تاريخ النهضة في جبل عامل: الجعفرية والعاملية تنتصران على الكتاتيب (6)

جبل عامل
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر موقع جنوبية على حلقات ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.


بعد معاهدة 1936 السورية والتي اعترف بموجبها الوطنيون السوريون، بالحدود الحالية لسوريا في قبول ضمني لدولة لبنان بحدودها الحالية والمستقلة، وكان طبيعياً أن يتحول اللبنانيون جميعا ويتجهون نحو الحضن الوطني لصالح الوطن الصغير لبنان، الذي أضحى تبنيه من قبلهم خياراً عقلانياً، لا بد منه بفعل الجغرافية من جهة والمصلحة العليا للوطن من جهة ثانية، وقد بدأ المزاج الشيعي اللبناني يميل لصالح تلك المستجدات، وأصبحت المصلحة العليا للطائفة تقتضي اختيار سياسة الواقعية وانتقاء الأفضل بما فيه خير الأجيال المقبلة.   

اعتراف الشيعة بالدولة 

وقد اسفر بعد سنوات وبعد خمود حرب العصابات ضدّ الجيش الفرنسي في نواحي الجنوب واستتباب الامن، عن اعتراف متبادل من الشيعة بلبنان الكبير، مقابل اعتراف سلطة الانتداب بالوجود السياسي والديني للطائفة الشيعية، الذي كان مهمشا في ظل الحكم التركي، وغير معترف فيه الا تابعا لحكم الاكثرية السنية في العالم العربي.  

ووافقت سلطة الانتداب على دخول الشيعة الى نادي الطوائف اللبنانية بشكل رسمي، عبر تأسيس المحكمة الجعفرية عام 1926، بعد ان كانت الاحوال الشخصية للشيعة تتبع الفقه السني. 

  الوجه السياسي لهذا التحوّل المعرفي للشيعة تجلّى بالمطالبة بإنشاء محكمة جعفرية، تحت شعار المساواة بين الطوائف، فقد طالبت مجلة العرفان بذلك في مقالة في العام 1926 متمثلة بالنموذج العراقي، ومشدّدة على أنّ إنشاء هذه المحكمة لن يؤدي إلى نزاعات طائفية، لأنّ الطوائف الأخرى لديها محاكمها الخاصة ولم يؤد ذلك إلى مشاكل، وقد أصدر الانتداب الفرنسي قرار إنشاء المحكمة الجعفرية عام 1926 وعيّن الشيخ منير عسيران رئيسًا له. 

تأسيس المحكمة الجعفرية ساعد على تبلور موقع الطائفة الشيعية مقدمة لتقاسم السلطة وفق النظام المحاصصة الطائفي 

 وغني عن القول أن تأسيس المحكمة الجعفرية ساعد على تبلور موقع الطائفة الشيعية، مقدمة لتقاسم السلطة وفق النظام المحاصصة الطائفي الذي سيعمل به لاحقا بعد الاستقلال. 

الصراع بين الكتاتيب والمدراس الرسمية 

ابتدأت المدارس الرسمية بالظهور في جبل عامل في أوائل القرن العشرين، وكانت غالب العوائل العاملية تستنكف عن وضع أولادها في هذه المدارس خشية الانحراف، وكانت غالب المدارس الرسمية تقتصر في هيئتها التعليمية على معلم منفرد واحد، وفي احسن الأحوال قد يصل العدد إلى أستاذين. 

مع مجيء الانتداب الفرنسي، أخذوا يشجّعون المدارس الرسمية بوجه الكتاتيب، حيث كانت هذه المدارس تعاني من ندرة الطلاب فيها. فمثلا في بنت جبيل كان هناك ما يقارب سبعة كتاتيب، يضم أحدها حوالي مئة طالب (بينهم 20 فتاة) بإدارة الشيخ علي شرارة، وباقي الكتاتيب كانت تضم ما لا يقلّ عن 30 طالبا. وكان في بنت جبيل مدرسة رسمية واحدة لم تستطع استقطاب هذا العدد من الطلاب. 

في مطلع الأربعينات من القرن العشرين بدأ الفرنسيون سياسة جديدة في التعليم، وتشددوا في ملاحقة الكتاتيب ومشايخها، وسيّروا دوريات من الشرطة والدرك برفقة مدارء المداس الرسمية لإقفال الكتاتيب، بحجة عدم أهليتها وعدم استحصالها على ترخيص من وزارة المعارف، وكانوا يقتادون طلابها إلى المدرسة الرسمية لرفدها بالعدد المناسب من الطلاب، وقد افلحوا في إقفال العديد منها، وفي بدايات الخمسينيات من القرن العشرين، كانت غالب الكتاتيب قد أقفلت أبوابها، وغالب المعلّمين فيها قد التحقوا في المدراس الرسمية، كذلك الطلاب لمواكبة متطلبات الحياة الجديدة في جبل عامل بعد الاستقلال عن الفرنسيين. 

وساعد وجود الزعيم يوسف بك الزين المبكر في منطقة النبطية، ودعمه لانشاء المدارس الرسمية والخاصة الحديثة في هزيمة مدارس الكتاتيب،  وهو كان وطد علاقته بالفرنسيين ونال حصصا من الوظائف الرسمية والمناصب لاتباعه نتيجة لذلك. 

في العام 1921، أعاد ترميم المدرسة الحميدية في النبطية (مع أخيه الحاح حسين الزين) فجدد القسم الجنوبي والقسم الشرقي من المدرسة وأصبح كل قسم يحوي على خمس غرف، وسقفها بالباطون المسلّح، وباشر بعد ترميمها الشيخ محمد رضا الزين بالتدريس فيها، وأصبح اسمها المدرسة العلمية الأهلية في النبطية. 

المدارس الرسمية والخاصة تزدهر 

سنة 1938 انتهى عهد الكتاتيب، فأسس الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين مدرسة حديثة  أطلق عليها اسم “الكلية الجعفرية”، بدأت ابتدائية للبنين، ثم توسعت لتصبح تكميلية، ثم ثانوية. 

وقد تخرج منها مئات الأكادميين الجنوبيين في اربعينات وخمسينات القرن الفائت خصوصا، الذين قصدوها من جميع القرى والمناطق وسكنوا مدينة صور لمتابعة دراستهم، وكان جلهم من ابناء الوجهاء والعائلات الميسورة ماديا، واستلموا بعد نيل شهاداتهم المراكز والوظائف الرسمية الخاصة بحصة الطائفة الشيعية في اسلاك الدولة المدنية والتربوية والعسكرية، مع رفاقهم الجنوبيين حملة الشهادات من باقي المدارس الخاصة ومنها الارساليات المسيحية، التي فتحت فروعا لها في مدن صور وصيدا وبنت جبيل باشراف حكومة الانتداب الفرنسي، وقد كانت الشهادة الابتدائية قبل تطوير البرامج في الستينات، شهادة رسمية تخول صاحبها ان يتعيّن موظفا فئة رابعة في مؤسسات الدولة الرسمية. 

في مطلع الأربعينات من القرن العشرين بدأ الفرنسيون سياسة جديدة في التعليم، وتشددوا في ملاحقة الكتاتيب ومشايخها

كذلك في ثلاثينات القرن الماضي، أنشأ رشيد يوسف بيضون مدرسة في بيروت سماها «الكلية العاملية»، غايتها تعليم شباب جبل عامل النازحين من الجنوب اللبناني، وتحسين مستواهم الاجتماعي والعلمي. كما ساهم بيضون في إنشاء المؤسسة المهنية العاملية، بمساعدة تدريبية وعينية من دولة ألمانيا الاتحادية. 

اما في عهد الاستقلال  1943 فيسجّل التاريخ الحديث ان الدولة، التي شقت الطرقات وأوجدت الكهرباء ابتداء من منتصف القرن الفائت في جنوب لبنان، أنشأت أيضا ابتداء من هذا التاريخ العشرات من المدارس الرسمية المختلطة للبنين والبنات في كافة قرى ومدن جنوب لبنان، بمعدل مدرسة ابتدائية في كل قريتين، ومدرسة تكميلية لكل خمسة قرى صغيرة، اما المدارس الثانوية فقد انشأتها الدولة  في البلدات والمدن ذات الكثافة السكانية العالية، بينما بقي التعليم الجامعي حكرا على العاصمة بيروت، وذلك حتى اندلاع الحرب الاهلية عام 1975. 

السابق
لقاصدي منطقة السفارة الكويتية وصبرا.. تحذير من «قوى الأمن»!
التالي
«الفول» اللبناني و«المكيول» الايراني!