرائيليون، في عملية جاءت بطلب أميركي.

اقرأ أيضاً: إيران… العمامة والعسكر

منذ سنوات خلت، تابعت الولايات المتحدة تحركات عدد من قادة القاعدة الذين حطوا رحالهم في إيران، وكان “عبد الله أحمد عبد الله”، المعروف بـ”أبي محمد المصري”، أحد الذين رصدتهم أعين الاستخبارات الأميركية (CIA). وضعت أميركا “أبا محمد” على قائمة “أخطر الإرهابيين المطلوبين”، وذلك لاتهامه بالضلوع في تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا سنة 1998. وإذا كان تتبُّع الاستخبارات الأميركية لقادة القاعدة في إيران عاديا، فإن وجود هذه القيادات في “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” يبدو أمرا غير عادي للوهلة الأولى. وقد أوردت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين أميركيين قولهم إن القيادي المصري في القاعدة يعيش في إيران منذ عام 2003، إذ كانت إقامته مقيّدة في بادئ الأمر، قبل أن يتمتع بحرية أكبر مع مرور السنوات.

بعد مقتل القيادي في القاعدة وتغيير هويته في الإعلام الإيراني إلى مواطن لبناني، أبدت وسائل الإعلام اللبنانية اهتماما بالقضية، وخصوصا المنابر المرتبطة بإيران وما يُعرف بـ”محور المقاومة”، نافية أن تكون قد سمعت بهذا العضو في حزب الله سابقا. كما أوردت “نيويورك تايمز” عن أحد الباحثين في سلك التربية والتعليم اللبناني قوله إنه لم يعثر على اسم “حبيب داوود” ضمن لوائح المعلمين، وهو ما يتسق مع رواية أخرى قالت إن إيران أعطت هذه الهوية لـ”أبي محمد المصري” للتغطية على وجوده داخل البلاد. وتطرح هذه الحادثة الكثير من علامات الاستفهام، أهمها على الإطلاق: ماذا يفعل الرجل الثاني في القاعدة داخل الأراضي الإيرانية؟ وللإجابة عن هذا السؤال يجب علينا العودة إلى فترة بدايات التعارف والتقارب بين الغريمين الافتراضيين.

للمفارقة، تبدأ قصة التقارب بين إيران والقاعدة من “أبي محمد المصري” نفسه، الذي وُلِد في محافظة الغربية شمال مصر عام 1963، ولعب الكرة في بداية شبابه قبل أن يقرر تغيير مساره والانضمام إلى قوافل المقاتلين الذين حطوا رحالهم في أفغانستان بعد الاجتياح السوفيتي للبلاد عام 1979. بعد انسحاب السوفييت، رفضت مصر استقبال مواطنها الذي سافر للجهاد، فبقي الرجل في أفغانستان، وانضم إلى “أسامة بن لادن”، وساهم في تشكيل النواة الأولى لتنظيم القاعدة، وصار سابع مؤسس للجماعة التي بلغ عدد مؤسسيها 170 مؤسسا.

مع بداية التسعينيات، سافر “أبو محمد المصري” إلى السودان، جارة مصر الجنوبية، إذ حلَّ بالخرطوم من أجل البدء في العمل على تكوين خلايا عسكرية تخدم مشروع التنظيم. وزار “أبو محمد” الصومال أيضا، وساعد هناك في تدريب بعض المقاتلين المحليين على استعمال قذائف “الآر بي جيه” المحمولة على الكتف، وهي تقنية استعملها المقاتلون في معركة مقديشو عام 1993 لإسقاط مروحيات أميركية. وفي أثناء هذه الفترة، شهد السودان اللقاء الأول بين رجل القاعدة وحليف غريب جديد: الحرس الثوري الإيراني.

كانت طهران قد عملت على تدعيم حضورها في السودان حتى قبل وصول الحركة الإسلامية إلى الحكم، وكان ذلك في أثناء حكومة “الصادق المهدي” بين عامي 1986-1989. وقد زار “المهدي” إيران أكثر من مرة، وحظي باحترام كبير في أروقة السلطة بها، حيث اعتبره الإيرانيون داعما لطهران بسبب حياده المُعلَن في الحرب العراقية الإيرانية. ولذا لم تتردد إيران في المقابل في الإفراج عن عشرات الأسرى السودانيين الذين أُسِروا وهم يحاربون مع الجيش العراقي، بعد أن أُرسِلوا للقتال مع صدام في عهد الرئيس السوداني الأسبق “جعفر النميري”.

في عام 1989، بعد وصول حكومة “الإنقاذ” إلى السلطة في السودان، ظهرت أولى أزمات الخرطوم مع طهران ووصلت إلى حد استدعاء السفير السوداني في طهران، لكن الأزمة، التي اعتبرها البعض مفتعلة بسبب حاجة الحكومة الجديدة إلى الاعتراف الدولي، سرعان ما انتهت، بل إن ثورة “الإنقاذ” التي قادها الرئيس السوداني السابق “عمر حسن البشير” عبر انقلابه العسكري سرعان ما اتخذت الثورة الإسلامية الإيرانية نموذجا لها. بيد أن التنظير الثوري وحده ليس ما دفع بالنظام الجديد في الخرطوم نحو طهران، بل النفط أيضا. فقد بدأ تبادل الزيارات بين كبار مسؤولي البلدين عام 1993، وأسفرت هذه الزيارات عن توقيع عدد من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية.

تزامن التقارب الإيراني-السوداني مع تغييرات مهمة في الشرق الأوسط، ففي نهاية الثمانينيات وجد “العرب الأفغان” الذين جاهدوا ضد السوفيات بتشجيع أميركي وعربي أنهم صاروا منبوذين، حيث اعتبرهم الجميع قنابل موقوتة نُزِع فتيلها في معارك أفغانستان وبات انفجارها مسألة وقت، ومن ثمَّ آثروا أن تنفجر بعيدا عنهم. بيد أن إيران، على عكس الدول العربية، رأت في المقاتلين الإسلاميين سلاحا مهما ليس بالإمكان إبعاده بسهولة عن ساحات الصراع في الشرق الأوسط بعد أن أصبحوا أمرا واقعا. ورأت طهران في السودان مكانا إستراتيجيا يمكن من خلاله التعرف على هؤلاء “الجهاديين” عن قُرب. وبدوره فَهِم “بن لادن” ضرورة الوجود في السودان، وضمن له هذا ولو مؤقتا مكانا لالتقاط الأنفاس وترميم الصفوف ثم الانطلاق نحو مشاريع جهادية جديدة. وكان خليفة بن لادن الراحل “أيمن الظواهري” حاضرا في كل هذه الخطوات، كيف لا وهو من أشد المتحمسين للعلاقات مع إيران.

زار الظواهري إيران سِرًّا في إبريل/نيسان 1991 حين كان أميرا لحركة الجهاد الإسلامي المصرية، ومن جهتها لم تُخْفِ إيران سعادتها باغتيال الرئيس المصري السابق “أنور السادات” بواسطة تنظيم الجماعة الإسلامية، بل وأطلقت اسم “خالد الإسلامبولي”، الذي أطلق النار وقتل “السادات”، على أحد شوارع العاصمة طهران. وفي أثناء رحلته إلى إيران، طلب الظواهري الدعم للإطاحة بالنظام المصري، وبحسب بعض المصادر المقربة من القاعدة، وافق الإيرانيون على طلبه، وشرعوا في تدريب أفراد من حركته في إيران والسودان. والتقى الظواهري في تلك الفترة بالقيادي اللبناني الشهير في حزب الله “عماد مُغنية”، الذي استقبل أعضاء بالقاعدة لتدريبهم مع حزب الله في لبنان.

استفاد “بن لادن” من علاقة الظواهري بالإيرانيين، التي ساهمت في تقارب القاعدة والحرس الثوري الإيراني، إذ توصَّل الطرفان إلى ما يشبه الاتفاق للتعاون وتقديم الدعم المتبادل لتنفيذ عمليات تستهدف دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة، بحسب تقرير لجنة 11 سبتمبر الأميركية. ولم تتمكَّن واشنطن من إثبات معرفة إيران وحزب الله مسبقا بأحداث 11 سبتمبر رغم الاتصالات المتواصلة بين الإيرانيين وقيادات القاعدة ما بين 1991-2001، وهي اتصالات أسفرت عن تحركات كثيرة يُشتَبَه تعاون الطرفين فيها، وأبرزها تفجيرات “الخُبَر” عام 1996 التي استهدفت المملكة العربية السعودية وأسفرت عن مقتل 17 شخصا من حاملي الجنسية الأميركية وجرح العشرات. وقد نتجت هذه العملية بحسب المحققين السعوديين والأميركيين عن تعاون أفراد تنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني وحزب الله فرع الحِجاز، وهو خلية شيعية كانت توجد بالسعودية، ولها علاقة مباشرة بالحرس الثوري الإيراني.

بعد خروج القاعدة من السودان وعودتها إلى أفغانستان عام 1996، ظل التعاون قائما مع إيران، إذ ساعدت الأخيرة التنظيم في كل ما تعلَّق بالتدريب واللوجستيات، وأثمر التعاون حينها قصف المدمرة الأميركية “يو إس إس كول” في أكتوبر/تشرين الأول 2000. وقد سمح الإيرانيون لمقاتلي القاعدة بالمرور عبر أراضيهم للسفر إلى أفغانستان ذهابا وعودة، إذ ذكر القيادي المصري في التنظيم “محمد صلاح الدين زيدان”، المعروف بـ”سيف العدل”، أن القاعدة أرادت إقامة بيوت ضيافة في طهران ومدينة مَشهَد لتيسير وصول المقاتلين إلى معسكرات التدريب التي أشرف عليها القيادي الأردني “أبو مصعب الزرقاوي” في أفغانستان، كما صدرت تعليمات لمفتشي الحدود الإيرانيين بعدم وضع أختام على جوازات سفر المتنقلين من وإلى أفغانستان.

بعد استقرار القاعدة في أفغانستان، كان بديهيا أن تعقد تحالفا مع حركة طالبان. بيد أن الأخيرة لم تكن على وئام مع إيران ولا مع مؤيديها من الأفغان الشيعة داخل البلاد. ولكن “الجمهورية الإسلامية” قرَّرت ببراغماتية شديدة الحفاظ على حدٍّ أدنى من التواصل مع القاعدة. وبعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان عام 2001، أشرف “قاسم سليماني” شخصيا على إخراج عدد من أفراد عائلة “بن لادن” إلى إيران، وكانت الولايات المتحدة حينها على علم بوجود اتصالات بين التنظيم وطهران، لكنها لم تؤكد هذه المعلومات إلا في مرحلة لاحقة.

بعد وصول “محمد خاتمي” إلى الرئاسة في إيران، أمر بإخراج أعضاء القاعدة وعوائلهم من البلاد، لكن سليماني كان له رأي آخر، وصحيح أنه أشرف على إخراج بعض الأشخاص حتى يُظهِر التناغم بين توجيهات الرئيس وتحركات الحرس الثوري الإيراني، لكنه في الوقت نفسه سهر على إخفاء أفراد عائلة بن لادن وبعض القيادات المهمة في القاعدة مع المئات من الفارين من الدول الغربية، وأبرزهم “أبو مصعب الزرقاوي”، الذي أشرف بعد ذلك على تأسيس حضور للقاعدة في العراق، قبل أن يتحوَّل إلى أب روحي لتنظيم الدولة الإسلامية. ورغم أن الزرقاوي بنى مشروعه الجهادي في العراق على أسس منها مواجهة ما وُصِف بالمد الشيعي، فإن المصادر الاستخباراتية الأميركية زعمت أن إيران أمدَّته بأسلحة وذخيرة وجوازات سفر إيرانية يسهُل بواسطتها التنقُّل من العراق. ولم يَسُرَّ إيران استهداف الزرقاوي للشيعة بطبيعة الحال، لكنها أصرَّت على التواصل معه بسبب نشاطه في استهداف الأميركيين.

بعد اغتيال الولايات المتحدة لـ”بن لادن” عام 2011، كشفت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عن مجموعة معلومات ضخمة تتعلق بحياته بعد أن وضع الأميركيون أيديهم على أرشيف وثائق هائل لـ”العدو المُتربِّص ببلادهم” منذ تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول من خلال حواسيب “بن لادن” الشخصية.

هذه الوثائق، التي أظهرتها واشنطن على دفعات، كشفت النقاب عن معلومات غير تقليدية متعلقة بتنظيم القاعدة، أبرزها علاقاته بجهات عديدة، من بينها الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومن بين الوثائق التي كُشِف عنها في عهد الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” تقرير كتبه أحد المقربين من “بن لادن” يعود إلى سنة 2007، يُشير إلى أن إيران عرضت على القاعدة مساعدات لوجستية وعسكرية ومالية إذا أرادت الأخيرة استهداف السعودية ودول خليجية أخرى، كما أشارت الوثيقة نفسها إلى تدرُّب بعض مقاتلي التنظيم في معسكرات حزب الله اللبناني.

من منظور خارجي، قد يبدو الأمر وديا للغاية، لكنه ليس بالرومانسية التي يظهر بها، فالتعاون بين إيران والقاعدة تكتيكي محض في نهاية المطاف. ورغم أن “بن لادن” نفسه وصف إيران بـ”الشريان الرئيسي للقاعدة”، كما حرص “قاسم سليماني” شخصيا على تأمين مكان لقيادات القاعدة وعائلاتهم، فإن رجال “بن لادن” تعرَّضوا لمستويات متباينة من الاحتجاز والإقامة الجبرية، مثل منعهم من الاتصال بالعالم الخارجي أو الزج بهم في السجون. وقد دفع ذلك بالكثير من مقاتلي القاعدة إلى الاحتجاج ومطالبة رفاقهم في الخارج بالتدخُّل لتسوية أوضاعهم.

وبعد نجاح الولايات المتحدة في اغتيال “الظواهري” في يوليو/تموز الماضي، عادت دائرة الضوء تُسلَّط على قيادات الصف الأول الموجودة في إيران، التي من المفترض أن تخلف “الظواهري” على رأس التنظيم، في وقت تعيش فيه القاعدة أزمة وجودية خانقة، وتركزت الأضواء بالتحديد على القيادي المصري “سيف العدل”، بوصفه الأوفر حظا لتولي القيادة بعد مقتل باقي المرشحين البارزين، ولكن أين سيف العدل الآن؟

في مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، نشر حساب “(@Sw0rdOfAnon (Anonymous” على موقع تويتر (تم تعليقه في وقت لاحق) صورة مثيرة للجدل لـ”سيف العدل المصري” و”أبي محمد المصري” و”أبي الخير المصري”، وهم المرشحون الثلاثة الأبرز لخلافة الظواهري. وقد أكدت مصادر استخباراتية أميركية لموقع “Long War Journal” أنها التُقِطَت في إيران عام 2015. لكن تظل المعلومات حول مكان وجود سيف العدل الحالي غير مؤكدة، ففي حين تُرجِّح بعض المصادر أنه موجود بالفعل في أفغانستان، لم تجزِم مصادر أخرى بأمر خروجه من إيران، أو بالأحرى سماح الحكومة الإيرانية له بالخروج من البلاد.

أما “أبو محمد المصري” فأقام في إيران لمدة قبل أن يُغتال بواسطة عملاء الموساد كما ذكرنا آنفا. وأخيرا، هناك “أبو الخير المصري” الذي ترك إيران نحو سوريا في مفارقة غريبة عام 2016 للوقوف على وجود تنظيم القاعدة في الشام، الذي أُنشِئ بالأساس لقتال نظام الأسد الذي تدعمه إيران وحرسها الثوري.

أشرف “أبو الخير” على “العلاقات الخارجية للتنظيم”، وعمل “متعهدا للعلاقات بحركة طالبان في أفغانستان”، قبل أن تغتاله الولايات المتحدة عبر طائرة مسيرة في إدلب السورية في فبراير/شباط 2017. وبجانب هذه القيادات، أكدت واشنطن وجود “عبد الرحمن المغربي” و”ياسين السوري” و”سعد بن لادن” و”حمزة بن لادن” و”مصطفى حميد” داخل إيران. ورغم تكتم إيران ورفضها تأكيد وجود قيادات القاعدة داخل أراضيها، فإن الأمر بالنسبة للمجتمع الدولي أصبح شبه مُسلَّم به، حيث أكد تقرير للأمم المتحدة نُشر يوليو/تموز 2018 أن “أيمن الظواهري”، زعيم تنظيم القاعدة، يعتمد على قياداته المقيمة في الجمهورية الإسلامية للتحرُّك وتسيير التنظيم.

وبخلاف قادة القاعدة المقيمين في طهران، يظل هناك فصل بارز في العلاقات بين القاعدة وإيران يتعلق بأسرة زعيم التنظيم أسامة بن لادن نفسه. ولاستكشاف وقائع هذا الفصل، ربما علينا العودة إلى فبراير/شباط 2010، حين طلبت السعودية من إيران السماح لـ”إيمان بن لادن”، ابنة زعيم القاعدة، بالخروج من البلاد، بعد أن لجأت إلى سفارة بلدها في طهران إثر متابعة من السلطات المحلية الإيرانية. وفي ندوة صحافية قال الأمير “سعود الفيصل”، وزير الخارجية السعودي آنذاك، إن إيران يجب أن تُتيح لابنة زعيم القاعدة البالغة من العمر 17 عاما العودة إلى بلادها، مضيفا: “إننا نعتقد أن الأمر يتعلق بقضية إنسانية، نحن في مفاوضات مع الحكومة الإيرانية من أجل السماح لها باختيار المكان الذي تريد الذهاب إليه”.

تخبرنا قصة “إيمان بن لادن” بالعديد من الحكايات، فهي من ناحية تؤكد وجود أفراد من أسرة زعيم تنظيم القاعدة السابق في إيران، ومن ناحية أخرى تبيِّن أن المقام في بلد الخميني ليس ورديًّا أيضا، بل مشروط ومقيد وقد يغلب عليه في بعض الأحيان طابع “الاحتجاز”. وقد أشارت بعض المصادر إلى أن إيران آوت إحدى زوجات “بن لادن”، وكذلك ابنه خالد الذي قُتِل معه في غارة 2011، وابنه سعد الذي قُتِل عام 2009، بجانب ابنه الأشهر حمزة، الذي أعلنت الولايات المتحدة مقتله عام 2019 بعد سنتين من تصنيفه إرهابيا عالميا خطيرا.

حاولت عائلة “بن لادن” عيش حياة أقرب إلى “الطبيعية” خلال مقامها في إيران، إذ كشفت الاستخبارات الأميركية عن فيديو يظهر فيه “حمزة بن لادن” وهو يحتفي بزواجه من مريم، ابنة “أبي محمد المصري” التي اغتالها الإسرائيليون قبل سنتين مع والدها. ورغم أن الفيديو أظهر نوعا من السرور وعدم التوتر على مُحيَّا العريس نجل “بن لادن”، فإن قضية حمزة كانت إحدى أهم القضايا التي تصاعدت فيها الخلافات بين القاعدة وإيران.

فرغم رفع الإقامة الجبرية عن حمزة في منتصف عام 2010، لم يتحمَّس “أسامة بن لادن” للطريقة التي تعامل بها الإيرانيون مع عائلته، فقد وجَّه رسالة إلى أسرته قبل أشهر من اغتياله أكَّد فيها أن الإيرانيين ليسوا أهلا للثقة، مُطالبا زوجته بالخروج من البلاد وترك كل شيء وراءها، كما أبدى زعيم القاعدة السابق تخوُّفا على أمن ابنه حمزة الذي نصحه هو الآخر بالخروج من إيران، خصوصا أن عطية عبد الرحمن، وهو الشخص الذي كان مكلفا بحمايته، قد أبدى تذمرا من صعوبة مهمة حماية ابن أسامة بن لادن.

ظهر التذمُّر من المعاملة الإيرانية أيضا في صفوف مقاتلي القاعدة الذين فروا من أفغانستان إلى طهران، إذ رفع هؤلاء رسالة إلى “إخوانهم” في المنطقة الأفغانية الباكستانية عام 2010 للشكوى من احتجازهم في سجن المخابرات الإيرانية القمعي، وأعلنوا رغبتهم في الرحيل. ودعا هؤلاء المقاتلون القاعدة في “خراسان” (المنطقة التي تضم أجزاء من أفغانستان وإيران وجنوب غرب آسيا الوسطى) إلى القيام باللازم لإطلاق سراحهم، مطالبين باختطاف مسؤولين إيرانيين والتفاوض سِرًّا مع طهران، وهو ما نفَّذته القاعدة بالضبط.

في عام 2011، توصلت القاعدة إلى اتفاق مع إيران لإطلاق سراح عدد من قيادات التنظيم منهم “حمزة بن لادن” مقابل دبلوماسي إيراني اختُطِف في باكستان عام 2008. ثم حدث تبادل آخر عام 2015 أُطلِق بموجبه سراح دبلوماسي إيراني اختطفته القاعدة في اليمن عام 2013، وهو ما قد يُفسِّر ربما الحرية الأكبر التي حظي بها “مقاتلو القاعدة” للتحرك داخل إيران أو الخروج منها بعد ذلك. وشملت عملية عام 2015 إطلاق سراح ستة قادة كبار في القاعدة هم الثلاثي المصري “سيف العدل” و”أبو محمد” و”أبو الخير”، الذين ظهروا مجتمعين في صورة واحدة بطهران في السنة نفسها كما أشرنا سابقا، بالإضافة إلى القياديَّيْن الأردنيَّيْن “أبو القسام” و”ساري شهاب”، مع شخص سادس مجهول.

لم تنتهِ القصة هُنا، حيث كشفت الخلافات الداخلية عن معلومات إضافية تخص هذه الصفقة. فبعد نجاح عملية تبادل الأسرى عام 2015، سمحت إيران لأربعة أشخاص بمغادرة ترابها، هم “أبو الخير” و”أبو القسام” وشخصان آخران مجهولان، فغادر الرباعي إلى سوريا فيما منعت الحكومة الإيرانية “سيف العدل” و”أبا محمد” من المغادرة رغم منحهما حق التجول داخل البلاد دون قيود تُذكَر. وبعد وصول “أبي الخير” إلى سوريا، وفي ظل مطالبة جبهة النصرة بالانفصال عن تنظيم القاعدة الأم لما سبَّبه من إعاقة لها داخل وخارج سوريا، رأى “أبو الخير”، النائب الأول للظواهري آنذاك، أن من مصلحة القاعدة أن يحدث الانفصال، في حين رفض زميلاه المحتجزان في إيران الأمر دون أن يكترث أحد لرأيهما، ومن ثمَّ انفصلت “جبهة النصرة” عن “القاعدة” في النهاية، وتحوَّل اسمها إلى “هيئة تحرير الشام”.

على الجهة المقابلة، أخذت إيران في خضم دعمها للأسد تُقيِّم بأناة علاقاتها مع تنظيم القاعدة، محاولة الاستفادة من هذه العلاقة في الوقت الذي تستمر فيه في خطابها الرسمي المُعتاد باتهام الغرب ودول الخليج العربي بدعم التنظيمات الجهادية السُّنية، كما دأب المرشد الأعلى “علي خامنئي”. ورأت إيران في القاعدة كنزا إستراتيجيا لا يجب بحال الوصول معه إلى القطيعة والمواجهة المباشرة. وقد تبيَّنت طهران أهمية هذا التوجُّه بعد ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”، حيث تحوَّلت بوصلة القلق في العالم أجمع إلى هذه الجماعة الجديدة التي أبدت عنفا كبيرا ضد الجميع دون استثناء، بدءا من تنظيم القاعدة وصولا إلى إيران نفسها.

لإيقاف تنظيم الدولة، وجدت طهران نفسها في حاجة جزئية إلى تنظيم القاعدة وحليفها الإستراتيجي المهم المتمثِّل في حركة طالبان السُّنية، لا سيما بعد سيطرتها مجددا على السلطة في أفغانستان إبَّان انسحاب القوات الأميركية في أغسطس/آب 2021. وتهدف طهران من هذه العلاقات إلى تشكيل جبهة تحارب تنظيم الدولة الذي يُعادي طالبان في عُقر داره عبر فرعه في خراسان، كما أنها تأمل أن يتحسن الوضع في أفغانستان حتى لا تضطر إلى مواجهة أمواج متتالية من اللاجئين الأفغان التي اجتاحتها بحثا عن الأمن والغذاء.

في ظل تركيز طهران على تنظيم الدولة، سعت إلى تحييد نشاط القاعدة ومنعه من القيام بأي أعمال تستهدف الأمن الإيراني الداخلي، خصوصا في ظل حالة الاستياء التي تسيطر على مقاتلي التنظيم بسبب تضييقات طهران على المقاتلين الذين احتموا بها من أعين الغرب. ومن ثمَّ أصرَّت طهران على الاحتفاظ ببعض وجوه التنظيم وبعض أسرهم حتى تضمن عدم ضلوع ​​القاعدة في أي هجمات ضدها. ورغم تقليص عدد ضيوفها من التنظيم الجهادي، فإنها أبقت على حدٍّ أدنى تستطيع من خلاله التفاوض إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهو ما منحها ورقة سياسية مهمة في العلاقات مع الغرب أيضا في حال احتاجت إلى ذلك، تماما كما حدث من قبل. فقد أشارت بعض التقارير إلى أن طهران سبق أن عرضت على واشنطن عام 2003 عملية تبادل تُسلِّم بموجبها بعض الشخصيات البارزة في القاعدة، مقابل تسليم أميركا قادة منظمة “مقاتلي خلق” الإيرانية المعارضة المحتجزين حينها بأحد سجون العراق.

لم تمنع هذه الرغبة الإيرانية السابقة في تسليم “مقاتلي القاعدة السُّنة” إلى واشنطن من لجوء مقاتلي التنظيم إلى طهران الشيعية بعد ذلك، فعلى مدار سنوات عديدة، هيمن على علاقات تنظيم القاعدة بإيران مبدأ “السياسة أولا ثم المذهبية” للتعامل مع التحديات المشتركة التي واجهها الطرفان وأهمها العداء المشترك للولايات المتحدة. فلم تتردد إيران في استقبال أعضاء القاعدة في الوقت الذي طُورِدوا فيه في شتى أنحاء العالم بأسره، ولم تعتد القاعدة بدورها على إيران رغم محاربتها وكلاءها في العديد من البقاع الأخرى في الشرق الأوسط. ويبدو أن القصة لم تنتهِ بعد، فقد ظهر اسم إيران بقوة بعد وفاة الظواهري كونها كانت -أو ربما ما زالت- تؤوي خليفته المنتظر “سيف العدل المصري”، مما يُنبئنا بأن صفحات جديدة ستظل تُكتَب في هذه القصة الغريبة.

السابق
ملتقى التأثير المدني: إستراتيجية خبيثة وتكتيك مراهق مواجهتهما تراكمية مع الاغتراب
التالي
إنتهاء جلسة قراءة رسالة عون..والمجلس يوصي الحكومة بإستمرار تصريف الاعمال!