كُلّ شيء أو لا شيء: سياسة الطاقة الأمريكية تجاه لبنان

هوكشتاين

مثَّل الوضع الكارثي الذي يعاني منه قطاع الطاقة في لبنان أحد الأسباب الرئيسة التي تدفع البلاد نحو انهيار اقتصادي وسياسي واسع النطاق. فعقب الفشل في تنفيذ إصلاحات حقيقية طوال عقود، لم يعد البلد يملك ترف الوقت ولا حتى الموارد المالية لتنفيذ أي إصلاحات في وقت باتت شوارعه وطرقه الرئيسة تغرق في ظلام دامس أثناء الليل بسبب انعدام الإضاءة وعدم قدرة الحكومة على توفير الكهرباء للناس لأكثر من ساعتين في اليوم. فعلى المستوى المحلي، هناك ضغوط متزايدة لإيجاد حل لأزمة الطاقة في البلاد، بينما على المستوى الدولي، باتت أنظار الولايات المتحدة وأوروبا تتجه نحو موارد الطاقة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وسط مخاوف من أزمة طاقة باتت تلوح في الأفق في أوروبا بسبب الحرب في أوكرانيا. وفي يونيو 2022، وبعد تعثُّر مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، عاد المبعوث الأمريكي الخاص ومنسق شؤون الطاقة الدولية الذي يتوسط بين الطرفين إلى المنطقة في محاولة لحثُّهما على استئناف المحادثات. 

تُحلل هذه الورقة مقاربة الولايات المتحدة ودورها المركزي في حل أزمة الطاقة في لبنان، وترسم السيناريوهات المحتملة لما قد تتكشف عليه هذه الأزمة. 

ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل

في 14 أكتوبر 2020، بدأ لبنان وإسرائيل محادثات غير مباشرة بوساطة أمريكية لترسيم حدودهما البحرية بإشراف الأمم المتحدة. وكانت الاتفاقية الإطارية التي أعلن عنها البلدان في الأول من أكتوبر 2020، أبرز محاولة دبلوماسية لحل الخلاف البحري وتأمين عمليات التنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط. كانت المفاوضات صعبة، وما يزال هناك العديد من التحديات القائمة التي قد تُبطئ من وتيرتها أو تُعرقِل مسارها. مع ذلك، في ظل الضغط الداخلي المتصاعد وزيادة الطلب على الطاقة عالمياً، قد تكون هناك فرصة لإبرام صفقة بين إسرائيل ولبنان بوساطة أمريكية. 

اقرأ أيضاً: لماذا تواصل إسرائيل استهداف طرطوس الواقعة ضمن الحماية الروسية؟

 على مدى العقد الماضي، حاول الوسطاء الأمريكيون تحقيق انفراجة في الخلاف بين لبنان وإسرائيل على الحدود البحرية، وذلك بهدف تسجيل نصر دبلوماسي في الشرق الأوسط وعزل حزب الله من خلال القنوات الدبلوماسية. لكن هذه الجهود باءت بالفشل بسبب افتقار لبنان للإرادة الدبلوماسية والسياسية اللازمة للدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل. بيد أنّ الانهيار المالي في البلاد، والخوف من انهيار مؤسسات الدولة ككل، دفع صانع القرار اللبناني للإعلان في أكتوبر 2020 عن استعداده للتفاوض على ترسيم نهائي للحدود مع إسرائيل بوساطة أمريكية. 

تقدر مصادر رسمية لبنانية أن البلاد تمتلك نحو 96 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي، و865 مليون برميل من النفط في البحر، وهي في أمس الحاجة للمضي قُدماً واستغلال هذه الثروة لإنعاش اقتصادها المتهاوي. ويتمحور النزاع بين لبنان وإسرائيل على حصة كل جانب في منطقة بحرية تبلغ مساحتها 860 كيلومتراً في البحر، والتي تغطي البلوكات أرقام 8 و9 و10. وفي البداية، اتخذ لبنان موقفاً متشدداً في مفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل، بما في ذلك رفضه القبول بما يسمى بـ “خط هوف”، الذي سُمِّي على اسم الدبلوماسي الأمريكي فريدريك هوف، الذي اقترح في عام 2012 منْح لبنان 550 كيلومتراً مربعاً من أصل 860 كيلومتراً مربعاً. وقد رفضت السلطات اللبنانية الاقتراح وأصرت على حصول البلاد على كامل حقوقها في هذه المنطقة المتنازع عليها.

لكن مع استمرار الأزمة الاقتصادية في لبنان، ووضع دول الخليج شروطاً لمساعدة بيروت، وجدت الأخيرة نفسها في موقف ضعيف ودارت أحاديث في وسائل الإعلام حول احتمال أن يتبنى لبنان نهجاً “أكثر ليونة” في المفاوضات. وبالتالي، لم يدخل لبنان المفاوضات في أكتوبر 2020 من موقع قوة، بالنظر إلى حاجته الاقتصادية الماسة للمساعدات الخارجية وتمهيد الطريق سريعاً أمام بدء تدفق عائدات الغاز المحتملة. كما رفض لبنان الانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط أو أي آلية إقليمية أخرى تشمل إسرائيل. لذلك، كانت البلاد معزولة إلى حدٍّ ما عن مشاريع الغاز بشرق البحر الأبيض المتوسط، نظراً للتحالف الناشئ بين إسرائيل ومصر وقبرص واليونان.

بدأت إسرائيل التنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط قبل عقدين من الزمن. وقد ضخَّت الحكومات الإسرائيلية استثمارات هائلة في رسم خرائط احتياطيات الغاز المحتملة، وتقدير قيمتها الاقتصادية، والشروع في عمليات حفر استكشافية، وبناء البنية التحتية لإنتاج ونقل الغاز إلى إسرائيل. واليوم، يأتي أكثر من ثلثي الكهرباء المنتجة في إسرائيل من الغاز الطبيعي.من وجهة نظر إسرائيل، لن يؤدي ترسيم الحدود البحرية مع لبنان إلى أي تغيير في إمدادات الغاز الطبيعي لإسرائيل، إلا أن له أهمية إقليمية أكبر فيما يتعلق باحتياطيات الغاز في المنطقة وتصديرها إلى أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من ضغوط المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتأجيل المفاوضات، “تريد الحكومة الإسرائيلية إتمام المفاوضات قبل سبتمبر 2022، وهو التاريخ الذي يتوقع فيه أن تبدأ منصة كاريش الإسرائيلية باستخراج الغاز”. وما يُقلق الإسرائيليين على وجه التحديد أنَّه إذا لم يتم التوقيع على صفقة لحل النزاع بحلول ذلك الوقت، فقد يعمد حزب الله إلى ممارسة بعض الاستفزازات.

على المستوى الإقليمي، إذا نجح كلٌّ من لبنان وإسرائيل في إبرام اتفاق، فقد يشرعان بدراسة إمكانية إنشاء نظام إقليمي لنقل الغاز من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا يشارك فيه كلٌّ من مصر وقبرص. وهنا ينبغي التنويه إلى أنه يوجد ثلاث طرق بديلة لنقل الغاز إلى أوروبا: (1) عبر مرافق للتسييل في مصر و/أو قبرص، ومن هناك يُنقَل عبر ناقلات إلى الموانئ الأوروبية؛ (2) عبر خط أنابيب يمتد من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى جنوب أو شرق أوروبا (ربما اليونان)؛ (3) عبر خط أنابيب قصير نسبياً يتم ربطه بنظام خطوط الأنابيب في تركيا ومنها إلى أوروبا. وفي مارس 2022، زار الرئيس الإسرائيلي تركيا وأجرى محادثات رسمية مع الرئيس التركي أردوغان حول هذا الموضوع. وفي الوقت نفسه، فإن التكلفة العالية لكلٍّ من هذه الطرق تتطلب من جميع دول شرق البحر المتوسط الموافقة على الاستخدام المشترك لمرافق النقل من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية، وخاصة الأوروبية. ومن ثمّ، فإن الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية هو خطوة أساسية لبدء عمليات التنقيب عن الغاز وإنتاجه في المنطقة المتنازع عليها.

على عكس إسرائيل، فإن لبنان من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS). وطريقة ترسيم الحدود البحرية للدول الموقعة وغير الموقعة على الاتفاقية مختلفة. ففي عام 2007، اتفق كلٌّ من لبنان وقبرص على ترسيم حدودهما البحرية بناءً على الاتفاقات الموقعة في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولكن بما أن لبنان اختار عدم المصادقة عليها لأسباب سياسية، وحقيقة أن تركيا تخلَّت عن جميع الاتفاقيات المشابهة مع قبرص، فإن الاتفاقية لم تكن مُلزِمة. في غضون ذلك، توصلت إسرائيل وقبرص في عام 2011 إلى اتفاق بشأن حدودهما البحرية التي تغطي المنطقة المتنازع عليها التي كان لبنان يطالب بها.مع ذلك، وبعد تفشي جائحة كوفيد-19 وغياب الإرادة السياسية لدى الجانب اللبناني، لم تُحقق هذه المفاوضات أي اختراق يذكر حتى عام 2022. 

توترات مُتجدّدة وفُرَص جديدة 

في 7 يونيو 2022، تجددت التوترات بين إسرائيل ولبنان مرة أخرى بعد مجيء شركة إنرجيان (Energean) لاستكشاف النفط والغاز – ومقرها المملكة المتحدة (المملوكة جزئياً لشركة يونانية)- إلى منطقة بحرية بالقرب من حقل غاز كاريش المتنازع عليه. وقد أثارت الخطوة غضب الحكومة اللبنانية التي أعلنت احتجاجها على تصرفات إسرائيل، ودعت المبعوث والوسيط الأمريكي عاموس هوكستين للعودة إلى المنطقة في 13 يونيو واستئناف عملية الوساطة. وظل حزب الله يراقب التطورات عن كثب رغم أنه ليس جزءاً من مفاوضات ترسيم الحدود ولكنه لاعب أساسي فيها. وكرد فعل على وصول الشركة إلى المنطقة، قال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، يوم 9 يونيو 2022، إن الحزب لن يقف مكتوف الأيدي “أمام نهب ثروات لبنان”. وقال إن “المقاومة لديها القدرة الفنية على منع العدو من استخراج الغاز من كاريش ولن أقول كيف”.

ومع استئناف المفاوضات بوساطة المبعوث الأمريكي عاموس هوكستين، وللضغط على مسار المحادثات، أرسل حزب الله ثلاث طائرات من دون طيار باتجاه إسرائيل في 2 يوليو 2022. وأعلن الجيش الإسرائيلي إنه أسقط الطائرات المسيرة أثناء تحليقها باتجاه منطقة تم فيها تركيب منصة غاز إسرائيلية مؤخراً في البحر الأبيض المتوسط. ويبدو أن إرسال الطائرات كان محاولة من قبل حزب الله للتأثير على مسار المفاوضات، التي تتوسط فيها الولايات المتحدة، لصالح لبنان. وقال نصر الله في كلمة متلفزة إن لبنان يجب أن يكون قادراً على استخراج النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، وحذَّر من أن إرسال الطائرات المسيرة فوق حقل كاريش للغاز في البحر المتوسط في وقت سابق من هذا الشهر كان “رسالة البداية لما يمكن أن يتجه إليه الوضع”. 

من جانبهم، قال مسؤولون في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إنه نظراً لتوقُّع انتهاء المفاوضات “قريباً”، فإن حزب الله يحاول تسجيل مكاسب من خلال استفزاز إسرائيل، لتعزيز صورته على أنه “المدافع عن لبنان” والادعاء لاحقاً بأن إسرائيل “رضخت” بفعل تهديدات الحزب. ولا تستبعد مديرية المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي إمكانية شنّ حزب الله هجمات إضافية على منصة الغاز قريباً، أو استفزاز إسرائيل بأي طريقة أخرى. فوفقاً لمسؤولين إسرائيليين، يفترض نصر الله مستوى معيناً من المخاطرة بسلوكه ولكنه لا يُقدِّر أن إسرائيل يمكن أن ترد على تصرفاته بقوة. وفي يوم 22 أغسطس، وجه وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس تهديداً إلى لبنان قائلاً إن أي هجوم على مرافق الغاز قد يشعل حرباً.

في تلك الأثناء، وصلت المفاوضات إلى مرحلة متقدمة وأظهرت مؤشرات أن المحادثات قد تسفر عن بعض النتائج قريباً. وفي اختتام زيارة إلى لبنان وإسرائيل في يونيو وإجرائه محادثات مع الجانبين، صرَّح مكتب الوسيط الأمريكي عاموس هوكستين أن “المحادثات كانت مثمرة ودفعت باتجاه تضييق الخلافات بين الجانبين”. وذكر البيان أيضاً أن الولايات المتحدة ستظل على تواصل مع أطراف النزاع في الأيام والأسابيع المقبلة. في غضون ذلك، قال رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني نجيب ميقاتي للصحفيين إن لبنان تلقى “معلومات مشجعة” بشأن النزاع الحدودي مع إسرائيل، لكنه رفض الإدلاء بمزيد من التصريحات قائلاً إن بيروت تنتظر “الرد الرسمي المكتوب على اقتراحات الجانب اللبناني”.

وذكرت صحيفة “الأخبار” اللبنانية يوم 8 يوليو أن الولايات المتحدة كثَّفت من جهودها للتوسط في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل ولبنان حول الحدود البحرية المتنازع عليها وسط احتمالية الوصول إلى صفقة تبادل محتملة يحصل من خلالها لبنان على بلوك قانا للغاز وتحصل إسرائيل على حقل كاريش. وكانت مصادر رسمية لبنانية كشفت لوكالة فرانس برس أن كبار المسؤولين اللبنانيين اقترحوا ألا تشمل الحدود البحرية للبلاد حقل كاريش، وفي المقابل الحصول على حقل قانا القريب بدلاً منه. وترتبط هذه المرونة النسبية للقيادة اللبنانية مقارنة بمطالبها المتشددة السابقة بعدد من الاعتبارات المحلية والدولية والأمريكية للمفاوضات. 

التحول في موقف لبنان وسياسة الطاقة الأمريكية في لبنان

يرتبط التحول في موقف لبنان في أكتوبر 2020 والانخراط مجدداً في جهود الوساطة الأخيرة بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد المحلي، باتت الضغوطات الناجمة عن أزمة الطاقة في البلاد أكثر حدة من أي وقت مضى، وبات الناس يلجأون إلى شركات مولدات خاصة لتأمين التيار الكهربائي. وقد حاولت الحكومة اللبنانية وشركاؤها الدوليون تنفيذ حلول قصيرة المدى لوقف التدهور الحاصل في قطاع الكهرباء، لكنها فشلت حتى الآن في تبني أي إجراءات من شأنها ضمان استقرار الوضع، بسبب الافتقار إلى الإرادة السياسية في البلاد. وفي يونيو 2021، أبرمت الحكومة اللبنانية اتفاقاً مع العراق لتزويد محطتين لتوليد الكهرباء في لبنان بالوقود العراقي. وقد جرى يوم 22 أغسطس تجديد الاتفاق، الذي كان من المفترض أن ينتهي في سبتمبر 2022، لعام إضافي بسبب استمرار حاجة البلاد الماسة للوقود.

يسعى الرئيس اللبناني ميشيل عون إلى ترك بصمة إيجابية على مسيرته الرئاسية قبل مغادرته منصبه في أكتوبر. فقد شهدت فترة حكمه انهياراً مالياً ومؤسسياً وانفجار ميناء بيروت الذي عصف بالمركز الاقتصادي للبلاد. لذلك، يسعى الآن هو وفريقه حثيثاً لإبرام اتفاق بشأن ترسيم الحدود مع إسرائيل، وذلك للاستفادة منه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما يبدو أن حزب الله هو الآخر مهتم كثيراً بالاتفاق المزمع، فلقد لوحظ أن هناك تغيُّراً في موقف الحزب من هذه القضية، الذي لولا موافقته ومباركته لما اندفعت الحكومة اللبنانية للسير في عملية المفاوضات. كما يعي الحزب أيضاً الفوائد الاقتصادية التي سيعود بها مثل هذا الاتفاق. فعلى الرغم من التهديدات التي وجهها أمينه العام لإسرائيل، يحاول الحزب التعقل والتريث لأنه يدرك المخاطر التي قد تنطوي عليها أي مواجهة عسكرية جديدة مع إسرائيل، ويرى أن مثل هذا الصدام لن يلقى قبولاً كبيراً في الشارع اللبناني على عكس ما حصل في حرب عام 2006، بل إن اتفاقاً حول الطاقة هو ما ينتظره اللبنانيون.

وبالتالي، فإن التغيير المفاجئ في موقف لبنان وتنازله عن المطالبة بأن يتم ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل على أساس خط 29 (الذي يشمل حقل غاز كاريش)، والقبول بالترسيم وفق خط 23 (الذي يستثني حقل كاريش ويطالب فقط بحقل قانا بأكمله)، وبعض المناطق الإضافية، هو في جزء منه نتيجة لاعتبارات محلية ترتبط بالوضعين السياسي والمالي في البلاد. كما أن هذا التحول يرتبط ارتباطاً وثيقاً أيضاً بعوامل خارجية، لا سيما المقاربة التي تتبعها الولايات المتحدة لحل أزمة الطاقة في لبنان، مما يضع لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الحصول على مصادر متنوعة للطاقة، أو عدم الحصول على أي شيء.

تتبنى الولايات المتحدة مقاربة شاملة تجاه أزمة الطاقة في لبنان من خلال ربط ترسيم الحدود البحرية والحصول على مصادر الطاقة في البحر، باتفاقية أخرى من عام 2021 باتت في مراحلها الأخيرة لكنها تنتظر موافقة أمريكية عليها. ففي أواخر عام 2021، بدأ كلٌّ من لبنان وسوريا والأردن ومصر محادثات بدعم أمريكي لتصدير الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سوريا إلى لبنان. وبموجب الاتفاقية، سيتم تصدير 650 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً عبر خط الغاز العربي. ومع ذلك، فإن الإمداد الفعلي للغاز، وفقاً لشروط البنك الدولي، يتطلب موافقة أمريكية لاستثناء مصر من العقوبات المفروضة على الحكومة السورية. بعبارة أخرى، قد يؤدي عدم التوصل إلى اتفاق بشأن قضية ترسيم الحدود البحرية إلى تعريض الاتفاقية الأخرى للخطر وترك اللبنانيين غارقين في أزمة طاقة حادة. فقد قال المبعوث الأمريكي عاموس هوكستين، بعد وصوله إلى بيروت في 14 يونيو، إن الولايات المتحدة ستنظر في الاتفاق النهائي بين مصر ولبنان وتُقيّم مدى امتثاله للعقوبات المفروضة على سوريا. وهذا التصريح يعني أن الولايات المتحدة لن تتردد في ممارسة مزيد من الضغوط على لبنان.

وقد أشار خبراء طاقة لبنانيون بالفعل إلى هذا الجانب. فقد قالت الخبيرة في شؤون الطاقة، لوري هايتايان، إن الهدف الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه هو إيجاد نوع من الربط في المنطقة بهدف تعزيز الاستقرار والحيلولة دون اندلاع أي نزاعات جديدة في المستقبل. وترى هايتايان أن ربط لبنان بمشروعات طاقة إقليمية سيجعل من الصعب عليه الانغماس في حرب مع إسرائيل. وتضيف الخبيرة: “لبنان بحاجة للغاز، وإسرائيل بحاجة إلى الاستقرار، والولايات المتحدة تريد أن تعطي لكل منهما ما يريده”. ويتفق مارك أيوب، خبير الطاقة والزميل المشارك في معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت، مع هايتايان، ويضيف أن الأمريكيين يضغطون على لبنان للقبول بـ “صفقة طاقة شاملة”، ويشير إلى أن لسان حال الولايات المتحدة يقول للبنان “إذا وقعتم على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية، ستحصلون على الغاز والكهرباء، وربما على تمويل من صندوق النقد الدولي أيضاً”.

كان من الممكن أن يُضيف المناخ الدولي المرتبط بالحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة الطاقة المتزايدة في أوروبا بُعداً دولياً آخر للمفاوضات اللبنانية الإسرائيلية. فقد دفعت الحرب في أوكرانيا واستخدام روسيا لـ “ورقة الطاقة” رداً على العقوبات الاقتصادية الغربية أوروبا إلى البحث عن مصادر بديلة لإمدادات الطاقة. وفي مايو 2022، كشفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن خطة لتقليل اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسي. فخلال مؤتمر صحفي مشترك في بروكسل، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن تشكيل فريق عمل مشترك مهمته العمل على تقليص اعتماد الاتحاد على واردات الطاقة الروسية. وبالنتيجة، أدى بحث الاتحاد الأوروبي عن مصادر بديلة للطاقة إلى تسريع فكرة تصدير الغاز من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا.

مما لا شك فيه أنه لا يمكن حالياً، وبأي حالٍ من الأحوال، المقارنة بين إمدادات الطاقة من منطقة البحر الأبيض المتوسط وبين الصادرات من روسيا، التي زودت أوروبا في عام 2021 بـ 155 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. فقد بلغ إجمالي إنتاج مصر وإسرائيل من الغاز الطبيعي في عام 2021 حوالي ملياري متر مكعب فقط، استحوذت مصر على 1.742 مليار متر مكعب منها في حين استحوذت إسرائيل على 330 مليون متر مكعب. ومع ذلك، يسعى الاتحاد الأوروبي حالياً إلى تأمين أكبر عدد ممكن من موردي الغاز الطبيعي، وهناك اهتمام أوروبي حقيقي بالمنطقة. ويُنوِّه أيوب إلى المشاريع الجارية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك وصول سفينة عائمة لتفريغ وتخزين إنتاج الغاز إلى حقل كاريش، وأعمال الحفر التي تقوم بها شركتا توتال وإيني في قبالة قبرص، وإعلان شركة شيفرون عن عمليات حفر جيدة قريباً في حقل أفروديت، وإعلان كلٍّ من شركة إكسون وقطر للبترول نيتهما العودة إلى قبرص لإجراء بعض الأعمال، ونجاح مصر في زيادة قدرتها على تسييل الغاز.

في غضون ذلك، وقَّع الاتحاد الأوروبي في 15 يونيو اتفاقاً مع إسرائيل ومصر للسماح لإسرائيل ببيع الغاز إلى أوروبا عبر محطات الغاز الطبيعي المسال المصرية. الاتفاق كان صريحاً في التأكيد على أن يشجع الاتحاد الأوروبي الشركات الأوروبية على الاستثمار في استكشاف وتطوير النفط والغاز في إسرائيل ومصر، مما قد يفتح الباب أمام شركات مثل توتال وإيني الموجودة بالفعل في مصر وقبرص ولبنان للدخول إلى السوق الإسرائيلية. وسيكون ذلك بالتأكيد مكسباً لإسرائيل، وسيُمهِّد الطريق أمامها لبيع الغاز لأوروبا، وهي السوق التي طالما أراد الإسرائيليون أن يكون لهم حصة فيها. 

كل هذه التطورات ستجعل الأمريكيين والأوروبيين يمارسون مزيداً من الضغوط على المسؤولين اللبنانيين لإتمام الصفقة مع إسرائيل والتوقيع عليها قريباً. فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لديهم مصلحة كبرى في تطوير حقول الغاز الإسرائيلية وتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا. كما أن الأوروبيين يبحثون عن مصادر غاز قريبة يمكن استغلالها وإنتاج الغاز منها في غضون شهور وليس سنوات. وهذا هو سر الاهتمام الكبير في المنطقة في هذا التوقيت بالذات.

السيناريوهات المحتملة 

لا تزال النتيجة التي ستُسفِر عنها المفاوضات غير المباشرة الجارية بين إسرائيل ولبنان حول ترسيم الحدود البحرية غير واضحة إلى الآن. فعلى الرغم من حالة التفاؤل التي باتت تسود في لبنان بشأن المفاوضات، إلا أن أي تطور سياسي مفاجئ في لبنان أو المنطقة قد يؤدي في النهاية إلى الفشل في إبرام اتفاق بين الجانبين، فضلاً عن أن احتمالية حدوث تصعيد عسكري بين الطرفين لا تزال مرتفعة. وبناءً على هذه المعطيات، يمكن رسم السيناريوهات التالية لما قد تؤول إليه الأمور. 

1. الفشل في التوصل إلى اتفاق، ومُضي إسرائيل نحو استكشاف حقل كاريش. من شأن هذا السيناريو أن يدفع حزب الله إلى التصعيد بهدف الحصول على مكاسب ينسبها لنفسه. ففي خطابه في يوليو، استذكر نصر الله معادلة “حيفا وما بعد حيفا” التي أعلنها قبل أسابيع من حرب يوليو 2006، وأكد مجدداً أن حزبه لن يقف عند حقول كاريش، بل سيؤسس معادلة “كاريش وما بعد كاريش”.[38] ومن أجل توجيه دفة المفاوضات لصالح لبنان، من المرجح جداً أن يعمد الحزب إلى التصعيد والقيام بأعمال استفزازية للضغط على إسرائيل للموافقة على الصفقة المقترحة، وعلى واشنطن كذلك، لتسهيل استكشاف حقول النفط والغاز الواقعة ضمن حدود لبنان البحرية. كما سيستفيد حزب الله أيضاً من حقيقة أنه في نوفمبر 2022 ستكون هناك انتخابات برلمانية في إسرائيل، وستكون تل أبيب أكثر تسامحاً مع أي ضغوطات قد يمارسها الحزب، لأنها لا تريد التورط في حرب كبرى قد تصل فيها صواريخ حزب الله إلى البنية التحتية لمشاريع الطاقة وتخلف دماراً كبيراً فيها. وفي رده على التهديدات الإسرائيلية الأخيرة، أعلن نصر الله أن حزبه مُستعد للحرب ولن يسمح للإسرائيليين باستكشاف حقل كاريش قبل التوصل إلى اتفاق نهائي بين البلدين. وقال الامين العام لحزب الله “سواء تم التوقيع على اتفاق نووي مع إيران أم لا؛ إذا لم يُعطِ الوسيط الامريكي للبنان ما طلبه من حقوقه فنحن متجهون نحو التصعيد”. ومن المرجح أن يضر مثل هذا التصعيد بصورة الولايات المتحدة “كوسيط” في المنطقة، ويترك أزمة الطاقة في لبنان دون حل.

2. تأجيل التوقيع على اتفاق إلى ما بعد الانتخابات في إسرائيل. فقد أفادت صحيفة “الأخبار” اللبنانية أن المسؤولين الإسرائيلين يدرسون تأجيل استخراج الغاز من حقل غاز كاريش المتنازع عليه. كما أن هناك خلافات بين الحكومة الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية التي تطالب باتخاذ موقف حازم تجاه قيام حزب الله بتسيير طائرات دون طيار فوق باتجاه إسرائيل. وعلى الرغم من موقفه من إتمام الاتفاق، فإن بعض الاعتبارات الداخلية في إسرائيل قد تدفع رئيس الوزراء لبيد إلى تأجيل التوقيع عليها لكي لا تتهمه المعارضة بأنه تساهل أكثر من اللازم مع لبنان وقَبِلَ التوقيع على اتفاق تحت وقع “تهديدات حزب الله”. لذلك، قد تؤجل الحكومة الإسرائيلية توقيع الاتفاق إلى ما بعد نوفمبر، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن الانتخابات قد تطيح بلبيد لصالح حزب الليكود بزعامة نتنياهو، مما قد يؤدي إلى تحول في السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان. وهذا بالطبع من شأنه أن يزعج لبنان الذي يسعى حثيثاً لإتمام الاتفاق قبل نهاية ولاية عون الرئاسية، وقد يدفع حزب الله للقيام “بعمليات طائرات مسيرة” مماثلة لزيادة الضغط على إسرائيل ولكن دون الإضرار بسمعة لبيد خوفاً من أن نتنياهو (في حال فاز حزبه بالانتخابات) قد يتخذ موقفاً أكثر تشدداً تجاه المفاوضات. ومثل هذا السيناريو يُمكن أن يعطل جميع المفاوضات التي تتطلب موافقة أمريكية، وهي استكشاف موارد الطاقة تحت البحر، وكذلك مشروع ضخ الغاز والكهرباء من مصر والأردن، على التوالي، إلى لبنان، وبالتالي إطالة أمد أزمة الطاقة في لبنان.

3. الوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين وتوقيعه قبل سبتمبر. تسعى الحكومة الإسرائيلية برئاسة يائير لابيد إلى تحقيق أي انفراجة في المنطقة من أجل تعزيز حظوظه في الانتخابات المقبلة ضد رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو. وبالفعل، بعث بيان مشترك وقع عليه ثلاثة وزراء إسرائيليين (وزراء الخارجية، والأمن، والطاقة) برسالة تهدئة إلى الجانب اللبناني، يؤكدون فيه أن إسرائيل لا تسعى لأي تصعيد عسكري. وسيكون الوصول إلى اتفاق بين لبنان وإسرائيل ورقة مهمة يمكن أن يستخدمها الائتلاف الحاكم حالياً في إسرائيل في الانتخابات المقبلة. ومما لا شك فيه أن لبنان يريد أيضاً إبرام هذا الاتفاق. وفي هذه الحالة، يمكن لحزب الله وحلفائه الاستفادة من هذا “النصر” وتسمية رئيس داعم لتوجهاتهم السياسية. كما يتماشى هذا النهج أيضاً مع موقف رؤساء السلطات الثلاث في لبنان (رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان) لأنهم هم كذلك يريدون الخروج بأي “إنجاز” أمام الرأي العام ويستثمرونه سياسياً في أي نظام سياسي جديد قد يحل محل نظام الحكم القائم حالياً في لبنان. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن مثل هذا الاتفاق سيعزز مكانتها في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط “كوسيط”، ويزيد من نفوذها السياسي في لبنان (من خلال تسهيل إبرام صفقات طاقة أخرى) والمنطقة.

السابق
لماذا تُعارِض إيران محاولات تغيير الحدود الجغرافية لمنطقة القوقاز؟
التالي
حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: طهران تتشدد وواشنطن ترفض وتل ابيب تنتظر!