وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اتفاق اكبر من ترسيم حدود بحرية

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

أنجز لبنان ملف الترسيم البحري مع إسرائيل بوساطة أمريكية.  لا يوجد خاسر في هذا الاتفاق لأن الطرفين أقبلا إليه وقبلاه بعد حسابات دقيقة، ولا يوجد منتصر أو منهزم أيضاً، لأنه لم يأت إثر حرب أو سجال أو هزيمة، أو حتى تهديد من أي من الطرفين، بل كانت عملية تقنية فنية تفاوضية دبلوماسية، استقرت على صورة اتفاق رآه الطرفان لصالحهما.  رغم تزاحم العديد من السياسيين في الداخل اللبناني، على ادعاء فضل انجاز ملف الترسيم لغرض الاستثمار الداخلي، إلا أن الاتفاق يحمل دلالات سياسية كبرى، ويكشف عن جملة تغيرات وتحوّلات جوهرية، ليس في تموضع لبنان، إنما في طريقة حكمه وسلوكه الدولي، وأداء قواه الداخلية بالأخص حزب الله. يمكن تلمس ذلك في أبعاد ثلاثة:

أولها، أن التواصل بين الامريكيين وحزب الله في رحلة المفاوضات لم يكن سرّياً أو خفيّا. صحيح أنه لم يكن بالمباشر، لكن “الفريق العوني” الوسيط كان يشارك الحزب بكل تفاصيل الاتفاق، ما جعل الحزب أحد أطراف الاتفاق والمنتجين له، بعلم وموافقة ضمنية من الأمريكيين. 

التواصل بين الامريكيين وحزب الله في رحلة المفاوضات لم يكن سرّياً أو خفيّا

فمسيّرات حزب الله لم تكن للضغط على سير الاتفاق وتحصيل أحسن الشروط والنتائج، وإلا لما كان بهذه الهزالة المعروفة، ولما أقدم لبنان على التنازل عن خط 29 الذي تدعمه الوثائق بأنه الخط الحقيقي الفاصل بين لبنان وإسرائيل.كان غرض إطلاق المسيرات للدخول على خط المفاوضات، لا لتحصيل أقصى الحقوق والمكاسب، وإنما ليكون حزب الله شريكاً فيها.  هي محاولة نجحت، وربما كانت تخريجة مبرمجة متفق عليها مسبقاً، في انتزاع الاعتراف الأمريكي بدوره أو وضعيته السياسية داخل لبنان. 

كان غرض إطلاق المسيرات للدخول على خط المفاوضات، لا لتحصيل أقصى الحقوق والمكاسب، وإنما ليكون حزب الله شريكاً فيها

هو اعتراف لا يعني أن حزب الله انتزعه من الأمريكيين، أيّ ليس اعترافاً مجانياً منهم، بقدر ما هو دخول “الحزب” تحت مظلة الترتيبات السياسية الكبرى للمنطقة، بحيث يملك الأمريكيين رسم  الخطوط العامة التي تحدد توزيع مناطق النفوذ وقواعد العلاقات لضمان استقرار المنطقة، وتترك التفاصيل الجزئية والأمور الداخلية للقوى المحلية. وهو ما يعرف باستراتيجية الإحتواء الأمريكية، التي لا تسعى إلى إفناء الخصم أو القضاء عليه، وإنما إلى تأطير نشاطه وضمان انضباطه وفق قواعد تحكُّم مقررة.  الاعتراف الأمريكي بدور حزب الله في لبنان، قوبل بارتياح واضح من قادة الحزب، لأن ذلك يشكل تخفيفاً للضغط الخانق عليه مالياً وامنياً وسياسياً. لا يعني هذا إطلاق يد الحزب في الداخل اللبناني والإعتراف بوصايته الراهنة، لكنه يدل على تحول حزب الله إلى لاعب سياسي معترف به دولياً وقانونياً، وإلى إقرار الحزب بالتأطير الأمريكي لترتيبات المنطقة، وبالمرجعية الأمريكية لمعالجة الملفات المتفجرة أو المعلّقة أو المأزومة.

ما يعرف باستراتيجية الإحتواء الأمريكية، التي لا تسعى إلى إفناء الخصم أو القضاء عليه، وإنما إلى تأطير نشاطه وضمان انضباطه

ثاني هذه الأبعاد، هو شراكة الحزب باتفاق ترسيم حدود يُبرم مع دولة “عدوّة” هي إسرائيل، مع ما يتضمن هذا الاتفاق من ضمانات أمنية لصالح هذا “العدوّ” في حدوده البحرية. هو اتفاق ليس صلحاً بالطبع، ولا يؤدي إلى التطبيع أيضاً، لكنه يحمل اعترافاً بهذا الكيان وحدوده البحرية، كما إن التوقيع هو بمثابة اعتراف ضمني بهذا الكيان، أي اعتراف بأنه كيان سياسي ذي سيادة على أراضيه المعترف بها دولياً. فالإتفاق ليس تحصيل حق لبنان البحري فحسب بل اعتراف ملزم للبنان ولحزب الله، اللاعب الأقوى في مفاوضات الترسيم، بحق إسرائيل البحري وإقرار بحدودها وسيادتها، وإلا يكون هكذا اتفاق لغواً وبلا قيمة قانونية ودولية. هذا الاعتراف ينقل لبنان في علاقته مع إسرائيل من حال العداوة، أي حال الحرب المفتوحة والتفلّت من أي التزام أمني أو قانوني تجاه هذا الكيان، إلى اعتراف به وبحدوده وسيادته، والتقيّد بالقواعد والاتفاقات المعقودة معه، فضلاً عن الاعتراف بالمرجعية الأمريكية في فضّ أي خلاف حدودي معه. أي الانتقال من  حال الحرب والعداوة إلى حال اللاحرب واللاعداوة.  هذا ليس اتهاماً لأحد، إنما توصيف للمقتضى المنطقي لهكذا اتفاق والدلالة الضمنية له، الذي يمثل تحولاً نوعياً في منطق العلاقة وقواعد الاشتباك مع إسرائيل.   

الإتفاق ليس تحصيل حق لبنان البحري فحسب بل اعتراف ملزم للبنان ولحزب الله، اللاعب الأقوى في مفاوضات الترسيم، بحق إسرائيل البحري وإقرار بحدودها وسيادتها

هو تحول سيخلق تبايناً بين مؤدى الإتفاق وتموضع حزب الله الجديد من جهة، وبين كل أدبيات تحرير القدس ومواجهة الشيطان الأكبر وسائر العناوين الجهادية من جهة أخرى، حيث سيفرغ قبول وانخراط حزب الله في هذا الاتفاق جميع هذه الأدبيات من مضمونها ويفقدها صدقيتها ويجعل منها مواد استهلاك داخلي. 

كان التسهيل الإيراني وسيلة استدراج أو إغراء، وبمثابة تقديم هدايا ومحفزات للمعسكر الغربي – الأوروبي الأمريكي- للتغاضي عن وحشية النظام الإيراني

ثالث هذه الأبعاد، توحي الليونة غير الاعتيادية لحزب الله، في تيسير هذا الاتفاق رغم شوائبه السيادية والاقتصادية، بوجود برغبة إيرانية ضمنية في إنجاز الملف النووي، ودفع الأمريكيين والأوروبيين إلى تسهيله، بعدما ولدت الانتفاضات الشعبية في الداخل الإيراني، حرجاً أخلاقياً للمنظومة الغربية أمام شعوبها في المضيّ بهذا الاتفاق.

بالتالي كان التسهيل الإيراني وسيلة استدراج أو إغراء، وبمثابة تقديم هدايا ومحفزات للمعسكر الغربي – الأوروبي الأمريكي- للتغاضي عن وحشية النظام الإيراني في قمع المعارضين والمتظاهرين في الداخل الإيراني، والقفز فوق هذه المعضلة لتفعيل الملف النووي وإنهاء العقوبات المؤلمة على النظام.

 اتفاق الترسيم صفقة رابحة لأكثر من لاعب داخلي وخارجي، إنه اتفاق أكبر من مجرد ترسيم حدود بحرية بين دولتين.  أمّا عوائده على لبنان بصفته دولة وشعب، فما تزال، رغم التصفيق المصطنع والابتهاج الصاخب حولها، تحاط بكثير من الشك والغموض والسرية.

السابق
بعد انسحاب الدويهي.. سجال يستعرّ بين نواب الثورة
التالي
تطور لافت.. زيادة ٤١٨ مليون دولار في احتياطات «المركزي» خلال شهر!