تاريخ النهضة في جبل عامل: ثورة السيد محسن الأمين لإصلاح شعائر عاشوراء(5)

السيد محسن الامين
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر "جنوبية" على حلقات ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء

كتب المستشرق “جون ورتابيه” سنة 1860، بضعة أسطر مقتضبة يصف ما كان يجري من احتفالات في ذكرى عاشوراء عندما زار جبل عامل فقال: 

“يقضي المتاولة الأيام العشرة الأولى من شهر محرم في حداد وبكاء، على ذكرى مقتل الحسين، ويقرأون في هذه الأيام رواية طويلة مؤثرة ويكفون عن العمل، ويسمونها الأيام العشرة”. 

وبعدعودة السيد حسن يوسف مكي من العراق سنة 1895، قام بعض الإيرانيين بإذن من السلطنة العثمانية وكانوا تجارا يقيمون بمدينة النبطية في ذكرى عاشوراء بممارسة الشعائر على طريقتهم في التطبير وشقّ الرؤوس والتشخيص أي تمثيل الفاجعة، وتطورت تلك الشعائر لاحقا لتؤدى في مسرح قرب حسينية النبطية التي بناها الشيخ عبد الحسين صادق عام 1910 بمشاركة العامليين الذين قلّدوا الايرانيين، فانتشرت المواكب واستقطبت الجماهير من القرى المجاورة. 

السيد محسن الأمين يفتي بحرمة التطبير 

على إثر وقوع اشتباك بين افراد من الشيعة والسنة في دمشق على خلفية قيام شباب شيعة بمواكب عاشوراء متحدين الأكثرية السنية أصدر المرجع الشيعي السيد محسن الامين الذي كان مستقرا في العاصمة السورية عام 1924 فتوى تحريم التطبير اي ضرب الرؤوس بالات حادة واسالة الدماء التي تجري في ذكرى عاشوراء، واستعان بالشرطة لإجبار من يقوم بها من المؤمنين على احترام أوامره، واستطاع بذلك أن يبطل الشعائر العنيفة. 

وقد كان لهذه الفتوى أصداء كثيرة، أول الأمر ليس في جبل عامل فحسب، ولكن حتى في العراق، لأنها قسمت المجتهدين والمراجع إلى معسكرين. وقد وجد كل منهم الفرصة ليؤكد تحالفاته أو عداواته في الصراع بين الحلقات الدينية. وبحسب إسحاق نقاش، فإن الصراع كان بين الجانب الفارسي وكان يمثله حسين النائيني وأبو الحسن الأصفهاني، وبين “الجانب العربي” وكان يمثله أحمد آل كاشف الغطاء؛ أضف إلى ذلك أن التنافس بين النائني ولأصفهاني كان على أشده في تلك الفترة.  

على إثر وقوع اشتباك بين شباب شيعة وسنة في دمشق على خلفية القيام بمواكب عاشوراء أصدر السيد محسن الامين فتوى تحريم التطبير 

وكان السيد محسن الأمين في تلك الفترة في لبنان، في قريته شقراء. وقد اشتدت الحملة ضده، ولا سيما في جبل عامل، ويروي الكاتب والمؤرخ العراقي جعفر الخليلي أن الشيخ عبد الحسين صادق في النبطية والسيد عبد الحسين شرف الدين في صور كانا يناهضان دعوته، وقد دفعه الغضب إلى الرد بكتاب “رسالة التنزيه”، وفيها رد على منتقديه وتأكيد لرأيه بتحريم شق الرؤوس بمناسبة عاشوراء. 

العرفان تنضم لمعركة الإصلاح 

كان الشيخ أحمد عارف الزين، صاحب العرفان، قد أعلن وجهة نظره حول ما يقام من شعائر يوم عاشوراء في النبطية، ولم يخف مواقفه الداعمة لموقف السيد محسن الأمين الإصلاحي، وأراد أن يفتح مجلته للجميع؛ فاجتاحت المناظرة العرفان في وقت متأخر، كما لو أن لبّ المسألة كان قد تم في النجف، 

وورد في العرفان فتوى المرجع الإيراني محمد تقي الأصفهاني، وقد نشرت قبل ذلك في مجلة إيرانية تصدر في مصر، في نيسان 1929؛ ولا يذكر كاتبها لا محسن الأمين ولا ما قام من جدل حول شعائر عاشوراء، إلا أن المسألة التي يطرحها على نفسه كانت مرتبطة بكل ما ارتفع من ضجة حول هذه القضية. كما أن نص الفتوى يطابق التي أوردها محسن الأمين، في جميع النقاط المطروحة: تحريم الشعائر القائمة على أدى النفس، ويصفها بـ”الأعمال الوحشية”. 

كما يذكر جعفر الخليلي قائلاً: “وقد كان لآل صادق وآل شرف الدين، ولآل الأمين، أصدقاؤهم ومؤيدوهم في النجف”، وبذلك انتقلت الخصومات العاملية إلى النجف حيث كانت قد نشرت رسائل ومقالات تناهض إصلاح السيد محسن الامين، وحتى انه تم انتقاد محسن الأمين أكثر من مرة في كتاب عيان الشيعة الذي ألّفه. 

إقرأ أيضاً : تاريخ النهضة في جبل عامل(4): «العرفان» تنقل ثقافة العامليين الى بلاد العرب

احتدام المعركة وانتصار الإصلاح 

وقد قسم الخلاف أول ما قسم الطلاب ورجال الدين العامليين المقيمين في النجف. وقد ناهض معظمهم رسالة التنزيه ولا سيما أنهم في المدينة المقدسة؛ أما مناصروها فقد تخفوا وصمتوا خوفاً من الانتقام منهم. وكان الشيخ محسن شرارة أول من رفع الصوت فكتب المقالات في الصحافة العراقية دفاعاً عن السيد محسن الأمين، فكان جزاؤه السباب والشتائم ولكن من ناحية ثانية بدأ الكلام يدور عليه ممتدحاً شجاعته، بالمقابل فإنه جرى تشويه أقوال السيد محسن الأمين وتلفيق الأخبار بأنه حرّم مجالس العزاء في ذكرى الحسين!  

ولكن ما لبث ان حصل الانقلاب في الراي العام الشيعي مقدمتهم بعد تأييد حركة السيد محسن الأمين من قبل المرجع السيد ابو الحسن الاصفهاني، والشيخ كاشف الغطاء، والشيخ النائيني،  والشيخ علي القمي، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والشيخ جعفر البديري، وكذلك كبير رجال الدين في البصرة السيد مهدي القزويني .

 عام 1895 قام بعض الإيرانيين في ذكرى عاشوراء بممارسة الشعائر على طريقتهم في التطبير وشقّ الرؤوس والتشخيص بمدينة النبطية 

ولما حاول قارىء العزاء الشهير في العراق صالح الحلي، تحريض السوقه والبسطاء على السيد الامين وهاجم المراجع الذين ناصروه، وشجع لعن السيد الأمين والسيد القزويني، عند ذلك أصدر السيّد أبو الحسن الأصفهاني فتوىً حرم فيها الاستماع لقراءة السيّد الحلّي، فأرّخ ذلك الشاعر الشيخ علي بازي قائلاً: 

أبو حسن أفتى بتفسيق (صالح)    قراءته أرّختها (غير صالحة)! 

لذلك ترك الناس مجالس السيّد صالح الحلّي بسبب هذه الفتوى ضدّه، وأحجم جمهور الشيعة على حضور مجاس العزاء التي يخطب فيها، واضطرّ إلى إعلان توبته إمام السيّد الأصفهاني، فعفا عنه وعاد لممارسة الخطابة الحسينيّة، وهذا ما يفسّر عنف ردات الفعل لدى أهل النجف، وانقلاب موقفهم. 

 وبالفعل، فقد قام السيد محسن الامين برحلة علمية إلى النجف عام 1933 بهدف جمع المعلومات لكتابه أعيان الشيعة، وذلك على الرغم من نصائح أصدقائه بالانتظار حتى تهدأ العاصفة، وقد وصل برحلته إلى العراق فإيران.  

و”قد استقبلته النجف استقبالاً حاراً؛ وتوافد سكانها كبيرهم وصغيرهم لملاقاته، كذلك فإن السيد الحلي خصمه اللدود جاءه معبراً عن عجبه من أنه رأى بدلاً من “الأموي”، رجلاً يفيض وجهه نوراً” كما قال أحد المؤرخين! 

السابق
السفير حمدان رداً على جنبلاط: حوارنا مع «الحزب» كالحوار مع «الذئب»
التالي
انخفاض طفيف للدولار مساءً.. كيف أقفل؟