هل يوحّد الترسيم مجموعات ١٧ تشرين رغم مظاهر الانقسام اليوم؟

غسان صليبي

يبدو سؤالي غريبا، بعد ايام قليلة من الذكرى الثالثة الكئيبة لإنتفاضة ١٧ تشرين التي تشرذمت مجموعاتها خلال السنوات السابقة ولم يعد لها أثر على مستوى التأثير في المجريات السياسية. وها هي الشرذمة تطال بعد يوم من الذكرى نفسها، “تكتل نواب التغيير” حيث أعلن النائب ميشال دويهي انسحابه منه، نتيجة الخلافات المتراكمة بين أعضائه. ومن المتوقع أن يتفتت التكتل إلى مجموعات عدة، بحسب تقارير صحافية متعددة. والتكتل المذكور يمثل من حيث المبدأ انتفاضة ١٧ تشرين.

ذلك أن تساؤلي لا يستند الى اي مؤشرات فعلية على الارض، بل هو يذهب بعكس الكثير من المعطيات الظاهرة. تساؤلي هو في الواقع، افتراض نظري خَطَرَ على البال، نتيجة تحليلات شخصية تجمعت لديَّ، بعد ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.

من خلال الترسيم سيطر السلاح وحلفاؤه على مصدر المال المتبقي اي على النفط والغاز بعد شبه افلاس للمصارف وللمصرف المركزي وعجز كبير في موازنة الدولة

في مقالي السابق في “النهار”، بعنوان “ترسيم السلطة”، أوضحت كيف أن هذه السلطة أرادت من ترسيم الحدود، ترسيم نفسها، اي تحصين استمراريتها، عبر ضمان مصدر مالي طويل الأمد، يسمح لها من خلال نموذج نفطي ريعي، تثبيت هيمنتها على بلادها وشعبها. المفارقة المؤلمة هي أن ذكرى ١٧ تشرين المهزومة، تزامنت مع تقوية ركائز هذه السلطة، التي سعت الانتفاضة إلى إطاحتها منذ ثلاث سنوات.

لكني لا أعتقد بأن ترسيم الحدود مع إسرائيل سيكون له تأثيره فقط على السلطة. بل أفترض أنه سيطال أيضا “معارضة” هذه السلطة، ومن ضمنها مجموعات ١٧ تشرين. افتراضي هذا يستند إلى التقديرات التالية:

اولا: إن الانقسام الأكثر حدة بين مجموعات ١٧ تشرين كان بين من يركّز، في فكره وتحركاته، على هيمنة المال ونموذجه الريعي، بقيادة مصرف لبنان والمصارف و”كلن يعني كلن”، ومن يركّز على استبداد السلاح ونموذجه السياسي- الامني، بقيادة “حزب الله” وبغطاء من حلفائه.

ثانيا: من خلال الترسيم سيطر السلاح وحلفاؤه على مصدر المال المتبقي، اي على النفط والغاز، بعد شبه افلاس للمصارف وللمصرف المركزي، وعجز كبير في موازنة الدولة. وعلى ما يبدو، باشر أصحاب “الانجاز التاريخي”، الذي فرّط بجزء مهم من الثروة الوطنية، الإعداد لتأسيس نموذج ريعي نفطي، يضمن مصالحهم الشخصية ومواقعهم في بنية السلطة. هذا تحوّل جذري في الاقتصاد السياسي اللبناني، من المرجح أن يكون له انعكاس على النظرة إلى هذه السلطة ووجهة معارضتها.

فهو يتطلب القطع مع وجهة النظر المعارضة التي كانت تميّز بين “حزب الله” كمقاومة والسلطة السياسية الفاسدة، كذلك القطع مع وجهة النظر التي كانت لا تزال تعبّر عن نقمتها على نموذج ريعي لفظ انفاسه، كانت تقوده السلطة السياسية والمصارف. ترسيم الحدود مع إسرائيل دمج بين طرفي السلطة، السياسية والعسكرية غير الرسمية، وأحدث تحولا نحو نظام ريعي من طبيعة أخرى، تديره هذه السلطة الموحّدة.

إقرأ ايضاً: «تيار التغيير في الجنوب»..ما عن الذهنية والأسلوب؟!

ثالثا: ترسيم الحدود مع اسرائيل، بدعم من “حزب الله” وبرعاية أميركية معلنة ورعاية إيرانية ضمنية، من شأنه ان يساعد الوعي المعارض على التفلت من هذا الاستقطاب الثنائي (أميركا-إيران) الذي هيمن على مخيلة بعض مجموعات الانتفاضة، في نظرتها إلى التبعية للخارج.

هذا الخارج لم يصبح واحدا بطبيعة الحال، ولا يزال أطرافه يتصارعون في أكثر من مكان وعلى أكثر من مسألة، لكن كما يبدو، بدأ يوحّد طريقة تعامله مع لبنان، مما يجب أن يتيح لمجموعات الانتفاضة ربما، تجاوز بقائها اسيرة هذه الثنائية، المثقلة بالتبريرات الإيديولوجية، وصياغة رؤية واحدة لاستقلال لبنان عن طرفي هذه الثنائية. وإني اعتقد ان هذه الرؤية الاستقلالية كانت في صلب التوجهات الشعبية العفوية التي طبعت الانتفاضة، مما جعل الجماهير المنتفضة تحمل عاليا علم بلادها على وقع الاغاني الوطنية.

رابعا: لم يعد هناك مبرر مقنع، فكري او إيديولوجي أو براغماتي، لإنقسام حاد بين مجموعات ١٧ تشرين. فالانقسام الحاد الوحيد المستقبلي والمقبول، هو بين من يريد مواجهة نظام الاستبداد الريعي ومن لا يريد، خوفا من المواجهة. هذا لا يعني أن ترسيم الحدود مع إسرائيل وانعكاساته، يلغي جميع التباينات الفكرية، الاقتصادية والسياسية، بين مجموعات الانتفاضة، لكنه بالتأكيد يضعها في إطار واقع جديد، يساعد في اعتقادي إما على التقريب في ما بينها، أو على تخفيف أهميتها في سياق الوجهة العامة المطلوب بلورتها.

المواجهة مع السلطة كما اراها لا تعني بالضرورة تجديدا للانتفاضة أو للثورة بل تشكيل معارضة لسلطة متجددة بدأت ملامحها تصبح أكثر وضوحا ونواتها الصلبة، “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” و”امل”

خامسا: المواجهة مع السلطة كما اراها، لا تعني بالضرورة تجديدا للانتفاضة أو للثورة، بل تشكيل معارضة لسلطة متجددة بدأت ملامحها تصبح أكثر وضوحا، ونواتها الصلبة، “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” و”امل”. ليس معروفا بعد إذا كان الاطراف السياسيون الآخرون سيكونون شركاء في النظام النفطي الريعي وفي إطار أية موازين. في جميع الاحوال لا يمكن مجموعات الانتفاضة الاستمرار في تكرار شعار “كلن يعني كلن” “عالعمياني”، فقد اصبح تمويها للوجه الحقيقي للسلطة.

سادسا: على اهمية الرفض المبدئي لإتفاقية الترسيم من حيث تنازلها عن جزء كبير من الثروة الوطنية، مع العلم المسبق باستحالة تعديلها نظرا إلى موازين القوى غير المتكافئة، المحلية والاقليمية والدولية، الا ان استراتيجية المواجهة يجب ان تركز على القوانين والمراسيم التي ستؤسس للنظام الريعي الجديد، بما يشمل من صندوق سيادي وما شابه. في السياق نفسه، ضرورة الدفع في اتجاه ترسيم الحدود البحرية مع سوريا، كشأن سيادي لا يتجزأ.

سابعا: جزء مهم من المواجهة سيكون عمالي الطابع، في قطاع مستقبلي من المفترض ان يكون له انعكاسات على قطاعات أخرى، تغذيه أو تستفيد منه. هذه المواجهة العمالية ستحصل، اذا حصلت، في إطار العمل في شركات متعددة الجنسية تسعى عادة إلى تسهيلات قانونية في ما يتعلق بانتهاك حقوق العمال، مما يصعّب المواجهة من جهة، ويلزمها بالإنخراط في تنظيمات نقابية عالمية تضم عمال هذه الشركات، من جهة ثانية. هذا الطابع العمالي افتقدته الانتفاضة بسبب تبعية الاتحاد العمالي العام للسلطة، كما افتقدته المواجهات مع النموذج الريعي السابق الذي يموّه العلاقة بين الانتاج والعمل والارباح، في المصارف وفي غيرها من القطاعات.

أفترض كخلاصة، أنه مع ترسيم الحدود وترسيم السلطة، جاء دور ترسيم المعارضة ومن ضمنها مجموعات الانتفاضة. أود ان أنظر الى انسحاب النائب ميشال دويهي من “تكتل التغيير” كخطوة في هذا الاتجاه.
(مقالي في “النهار”)

السابق
«تيار التغيير في الجنوب»..ماذا عن الذهنية والأسلوب؟!
التالي
الكوليرا تستفحل: تسجيل 12 إصابة و3 وفيات جديدة..وتلوث مياه في التبانة!