تاريخ النهضة في جبل عامل(3): رجالات يستنهضون العلم ويؤسسون الجمعيات الادبية والفكرية

سنة شيعة
سجّل التاريخ في مطلع القرن العشرين نهضة أدبية علمية شهدها جبل عامل، كانت صدى لصوت النهضة العربية التي شهدتها مصر وبلاد الشام في ظلّ الحكم العثماني والانتداب الفرنسي لاحقا، وقد كان لتلك النهضة رجالاتها ايضا الذين نبغوا وتعلّموا ثم علّموا وكتبوا وألّفوا، وبذلوا الغالي والنفيس، وبعضهم تحمل الاضطهاد والسجن، ولم يفتّ كله من أعضادهم، ونجحوا بالنهاية في بعث النهضة وتوريثها للاجيال اللاحقة. وينشر موقع جنوبية على حلقات ملفّا يحاكي هذه الحقبة ويسبر أغوارها، لا سيما منها ابراز شخصيات كان دورها حاسما في بعث تلك النهضة، لم يجر ذكرها مطلقا في كتب التاريخ التربوية، ولو انه جرى المرور على نشاطها السياسي الادبي لماما في عدد من المؤلفات التي بقيت قاصرة عن إيفاء هؤلاء حقوقهم.

كان لاصدار الدستور العثماني بعد ثورة 1908 أثر في الأوضاع السياسية والاجتماعية في مختلف أنحاء الدولة العثمانية، ومنها لبنان، الذي ساهم تعزيز الحريات فيه بظهور جيل النهضة الذي نهل علمه بداية من المدرسة الرسمية الحديثة في التي أسسها رئيس قائمقامية النبطية رضا بك الصلح عام 1883 كما عرضنا بالمقال السابق، ثم المدرسة المدرسة “الحميدية” التي أنشأها وقام بأمرها في العام 1892 ميلادي السيد حسن يوسف مكي في النبطية، وادارها السيد حسن ابراهيم. 

ظهور رجالات النهضة 

برز الشيخان أحمد رضا وسليمان ضاهر  وكان رفيقهما في حياتهما المديدة الحافلة بالنشاط الثقافي والفكري والسياسي المميز والفاعل، محمد جابر آل صفا، وقد أعطى الشيخان الكثير الكثير في عالم الدراسات والتأليف، فالشيخ أحمد رضا تميز بالأبحاث اللغوية العميقة وله في هذا المجال المؤلفات التالية: قاموس رد العامي إلى الفصيح، معجم متن اللغة، مولد اللغة، أما المعجم الوسيط والمعجم الموجز فهما غير مطبوعين بعد، كما له في الفقه: الدروس الفقهية، وفي التربية: هداية المتعلمين، إضافة إلى مئات المقالات العلمية والأدبية والسياسية والتاريخية والقصائد المنشورة في مجلات “المقتطف” و”العرفان” ومجلة المجمع العربي العلمي بدمشق. وعرف الشيخ أحمد رضا بشعره الرقيق وثقافته الأدبية، كما اشتهر بندوته الأدبية التي زارها كبار الأدباء والشعراء العرب، وكانت تعقد عصر كل يوم حول “سماور” الشاي وفي ظلال شجرة الياسمين في حديقة منزله. 

 أما الشيخ سليمان ضاهر فقد كان صنو الشيخ رضا وشاركه في جميع النشاطات الفكرية، والسياسية العربية واللبنانية وظلا رفيقا درب مراحل ولم يفترقا إلا عند رحيل الشيخ أحمد رضا العام 1953، بينما عمَّر الشيخ سليمان ضاهر إلى العام 1963. وقد صدر في العام 2001 للشيخ سليمان ضاهر مؤلف على درجة كبيرة من الأهمية عن تاريخ الشيعة السياسي والثقافي والديني من ثلاثة مجلدات حققه نجله عبد الله ضاهر، ومن أبرز مؤلفاته المطبوعة: جبل عامل في الحرب الكونية. ومذكرات من عام 1918 إلى عام 1931 تشمل تاريخاً لمملكة فيصل في دمشق، وتاريخ جبل عامل القديم والحديث، وتاريخ قلعة الشقيف، والحسين بن علي وأسباب شهادته، نقض مذهب داروين، والقصة في القرآن. وله أيضاً الكثير من الدواوين الشعرية وبينها: فلسطينيات، والهيات، وآخر في مدح النبي وآل البيت، إضافة إلى دواوين كثيرة غير مطبوعة أحدها من عشرين ألف بيت شعر، فقد كان شاعراً مطبوعاً ومكثراً مع سلاسة في النظم وعمق في المعنى، كما خلَّف أيضاً كثيراً من الكتب المخطوطة التي لم تجد بعد طريقها إلى النشر. 

الشيخ سليمان ضاهر كان صنو الشيخ رضا وشاركه في جميع النشاطات الفكرية والسياسية وظلا رفيقا درب مراحل ولم يفترقا إلا عند رحيل الشيخ أحمد رضا العام 1953 

أما الثالث التاريخي مع الشيخين في معظم نشاطاتهما السياسية والفكرية العربية واللبنانية فقد كان محمد جابر آل صفا صاحب كتاب “تاريخ جبل عامل”. هذا الكتاب الذي نشر اول مرة العام 1962 والذي طبع ونفدت طبعاته مرات عديدة، أصبح مرجعاً علمياً تاريخياً عاماً تقدم عنه رسائل الدكتوراه في التاريخ العاملي ويستعين به أساتيذ الجامعات.  

اضافة للثالوث العاملي فقد برز الشيخ علي الزين رجل الدين لم تمنعه المحافظة على الخط الديني، من الانفتاح المبدئي على مبادئ حزب البعث العلماني. 

أما الركن الاساسي للنهضة الشيخ أحمد عارف الزين الذي أسس مجلة العرفان عام 1909 فنجحت وتحوّلت الى مطبوعة أسطورة ذاع صيتها على مدى العالم العربي في ذلك الوقت، فسوف نأتي على ذكر نشاطه ومجلّته العظيمة لاحقا.  

إقرأ أيضاً : تاريخ النهضة في جبل عامل: رضا الصلح باعث النهضة ومحركها(2)

تأسيس الجمعيات الثقافية 

قام رجالات النهضة والأدباء بتأسيس الكثير من الجمعيات الخيرية وقد تركزت في النبطية. ففي سنة 1889 – 1890 تأسست لجنة المعارف، وكان أحمد رضا وهو في السابعة عشرة من عمره أمين صندوقها. وافتتحت اللجنة مدرسة لم تدم طويلاً لأنها، بحسب قول أحمد رضا، كانت تبث روح المقاومة في مواجهة الحكومة العثمانية. وقد صودرت أوقافها ولم تستعدها إلا بعد إعادة الدستور سنة 1908 وبعد جهود كثيرة قام بها أحمد رضا بمساعدة سليمان ظاهر ومحمد جابر آل صفا. 

قام الشيخان احمد رضا وسليمان ظاهر ومعهما محمد جابر آل صفا في النبطية بتأسيس المحفل العلمي العربي، وكانت نصوص محاضراته تحفظ في سجل خاص بإسم “طلائع النجاح”

سنة 1891 – 1892 قام الشيخان احمد رضا وسليمان ظاهر ومعهما محمد جابر آل صفا في النبطية بتأسيس المحفل العلمي العربي، وكان يجتمع في مستهل كل عام حول محاضرة يلقيها أحد أعضائه، وكانت النصوص تحفظ في سجل خاص بإسم “طلائع النجاح”. هذا ما قدم به أحمد رضا هذه الجمعية. ونعود فنجدهم سنة 1898 – 1899 في جمعية خيرية جديدة هي جمعية التعاون الخيري. ثم شاركوا بتشجيع من رضا الصلح في تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في النبطية كفرع من المدرسة الأم مقاصد بيروت التي كانت قد افتتحت عام 1879، وقد لعبت دوراً أساسياً في تطور التعليم في النبطية وجوارها، لأن برامجها شبيهة بالمدرسة الرسمية الحديثة التي كان قد اسسها الصلح نفسه قبل سنوات، وقد حُلّت وأوقفت نشاطاتها في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم عادت إلى الظهور بعد قيام الانتداب الفرنسي وإعلان لبنان الكبير فقامت بنشاطاتها من جديد. 

جمعية العلماء العاملية

كانت الطائفة الشيعية تعيش حالة من الفوضى، ولم تكن هنالك أي مؤسسة أو هيئة تنظم أو تدير شؤونها الدينية. فعمل نخبة من كبار علماء ومراجع جبل عامل على تأسيس “جمعية العلماء العاملي”ة عام 1928، لتضم تحت لواءها علماء جبل عامل،

اختار العلماء الشيخ حسين مغنية رئيسا للجمعية، والسيد محسن الأمين كمساعد له في إدارتها، والشيخ محمد رضا أمينا للسر.وكانت الجمعية تضم أكثر من ثلاثين عالما أبرزهم: الشيخ حسين مغنية- السيد محسن الأمين-السيد عبد الحسين نور الدين-السيد عبد الحسين شرف الدين- الشيخ عبد الحسين صادق-الشيخ سليمان الظاهر-الشيخ منير عسيران وغيرهم. من وظائف الجمعية:

-البحث بشؤون الطائفة، والأمور الطارئة

-جمع الأموال من الاغتراب لإقامة المشاريع الخيرية

-مساعدة طالبي العلوم الدينية على تأمين نفقات تعليمهم وسفرهم إلى العراق

-تعيين أئمة المساجد

وغيرها من الأمور

كانت الجمعية تسعى إلى بناء مقر دائم لها، على أن يكون في مدينة صور حسب رغبة الشيخ حسين، لكن ذلك لم يتم لأن العلماء توقفوا عن الاجتماع بعد مرض الشيخ مغنية، وانفضت الجمعية بعد وفاة الشيخ حسين مغنية، ولم تعمر حتى الاستقلال لتصبح مؤسسة رسمية.

السابق
1 آب.. إما الجيش وإما «حزب الله»؟!
التالي
بيضون عن قانون السرية المصرفية الجديد: ملجأ للصوص