لماذا تواصل إسرائيل استهداف طرطوس الواقعة ضمن الحماية الروسية؟

غارات اسرائيلية

في 14 أغسطس الجاري استهدفت الطائرات الإسرائيلية للمرّة الثانية، وفي مدى زمني لا يتعدى شهراً ونصف، مواقع في محافظة طرطوس السورية الساحلية، التي يشكل ميناؤها القاعدة الروسية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط. ويُعدّ هذا تطوراً لافتاً، إذ طالما تجنَّبت إسرائيل الاحتكاك بالمواقع الروسية إلى هذه الدرجة، وخاصة أن المنطقة المستهدفة لا تبعد سوى ثماني كيلو مترات عن القاعدة البحرية، ما يعني أن مقذوفات الطائرات الإسرائيلية قد اخترقت نطاقات التشغيل الراداري للقاعدة الروسية، الأمر الذي يثير التساؤل عن دوافع إسرائيل إلى هذه المغامرة، وأسباب صمت روسيا عن الرد عليها؟

ما وراء ضرب طرطوس

لم يتم استثناء طرطوس سابقاً من بنك الأهداف الإسرائيلية في سورية بسبب وقوعها تحت مظلة الحماية الروسية، ووجود الأصول العسكرية الروسية المهمة فيها فقط، ولكن غالباً بسبب عدم وجود حاجة عملانية تستدعي الاستهداف، ذلك أن طرطوس لم تكن على خارطة طريق شحن الأسلحة الإيرانية الى حزب الله في لبنان، والتي كانت تأخذ مسارات برية أو عبر مطار دمشق الدولي.

اقرأ أيضاً: فيينا بين الرد والرد على الرد

وتشير وتيرة الضربات الإسرائيلية الأخيرة إلى تحويل إيران جزء من نشاطها إلى طرطوس، وإذا كان من غير الممكن نقل الأسلحة الإيرانية براً إلى طرطوس، نظراً لبعد المسافة عن الطريق التقليدي المعروف الذي يمر عبر بادية تدمر، فإن التفسير المنطقي أن هذه الأسلحة تصل عبر الطرق البحرية، وربما عبر ميناء اللاذقية، على اعتبار أن ميناء طرطوس مرصود من قبل الروس الذين يتولون إدارته بالكامل بحكم وجود قاعدة بحرية لهم فيه، ثم تُنقَل هذه الأسلحة إلى مواقع عسكرية بالقرب من طرطوس، التي لا تبعد عن الشمال اللبناني سوى 50 كم، ما يجعلها بعيدة عن المناطق التي ترصدها إسرائيل والتي تقع في الغالب في القلمون وريف دمشق، بدليل أن إسرائيل استهدفت هذه المناطق بـ 19 غارة جوية هذا العام.

لكن يبدو أن ما يُنقَل إيرانياً عن طريق طرطوس، هي أصول عسكرية ذات خطورة كبيرة في التقدير الإسرائيلي، الأمر الذي يُفسِّر سبب مخاطرة إسرائيل في قصف هذه المناطق الواقعة تحت حماية الرادارات الروسية، وسبق أن صرحت الحكومة الإسرائيلية أنها استهدفت أسلحة كاسرة للتوازن (الأرجح أنها أنظمة دفاع جوي) وصلت عن طريق ميناء طرطوس، وكان سيجري نقلها إلى حزب الله.

لكن السؤال الذي يتبادر للذهن هنا، هو: هل تقوم إيران بهذه التحركات دون علم الجانب الروسي؟ الجواب كلا، لأن الروس يرصدون المنطقة بهدف حماية قواتهم، ويعلمون أن إسرائيل لن تتوانى عن استهداف هذه الشحنات، حتى لو كانت داخل الموانئ نفسها، إذ سبق أن استهدفت إسرائيل ميناء اللاذقية بشكل مباشر، كما أخرَجت مطار دمشق الدولي عن العمل بسبب شكِّها بوصول أسلحة قادمة من إيران. وتعلم روسيا حجم المخاطر التي تترتب على الضربات الإسرائيلية، واحتمالات الخطأ الممكنة، كما حدث عند إسقاط طائرة روسية في سبتمبر 2018، وبالتالي فإن هناك احتمالين لتفسير ما يحصل:

1. أن روسيا لا تعلم، في حين تستخدم إيران موانئ صغيرة، مثل ميناء بانياس. وبما أن السواحل السورية مرصودة بالكامل من قبل روسيا، فإن إيران، بالتعاون مع الأجهزة السورية، تقوم بمناورات معينة لإيصال شحناتها، أو حتى باستخدام ناقلات النفط أو أية وسيلة غير عسكرية، لكن بالنظر لصغر مساحة الساحل السوري البالغة 180 كم، وقدرة القواعد الروسية على مراقبته، فإن هذا الاحتمال يبدو ضعيفاً إلى حدٍّ ما.

2. أن روسيا تعلم، وتقوم بالمناورة؛ فمن جهة تبدو كأنها تُسهِّل عملية نقل الأسلحة إلى حزب الله، وبذلك تكسب رضا إيران وتأخذ مقابل ذلك مكاسب أخرى، وتقوم في نفس الوقت بإبلاغ إسرائيل بحكم التنسيق بينهما، شريطة إعلام روسيا بموعد الضربة، وأن تكون بعيدة نسبياً عن المواقع الروسية. وما يُرجِّح هذا الاحتمال أن إيران تستخدم مناورات معقدّة للتمويه على شحناتها، بدليل أنها تستخدم مواقع مموهة وصعبة الانكشاف لإخفاء أسلحتها، من قبيل مَدجَنة دجاج، أو حتى موقع دفاع جوي للجيش السوري، مثل الذي استهدفته الطائرات الإسرائيلية مؤخراً في طرطوس.

لماذا الصمت الروسي؟

سبق أن أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد، أن بطاريات دفاع جوية تُديرها روسيا أطلقت صواريخ باتجاه طائرات إسرائيلية لاستهدافها مواقع في سورية، وقد أكدت مواقع اعلامية إسرائيلية، أن الصواريخ التي أطلقتها روسيا لم تُشكِّل تهديداً للطائرات الإسرائيلية، ولم يكن هناك قفل لرادار البطارية على الطائرة.

وشكَّل ذلك التحرك العملاني الوحيد من قبل روسيا في مواجهة مئات الغارات التي قامت بها الطائرات الإسرائيلية ضد أهداف في سورية، وجاء هذا التحرك في سياق التوتر في العلاقات بين الطرفين نتيجة موقف إسرائيل من حرب أوكرانيا وعزْم روسيا إغلاق مكاتب الوكالة اليهودية لديها، وكذلك التراشق الإعلامي بين كبار السياسيين في البلدين. 

لكن هذه التهديدات، في المحصلة، لا تُشكّل خطراً على العمل الإسرائيلي في سورية، ولم تكررها روسيا، ويمكن تفسير ذلك بالآتي:

1. أن روسيا لديها موافقة ضمنية على الضربات الإسرائيلية للميليشيات الإيرانية، وهذه الضربات تخلق توازناً ترضى عنه روسيا في سورية، بمواجهة محاولات إيران وميليشياتها الاستفادة من التراجع الروسي نتيجة الانشغال بالحرب الأوكرانية، حيث توفر هذه الضربات جهوداً روسية في محاولة ضبْط هذه الميليشيات ومتابعتها.

2. أن روسيا، المنشغلة كليةً في أوكرانيا، ليست بوارد التصعيد العسكري ضد إسرائيل، وأن أي تغيُّر في علاقتها مع إسرائيل في سورية في هذه المرحلة، سيستلزم منها تعبئة واستخدام أصول عسكرية هي بحاجة لها في الحرب الأوكرانية.

3. غير أنَّ السبب الأهم، قد يكون حذر روسيا من تعرُّض أسلحتها في سورية إلى ضربة معنوية في حال حصول اشتباك، ولو وقتي وعرضي، مع سلاح الجو الإسرائيلي. وما يُعزز هذا الاحتمال، أن الحرب الأوكرانية كشفت عن مشاكل كبيرة في منظومات التسليح الروسية، وضعف فعالية هذه الأسلحة، مع العلم أن الفارق كبير جداً بين خبرات إسرائيل ونوعية تسليحها عن أوكرانيا.

توسيع دائرة الاستهداف الإسرائيلي

من زاوية نظر أخرى، يمكن دمج الاستهداف الإسرائيلي، في سياق مخطط أو سع يهدف إلى تدمير منظومة الدفاع الجوي السوري، فقد استهدفت إسرائيل موقع للدفاع الجوي يحتوي على صواريخ “إس 200” و”إس 300″، ولا شك أن وجود مواقع دفاع جوي في طرطوس قد تؤثر بشكل كبير على تحرك الطائرات الإسرائيلية، التي باتت في الغالب تستخدم الأجواء اللبنانية والبحر المتوسط.

وتشكل مسألة تدمير منظومة الدفاع الجوي السورية أولوية عملانية لإسرائيل؛ فمن ناحية، تتيح لها تدمير قوافل نقل الأسلحة إلى لبنان بأريحية ودون مخاطرة. ومن ناحية أخرى، قد يكون الهدف الأبعد، تعطيل قدرة هذه الدفاعات في حال حصول مواجهة مستقبلية بين إسرائيل وحزب الله، وبذلك تنزع من إيران، التي بدأت تتحدث مؤخراً عن “وحدة الساحات” في مواجهة إسرائيل، ورقة مهمة، وتجعل من قدرات حزب الله في أي حرب محدودة نتيجة سيطرة سلاحها الجوي على أجواء المنطقة.

استنتاجات

تُفيد المؤشرات المتاحة أنَّ تغيُّر المعادلات العسكرية في الساحة السورية أمرٌ غير مُرجَّح في المدى القريب. ومع فشل محاولات إيران في التأثير على موازين القوى في سورية، وفشلها في الاستفادة من الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية، تُظهِرَ إسرائيل، من جانبها، إصراراً أكبر على إدارة لعبة توازنات القوة في المنطقة بأدواتٍ عسكرية ودبلوماسية، وهي حتى اللحظة تنجح في ذلك.

السابق
فيينا بين الرد والرد على الرد
التالي
وتريات مظفر النواب