حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: لبنان لا يقوى الا على الريادة والإنجاز

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

كانت افئدةُ اللبنانيين  ترقُصُ وتَحلمُ، وكانت عيونهم تلمع جَذْلَى، وهي تتابع الرقص في مدينة لوس انجلوس الاميركية، في اشهَرِ برنامجٍ للمَواهب الفنية في العالم (America’s Got Talent 2022)  قدمته فرقة فنية لبنانية تسمي نفسها ” المياس”.وقد أدهشت ” المياس” بصائر العالم وقدمت لوحات إبداعية ترسِمُ بالأجسادِ أحلاماً ورؤى، وتُقيمُ عُرساً للجمال والأناقة، وكتبت بتمايل القدود وخفقات الأيادي والأذرع، قصةَ شعبٍ يصنعُ من مأساتِه ملحمَةَ حياةٍ وفرح، واصراراً على النجاح والتقدم.

في المشهديةِ الأولى التي نالت بنهايتها الBonus الذهبي قدمت المياس، عرضاً حركيا راقصاً اذهلَ الحضورَ بدِقَتِه وإنسيابِيَتِه وإيقاعه، امَّا المشهديةُ الثانيةُ فقد كانت شرقية الهُويَّة، فعرضت لوحة إنعتاق المرأة الشرقية، جسدا وروحا، حيث نزعت عن وجهها البرقع، لتحاكي فضاء الحلاج الصوفي والروحاني، ولتنطق بشطر من قصيدته “روحه روحي وروحي روحه”، والقصيدة تقول : 

يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا

لَم يَزِدني الوِردُ إلا عَطشا

لي حَبيبٌ حُبُّهُ وَسطَ الحَشا

إِن يَشَأ يَمشي عَلى خَدّي مَشى

روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ

إِن يَشَأ شِئتُ وَإِن شِئتُ يَشا.

تأهلت” المياس” للدور النهائي بعد أن صوت لها الملايين من المشاهدين حول العالم، لا لشيء الا لجمال وريادة واتقان وابداع ما قدمته، وما أطلقته من آفاق ولوحات مذهلة الإمتاع.

كل من دخل لبنان عملاقا فاتحا وتوهم ان القرار والمصير قد حسم لصالحه خرج منهكا وقزما بعد حين

قبل ذلك بأسابيع معدودة، قدم شباب لبنان عبر منتخب لبنان في فريق كرة السلة إداءً محترفا ومحترما، أهّلَه للفَوزِ في بطولة آسيا، وفتح له طريق المشاركة في بطولة العالم لكرة السلة، بعد ان تغلب على فرق بلدان، عِملاقَة بإمكانياتها المالية والإقتصادية وتفوُّقِها الديموغرافي، وبالأعداد الهائلة لشعوبها كالصين والهند.

منذ أكثر من شهر تقريبا، كتب د. وجيه قانصوه في مقالته في موقع “جنوبية” قصة اُغنيةٍ شرقية اُخرى :《 لا يمكن بأي حال تصويرُ أغنية “سلام فرمنده” أغنيةً دينية مثل باقي الأدعية والتراتيل الدينية التي تمارسها الأديان والمذاهب في شعائرها ومناسباتها…لا تحث الأغنية على عبادة أو ممارسة شعيرة، فللأغنية نغمةٌ أيديولوجية متقنة، وإيقاعٌ سياسي مبرمج، تبدأ ب “إمامِ الزمان” وتنتهي بإمامَيّْ العصر، روح الله الخميني وعلي الخامنئي. مختزلة بذلك اللامتناهي، بتناه زمني ومكاني، ومحولة المُقدَّس إلى دنيوي وسلطوي، ومُسخِّرة كل قداساتِ المذهب الإمامي وعُصارتَه لصالح نظام سياسي وسلطة مشخصنة، وجاعِلَةً من فكرة المهدي المنتظر، مجردَ مقدمةٍ ومدخلاً لخاتمة وغاية كبرى هي سلطة الولي الفقيه…

لا يعني الأغنية ولا يهمها، أن تقدم للعالم نموذجَ حياةٍ أو طريقةَ وجود، أو بدائلَ معنى أو بُشرى إنفراج، فلغة الأغنية، على الرُغم من البراءة والطفولة الظاهرتين فيها، هي في صميمها لغةُ حربٍ ضد العالم ومنطقُ قطيعة معه، جاءت لتقول للعالم على لسان أصحابها ومموليها ومروجيها: لا شيء تغير منذ بداية الثورة، وإقامةِ دولة الولي الفقيه، نحن لا نُشبِهَكم ولا تُشبِهوننا في شيء، لكم دُنياكم ولنا دنيانا، لكم حقيقتكم ولنا حقيقتنا، وحربنا معكم مستمرة》.

بين المياس و”سلام فرمنده” وطنٌ يتلاشى ويتفكك ويتعفن، بين المشهديتين قصتين في زمان وحيد، واحدة ترسمُ الظلاميةَ والانغلاقَ وتُعلنُ العداءَ والانفصالَ عن بقية العالم، وتربِطُ حياةَ الناس بانتظار قدوم معجزة اسطورية، حيكت روايتها منذ ١٤٠٠ سنة، وتُستَحضَرُ تعسفاً، لتبرير الإستبداد والعدائية، وقصةٌ اُخرى تَرسِمُ الفرحَ والإبداعَ والإحترافَ، فتُقيمُ تواصلاً وتناغماً، يتفاعلُ معها الذوقُ الإنساني العالمي، ويُفرِدُ لها مرتبةً في صدارة شاشاته ومخياله.رحلةُ الترقِّي الى العالمية، لا تنحصر بفرقة الميّاس فقط، بل فعل ممارسة مستدامة يقوم به شباب وشابات لبنانيون، في الفن والطب والهندسة والعلوم الرياضية والطبيعية والأعمال والتجارة والفضاء والفلك، يبرعون كأفراد ومهارات وكرياديين، في عالم مفتوح على كل جديد.لكن الجديد الذي يجمع منتخب كرة السلَّة اللبناني، بفرقة الرقص “المياس” هو إبداعُ العمل كفريق، وليس إبداعَ الأفرادِ بشكل إستثنائي، لطالما تغنى كثيرون بنجاح اللبنانيين كافراد، وبفشلهم كجماعة.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ «جنوبية»: قلق يساور حزب الله (2)

حتى زعمَ البعضُ انَّ نجاحَ اللبنانيين في دول الاغتراب، هو بسبب إندماجهم بمجتمعات اخرى، وإبتعادهم عن ابناء جلدتهم، فيما فَشَلُ نظامهم السياسي وفَشَلُ دولتهم في وطنهم، متصلٌ بطبيعتهم التكوينية، التي ترفض العمل كفريق، وتتنازع المصالح وتتناتش المكاسب في كل جماعة.يختلف الأمرُ اليومَ، فلبنانُ الطاوي شعبه على جوع وفقر، وانعدام الخدمات والحاجات الاستهلاكية الاساسية، لبنان هذا يتخرج منه  فريقان لمنافسات عالمية، بطولة كأس العالم بكرة السلة، تدير منتخبه الوطني ادارة لبنانية كاملة، ويلعب في صفوفه لبنانيون اصيلون بكفاءة عالية،  ونهائيات المواهب الفنية الاميركية A.G.T، صبايا لبنانيات بادارة نديم شرفان.ثمة لبنان جديد ينهض وآخر يموت، لبنان الريادة والحداثة يؤسسه الشباب والشابات، اما لبنان الفشل والفساد والتفاهة والارتهان للخارج، لبنان المنظومة المتسلطة على مصير البلاد والعباد فيتبدى في مشهديتين؛ وزراء العتمة  يستكملون ظلام الليالي وانقطاع الكهرباء ويتحولون الى اطفال حجارة على بوابة فاطمة، اما “مدلوع الممانعة” فيعقد مؤتمرا صحفيا لا ليعتذر عن العتمة وجفاف السدود، وانفلات اسعار الوقود، او موت المساجين تحت التعذيب، بل ليستعيد تمردا افتعل حربين مدمرتين، ظنا منه ان الزرازير تصبح شواهينا.

بين المياس و”سلام فرمنده” وطنٌ يتلاشى ويتفكك ويتعفن بين المشهديتين قصتين في زمان وحيد


اخيرا ادعو معممي حزب الله والمتدينين فيه لحضور مشهديات فرقة المياس، وهي لوحات فنية ليس بها مجون او عري او ايروتية، ليدركوا داخل اسرار مكنوناتهم ان لبنان عصي على ما يتوهمون، ولا يقوى الا على الفرح والحياة ولا يليق به سوى الريادة والانجاز. 

إن استعصاء لبنان على الترويض والاستتباع، ليس لإثارة حماس، أو لدق نفير وطنية مفترضة، انه درس من تاريخ بعيد وقريب، فالتاريخ يخبرنا، انه يسهل دخول لبنان، ويتيسر بناء نفوذ فيه، ويتاح التحكم بقراراته لمرحلة تطول او تقصر، هذا ما حدث مع كل قوة اقليمية او دولية صاعدة…

لكن تتغير الاحوال والموازين، فكل من دخل لبنان عملاقا فاتحا، وتوهم ان القرار والمصير قد حسم لصالحه، خرج منهكا وقزما بعد حين، في الماضي البعيد حدث لابراهيم باشا وحملته المصرية ثم حدث مع كل زعماء العرب دولا وتيارات سياسية، كما حدث مع شارون وايهودا باراك و نتنياهو في اسرائيل، ومع الرئيس ريغان والادارات الاميركية التي اعقبت ولايته، و مع القوات المتعددة الجنسيات وفرنسا.التاريخ درس باهظ التكلفة، هل نتعلم!؟

السابق
هذا ما قدمه عون و«حزب الله» لإسرائيل على..«طبق من فضة»!
التالي
بعد محاولة شطب مرجعية القرارين 1559 و1680 من متن التجديد لليونيفيل.. المجلس العالمي لثورة الأرز يُطلق صرخة