الطاقة والردع على حدود لبنان البحريّة!

المفاوضات اللبنانية الاسرائيلية الحدود الجنوبية

أن تردع العدو، هو أن تمنعه من اتباع سلوك معيّن لتحقيق أهدافه، وإلا سيكون الثمن أكبر بكثير من الأرباح.

لكن الردع منظومة تقوم على ركيزتين أساسيتين؛ هما: القوة المادية والقوة الناعمة (Soft & Hard Power). فالردع يستلزم خطاباً معيّناً تُحدّد فيه الأطر لما هو مسموح وما هو ممنوع.

وكي ينجح الردع، يجب أن يتلازم مع الخطاب الناعم… قدرات ماديّة تُستعمل للعقاب في حال تجرّأ المردوع على تجاوز الخطوط الحمر. ألم يقل الرئيس الأميركي الأسبق تيودور روزفلت: «تكلّم بلطف، لكن احمل عصا غليظة»؟

ولرفع مستوى المصداقيّة، على الرادع أن يمتلك وسائل الردع، وعليه أن يُظهرها، وحتى استعمالها إذا لزم الأمر على مسرح هامشيّ.

لكن المعادلة الأهمّ في الردع تقوم على ضرورة اقتناع المردوع بأن الرادع جدّي في استعمال وسائله، كما على الرادع أن يكون جاهزاً، ودون تردّد، في تنفيذ وعيده.

إذاً، الردع هو عمليّة ذهنيّة ترتكز على وسائل ماديّة، في عالم من الصراع الجيوسياسي، أقلّ ما يُقال عنه إنه عالم ضبابيّ، قد يمكن لنا فيه أن نُقدّر وسائل العدو الماديّة. لكن الخطورة تكمن في النوايا المستورة. وهنا يتظهّر ما يُسمّى الحسابات الخاطئة.

كيف يُمكن لـ«حزب الله» أن يطلب من الدولة أمر فتح النار وهو اللاعب الهجين؟

وأخيراً، وليس آخراً، لا تستمرّ المنظومة الردعيّة إلى ما لا نهاية، إذ لها مدّة صلاحيّة تنتهي عند تبدل الظروف التي كانت سبب وجودها. لذلك، سقوط الردع قد يعني الذهاب إلى الحرب، التي بدورها تعيد رسم معادلة جديدة بظروف جديدة، ولمدّة صلاحيّة جديدة.

لبنان والردع

يتغنّى لبنان بأنه خلق منظومة ردعيّة تجاه إسرائيل بعد حرب يوليو (تموز) 2006، مرّ على هذه المعادلة ما يُقارب 16 سنة، أي نصف جيل تقريباً. في هذه المدّة، تبدّلت إسرائيل، وتبدل لبنان، وتبدّل العالم العربيّ، كما تبدل العالم بسبب الجائحة، كما الحرب الحالية على أوكرانيا.

في لبنان لا فعل عادة، بل دائماً ردّة فعل. تُفرض عليك ثلاثيّة الجيش والشعب والمقاومة، لكن دون تحضير مقوّمات النجاح لأي منها. الجيش يعاني، والشعب يُفجَّر ويُنهب ويُقمع، وكلّ ذلك في سبيل استمرار منظومة فاسدة.

إقرأ ايضاً: «زودة الحد الادنى طارت قبل أن تحط»..البنزين على مشارف الـ700 الف ليرة!

يُستشهد مرّة بقول للزعيم ماوتسي تونغ مفاده أن «المقاومة هي السمكة، والشعب هو البحر». وإذا فصلت السمكة عن بحرها فهي حتماً فانية. يُذبح الشعب في لبنان من أجل استمرار المقاومة.

وعندما كانت تُلعب المسرحيّات التراجيديّة في أثينا، لم يكن الهدف تسلية الشعب، بل كان الهدف منها تذكير الشعب بأن التراجيديا هي الثابت الوحيد في حياة الإنسان، أما الأيام السعيدة فهي الاستثناء. وعليه، كان لزاماً على الإنسان أن يتحضّر دائماً للأسوأ، ويأمل في الوقت نفسه أن تأتي الأحداث الجيّدة. هذا مع التذكير بأن الأمل بحدّ ذاته ليس استراتيجيّة.

فالأمل يرتكز على عوامل معقّدة وكثيرة، لا سيطرة للإنسان عليها. أما الاستراتيجيّة الصحيحة، فقد تعطي الإنسان في الحدّ الأدنى الوجهة والبوصلة، حتى ولو لم تخلق الحلول.

الردع البحري في لبنان

إلى جانب الردع البرّي، ظهر مؤخّراً الردع البحري بسبب الخلاف على ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل.

يضيع لبنان الرسمي عن قصد أو عن جهل، وقد يكون الاثنان معاً، بين الأرقام. الخطّ 23 أو 29؟ وفي الحالتين تتحمّل السلطة في لبنان المسؤوليّة الأساسيّة.

لا يتوفّر في لبنان استراتيجيّة ردعيّة أو بالأحرى منظومة فكريّة تربط القوّة الناعمة أي الدبلوماسيّة بالقوّة الصلبة التي يدّعي «حزب الله» أنه يمتلكها!

يعاني لبنان انفصاماً في الشخصيّة. فهو بلد معترف به دولياً، ويتبع القوانين الدوليّة. لكنه في الوقت نفسه يتقلّب بين الهويّة المقاومة ومفهوم الدولة – الأمة.

«حزب الله» يعاني أيضاً الانفصام في الهويّة. فهو لاعب هجين (Hybrid)، مع الدولة وضمنها حين يتناسب الوضع مع مشروعه، وهو لاعب إقليمي ودولي عندما يريد الراعي ذلك، وهو مقاوم لبعض من اللبنانيين طوعاً، ومقاوم قسراً للبعض الآخر. لبنان بالنسبة له محطّة مؤقتة، لأن عقيدته تأخذه إلى قيادة عابرة للحدود.

هو حركة مقاومة إسلاميّة حصريّة، لا مكان للآخر فيها، حتى منهم المسلم، إن لم يلبِّ شروطاً ومواصفات معيّنة.

إسقاط مفاهيم الردع على لبنان اليوم

تشظّى مفهوم الردع في لبنان بسبب كثرة الطبّاخين. كذلك الأمر، لا يتوفّر في لبنان استراتيجيّة ردعيّة، أو بالأحرى منظومة فكريّة تربط القوّة الناعمة، أي الدبلوماسيّة، بالقوّة الصلبة التي يدّعي «حزب الله» أنه يمتلكها.

حتى إن المُخوّل رسمياً التعاطي الدبلوماسي، أي وزير الخارجيّة، في موضوع الترسيم، يبدو وكأنه آتٍ من كوكب المرّيخ حديثاً. فلا هو يُسيطر على الخطاب الذي من المفروض أن يُرافق عمليّة التفاوض، كما لا يفقه شيئاً في الشق التقني للموضوع. والمُكلّف بالتواصل مع الأميركيين هو مسؤول سياسي مُقرّب من رئيس الجمهوريّة.

إذاً، نحن أمام الأسئلة التالية:

مَن يُفاوض في لبنان؟ هل لدى لبنان استراتيجيّة تفاوض؟ هل لدى لبنان خطاب إعلامي يُواكب الأزمة؟ كيف يُمكن لـ«حزب الله» أن يطلب من الدولة أمر فتح النار وهو اللاعب الهجين؟ وإذا سلّمنا جدلاً وقالت الدولة له (أي دولة) أن يفتح النار، فهل يعود الأمر إليه؟ ألا يتطلّب الأمر موافقة إقليميّة؟

وإذا امتثل «حزب الله» لأمر الدولة، فلماذا يلعب خارج الإطار الدستوري؟ أيمكن للدولة، طالما يريد الامتثال لأمرها، أن تقول له: نريدك داخل منظومة الدولة؟ فهل يقبل؟

السابق
لبنان بين ترسيم بحري نتائجه رمادية..وحكومي يكتنفه الغموض!
التالي
لبنان يتطلّع لخروج ملف الحدود البحرية من «شِباكِ» صراعِ الخطوط والخرائط!