الطريق إلى رئاسة الجمهورية(3): فؤاد شهاب .. «الأمير النبيل» في مواجهة «أمراء» ماكيافيلي!

أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

هو الأمير، لكنه لا يمت بصلة إلى “الأمير” الذي صوره ماكيافيلي في كتابه الشهير، أنه الأمير اللواء فؤاد شهاب، الرئيس الثالث للجمهورية اللبنانية وصاحب الكلمة الشهيرة التي عبَّرت ولا تزال خير تعبير، عن طبقة سياسية لا تعرف غير “الأكل” عندما وصف أطرافها ب “أكلة الجبنة”. 

ولد فؤاد شهاب عام 1902 في بلدة غزير الكسروانية، لعائلة مارونية تتحدر من أصول نبيلة من هنا جاء لقب الأمير، لكن الإمارة لم تكن تحمل في تلك الأيام ترفاً،  ولم تكن لتؤمِّن حماية من الفقر، ففي العام 1907 وبسبب العوَز غادر الأمير عبدالله شهاب والد فؤاد لبنان، بحثاً عن فرص عمل في الخارج وإنقطعت أخباره فيما بعد، فعاش فؤاد وأخواه الأصغران في كنف والدتهم وأخوالهم في جونية، حيث أضطر في العام 1916 وهو في الرابعة عشرة من عمره إلى ترك المدرسة والعمل في سراي جونية ليساعد في إعالة العائلة، أواخر العام 1919 وكانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، إنضم إلى صفوف الجيش الفرنسي ليلتحق بعدها في العام 1921 بالمدرسة العسكرية الفرنسية في دمشق، ويتخرج منها برتبة ملازم في العام 1923.

كرس نفسه بين عامي 45 و 58 تاريخ توليه سدة الرئاسة، لبناء مؤسسة الجيش اللبناني على أسس عالية من الإنضباط والتنظيم والإنتماء الوطني والقيم الأخلاقية، بعيداً عن الإنتماءات السياسية والإيديولوجية

في العام 1942 عين قائداً للفرقة اللبنانية التابعة لقوات فرنسا الحرة، التي أصبحت النواة المستقبلية للجيش اللبناني. في الأول من آب 1945 عيِّن فؤاد شهاب كأول قائد للجيش اللبناني، حيث كرس نفسه بين عامي 45 و 58 تاريخ توليه سدة الرئاسة، لبناء مؤسسة الجيش اللبناني على أسس عالية من الإنضباط والتنظيم والإنتماء الوطني والقيم الأخلاقية، بعيداً عن الإنتماءات السياسية والإيديولوجية، وهو ما تأكد إبان الأزمة السياسية الأولى في البلاد، بين حكم الرئيس بشارة الخوري ومعارضيه، إذ رفض اللواء شهاب أن يتورط الجيش في هذه المواجهة السياسية أو يتدخل لصالح أحد الأطراف، مع حفاظه على الممتلكات العامة والخاصة وحمايته لها، ما أهَّله وبجدارة ليلعب دور الحَكَم والحامي للدستور، لدى إستقالة الرئيس بشارة الخوري، الذي عينه على رأس حكومة عسكرية إنتقالية، مهمتها تنظيم وتأمين إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، فأدى المهمة بكل أمانة وشرف، حيث تم إنتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية المحددة، فأنتخب كميل شمعون رئيساً جديداً للجمهورية. 

حافظ الجيش على دوره الحيادي والوطني، وحفظ وحدته ولم يتأثر بالصراع السياسي، وهذا طبعاً بفضل حكمة وإنضباطية وإحترافية قائده فؤاد شهاب، الذي سيحفظ له التاريخ بأنه كان الحارس الأمين للبلد وللدستور بكل شرف وأمانة

بعد حرب السويس عام 1956، عينه الرئيس كميل شمعون وزيراً للدفاع إضافة إلى منصبة في قيادة الجيش، إلا أنه إستقال بعد أربعة أشهر ليتفرغ لواجباته العسكرية، بعيداً عن السياسة وألاعيبها، خاصة وأن الجو السياسي بدأ يتكهرب نتيجة تداعيات حرب السويس، وتأييد شمعون لمبدأ إيزنهاور ودول حلف بغداد، وكذلك سعيه لتجديد ولايته، جاء العام 1958 وهو العام الأخير من ولاية كميل شمعون محملاً بالأزمات، كانت الوحدة المصرية – السورية التي أثارت حماسة المسلمين وحساسية شمعون وقوى اليمين، وبدا أن هناك أزمة سياسية جديدة، كما كان الحال في آخر أيام بشارة الخوري، تفجرت أمنياً في أعقاب إغتيال الصحافي المعارض نسيب المتني، وبدأت الإشتباكات في الشوارع فيما سمي آنذاك ثورة 58، التي إتهم شمعون خلالها الجمهورية العربية المتحدة بقيادة جمال عبد الناصر بتمويلها وتسليحها، وكما في العام 52 رفض فؤاد شهاب أن يزج بالجيش في هذا الصراع، الذي بدا واضحاً أنه بات له إمتدادات إقليمية وحتى دولية، أكبر من قدرة لبنان على تحمل نتائجها، فقام الجيش بدوره بحماية المواقع والمباني العامة والسيادية، مانعاً أنصار الطرفين من التعرض لها أو إحتلالها، وبهذا حافظ الجيش على دوره الحيادي والوطني، وحفظ وحدته ولم يتأثر بالصراع السياسي، وهذا طبعاً بفضل حكمة وإنضباطية وإحترافية قائده فؤاد شهاب، الذي سيحفظ له التاريخ بأنه كان الحارس الأمين للبلد وللدستور بكل شرف وأمانة، حيث جنَّب البلد لمرتين متتاليتين نذر حرب أهلية شاملة، وهو للأسف ما فشل به بعدها بسنين من خلفوه في قيادة الجيش. إنتهت أزمة 58 بنزول القوات الأميركية في بيروت، بعد أن طلب شمعون المساعدة من أميركا بعد الإنقلاب العسكري في العراق في تموز من العام نفسه، وهو ما قضى على أمل شمعون بالتجديد، فكان الحل الإتيان برئيس توافقي على مبدأ “لا غالب ولا مغلوب”، فكان الجنرال هو الحل، خاصة وأنه حاز على رضى كل من أميركا ومصر، القوتان الرئيسيتان في المنطقة بعد خروج كل من فرنسا وبريطانيا منها بفعل حرب السويس، وسطوع نجم جمال عبد الناصر بعد خروجه “منتصراً” من الحرب، ونجاحه بإقامة أول وحدة عربية في التاريخ الحديث، الأمر الذي جعل منه أمل الجماهير العربية الباحثة عن “بطل” قومي، يرد لها بعضاً من إعتبارها بعد سنوات طويلة من الإستعمار.

الأمور لم تخلُ من صعوبة في التعامل مع “أمراء السياسة”، ما دفعه إلى الإستقالة من منصبه في العام 1960 بعد إجراء الإنتخابات النيابية، في خطوة تعاكس كل ما تعود عليه اللبنانيون – وحتى العرب – من قبله ومن بعده

 أنتخب فؤاد شهاب رئيساً في 31 تموز لولاية رئاسية مدتها ست سنوات كما هو معروف، وتسلم مهامه في 23 أيلول كما جرت العادة، بدأ بإعادة اللحمة والهدوء إلى البلد، ساعده على ذلك الثقة التي حازها من جميع أطراف النزاع لإستقامته وإعتداله، متعاوناً بدون خلفيات مع جميع المجموعات السياسية والطائفية في البلد، ما مكنه من إعادة الثقة والإستقرار إلى البلاد في الداخل، وأتاح له في خلال عامين إعادة الأمور إلى نصابها وإنتظام الحياة السياسية الديمقراطية، ولكن الأمور لم تخلُ من صعوبة في التعامل مع “أمراء السياسة”، ما دفعه إلى الإستقالة من منصبه في العام 1960 بعد إجراء الإنتخابات النيابية، في خطوة تعاكس كل ما تعود عليه اللبنانيون – وحتى العرب – من قبله ومن بعده، إذ لم يكن مألوفاً أن يستقيل رئيس لبناني أو عربي من منصبه طوعاً، فكيف إذا كان قائداً عسكرياً، وبذلك سجل فؤاد شهاب أمثولة فريدة من نوعها لم يتعلم منها أحد للأسف، جاء قرار الإستقالة مفاجئاً للجميع فتهيب الجميع الموقف، وتداعى السياسيون والنواب إلى منزل الرئيس في جونية وأقنعوه بعد جهد بالبقاء في منصبه، وكانت السنوات الأربع المتبقية سنوات بناء الإدارة وتحديثها، وإقامة المؤسسات الإجتماعية والرقابية التي أفرغها السياسيون ” أكلةالجبنة” من محتواها بعد الحرب، وجعلوها مستودعاً للعاطلين والمعطلين من جماعاتهم. 

على المستوى العربي أقام فؤاد شهاب علاقات متوازنة مع العالم العربي، عكست فهمه لدور لبنان، وذلك عبر تعاونه البناء والامين والمنفتح على الجميع، عبر النأي بلبنان عن الخلافات العربية، وذلك بدءاً بالجمهورية العربية المتحدة بقيادة جمال عبد الناصر، ما أتاح له حماية لبنان من تداعيات الخلافات العربية، خاصة بعد الإنفصال ما بين مصر وسوريا الذي حصل في العام 1961. 

خرج فؤاد شهاب من الحكم تاركاً وراءه مدرسة سياسية هي النهج الشهابي، قامت على فكرة إصلاح الدولة وتحديث الإدارة وإنشاء المؤسسات العامة، والتخفيف من وطأة الإقطاع السياسي على الحياة السياسية اللبنانية

في أواخر العام 61 وفي ليلة رأس السنة، قام الحزب السوري القومي الإجتماعي بمحاولة إنقلاب عسكري، تعامل معها الجيش بشدة وتم قمعها، لكن كان من تداعياتها أن عزز فؤاد شهاب دور أجهزة المخابرات والأمن، عبر ما كان يسمى “المكتب الثاني”، بهدف الحفاظ على الأمن وإستباق أية محاولات إنقلابية جديدة، في منطقة كانت تعج بالإنقلابات، خاصة الجارة سوريا التي شهدت عدة إنقلابات متتالية بعد الإنفصال عن مصر. كان تعزيز دور المخابرات والنظام الأمني، هو الثغرة التي نفذ منها السياسيون لمهاجمة ومعارضة العهد، خاصة أقطاب الإقطاع السياسي الذين ضاقوا ذرعاً بمبدئية الجنرال فؤاد شهاب وإستقامته وتمسكه ب “الكتاب”، وهو اللفظ الذي كان يشير به للدستور ، ومدى إلتزامه بتطبيق بنوده، وهو ما دفعه لرفض تعديله بهدف التجديد لنفسه كما فعل أسلافه، فكان أن دعم أحد وجوه نهجه السياسي شارل حلو، ليكون الرئيس الرابع للجمهورية، ليخرج فؤاد شهاب من الحكم تاركاً وراءه مدرسة سياسية هي النهج الشهابي، قامت على فكرة إصلاح الدولة وتحديث الإدارة وإنشاء المؤسسات العامة، والتخفيف من وطأة الإقطاع السياسي على الحياة السياسية اللبنانية، نجح في البعض منها  ولم ينجح في بعضها الآخر، خاصة وأن خليفته لم يكن له شخصيتة وقوتة وصلابته في التصدي للإقطاع السياسي والحزبي، فكان أن تصدى الأمن لهذه المهمة، فكانت مقتلة النهج الشهابي، الذي حاول البعض إستعادته عبر إعادة ترشيح الجنرال عام 1970، إلا أن شهاب أعلن في بيان تاريخي قراره بعدم الترشح مجدداً ، شارحاً بأن “تجربتي في السلطة قد أقنعتني بأن شعب بلادي، ليس جاهزاً ليتخلى عن العقلية الإقطاعية، والإقتناع بأهمية بناء الدولة الحديثة”. 

ويبدو أن الشعب اللبناني بمعظم فئاته السياسية والطائفية، للأسف الشديد، لم يقتنع حتى الآن بالتخلي عن هذه العقلية، التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، بعد أن إستبدلنا الأمير النبيل، الذي إعتزل الحياة السياسية ورحل عن هذه الدنيا يوم 25 نيسان من العام 1973، بأمراء حرب وسياسة “أكلة الجبنة والكاتوه.. وكل أخضر ويابس”. 

إقرأ أيضاً : الطريق إلى رئاسة الجمهورية (2): كميل شمعون.. من «فتى العروبة الأغر» إلى «بطريرك المارونية السياسية»!

السابق
بالفيديو والصور: زرازير تقتحم هذا المصرف.. والسبب؟
التالي
ما جديد الدولار؟