وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: مشهد ما بعد الانتخابات.. السياسي

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

انتهت الانتخابات النيابية في لبنان، لم يهزم فيها أحد، ولم يحقق أحد انتصاراً.   ظل الربح والخسارة وجهة نظر نسبية يتعدد تحديدهما بتعدد المعايير والمقاييس. في أحسن أحوال هذه الانتخابات، كان الربح بالنقاط لا بالنصر الكاسح، بحيث لا يملك أحد قدرة تجيير قرارات المجلس النيابي لصالحه.  الأمر الذي سيدفع الجميع إلى خفض سقفه والتواضع في طموحاته ومطالبه وحتى قدراته، وإلى بناء كتل وتحالفات نيابية، لا يشترط تجانس أفرادها أو التطابق في توجهاتهم وميولهم وانتماءاتهم، بل ستكون التحالفات سيالة ومتحركة، تتغير بتغير المطلب أو البند أو القانون المقترح.

من المؤكد أن المجلس الجديد يحمل دينامية جديدة: أولها أنه خرج من ثنائية الاصطفاف الجامد والحاد، الذي تمثل بمحوري 8 و14 آذار، واتسم بتكرار الوجوه والشخصيات، وخلق رتابة وضحالة وحتى تدن في مستوى النقاش البرلماني،  هذا فضلاً عن  لغة القدح والذم الشخصية والاتهامات  المتطايرة والعشوائية بالعمالة والخيانة.  ثانيها تغيير جذري سيطال جدول أعمال المجلس النيابي والأجندة السياسية القادمة وظهور موضوعات جديدة أكثر قربا والتصاقا بحياة الناس، بعد أن اتخذ الشأن الداخلي، موضوع الفساد والشأن الاقتصادي تحديداً، الأولوية الكبرى لدى الناخب اللبناني.  فلم تعد قضية الناخب قضية صراع محاور إقليمية أو دولية، أو حماية طائفة وتحصيل حقوق أهل ملة معينة، بل أصبحت قضية وجع ومعاناة وشروط حياة.   

لم تعد قضية الناخب قضية صراع محاور إقليمية أو دولية، أو حماية طائفة وتحصيل حقوق أهل ملة معينة، بل أصبحت قضية وجع ومعاناة وشروط حياة

ثالثها ظهور تمثيل عابر للطوائف على الرغم من طائفية قانون الانتخابات.  فالخطاب الذي اعتمده التغييرون يقوم على قضايا ذات طبيعة عامة، وعلى مطالب تهم عموم المجتمع اللبناني، كما أن الإستجابة الشعبية العالية للنواب التغييرين مؤشر على تشكل مزاج أو رأي عام لبناني متحرر من مخاوف الطائفة وهواجسها وحقوقها.

التحليل الأولي لتكوين المجلس النيابي القادم، يظهر أنه يتألف من ثلاث مكونات أساسية: تغييري، سيادي، ممانع.

ألأول هو المكون التغييري، الذي تمثل بمجيء عدد وازن من نواب جدد، يتمتع أكثرهم أو كلهم بمصداقية عالية، ويعبر عن تطلع شعبي غير مسبوق بضرورة إعطاء الشأن الداخلي أولوية على الاعتبارات الإقليمية، من خلال السعي إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية بتغيير وجوه أهل السلطة، وتفكيك شبكة المصالح الممسكة بمواقع القوة والمتحكمة بتوزيع موارد الدولة.

التغيير كان شعاراً تعبوياً، محملاً بلغة احتجاج، ويعبر عن تطلعات وآمال عالية السقف وغير واقعية، بخاصة مطلب “كلن يعني كلن”

هذا المكون لم ينطلق من جبهة تغيير موحدة، أو برنامج عمل متقن، فالتغيير كان شعاراً تعبوياً، محملاً بلغة احتجاج، ويعبر عن تطلعات وآمال عالية السقف وغير واقعية، بخاصة مطلب “كلن يعني كلن”.  بل كنا نجد تنافرا وتباينا بين عدة وجوه تغييرية، ونلمس أحيانا شخصانية بارزة عند بعضهم.

رغم ذلك، فقد كان هذا المكون هو الأقرب إلى تطلعات الناس وآمالهم، وأكثره تعبيرا عن ألمهم ووجعهم، وأقربه التصاقاً بمعاناتهم ومآسيهم. أهمية هذا المكون هو تحرره من أية التزامات أيديولجية أو تنظيمية، أو أية خصوصية طائفية. كانت عفويته شهادة على قوة اتصاله بالناس، وعمق تجسيده لقضاياهم.  وكانت حيازة أكثرهم على نسبة ناخبين عالية علامة على تعدِّل كبير في نظرة الناخب اللبناني إلى مواصفات من يمثله أو يثق بمن يمثله ويعبر عنه.  

المجتمع ظل محكوماً لعلاقاته التقليدية ومحتفظاً بمزاج محافظ وبذهنية تخاف من التغيير الدفعي والسريع

يكن القول بثقة أن حراك 17 تشرين أعطى ثماره. لكن ما حققه كان أقصى ما وصل إليه، أي أحدث تعديلاً في المزاج الاجتماعي ورغبة مجتمعية للتغير، لكنه إنجاز غير كاف لتحقيق هذا التغيير. ما يعني أن المجتمع ظل محكوماً لعلاقاته التقليدية ومحتفظاً بمزاج محافظ وبذهنية تخاف من التغيير الدفعي والسريع،  الأمر الذي يترك مساحة تمثيل واسعة للولاءات القائمة، والزعامات التقليدية، وقوى السلطة الراهنة.

التمثيل النيابي لحراك 17 تشرين، يفرض الإنتقال إلى مستوى نشاط مختلف عن نمط النشاط النضالي والإحتجاجي السابقين.  أي الانتقال من إسماع الصوت والمطلب،  إلى دخول اللعبة السياسية وصياغة استراتيجيات تغيير وسياسات مفصلة ومشاريع قوانين لمعالجة المشكلات الراهنة، أي الانخراط الفعلي  في عملية صناعة القرار، سواء أكان بالمشاركة فيها أم مراقبتها ومحاسبتها.  هو انتقال ينهي مرحلة النزول إلى الشارع والتعبر الغاضب ولغة الإدانة والمطالب ذات السقوف العالية، ويدشن مرحلة بناء قيم جديدة ومنطق ولاءات مختلف، وتعميم نموذج حياة سياسية جديدة، وتبني مطالب يمكن تحقيقها، واعتماد خطاب سياسي يستمد مادته من العيني والواقعي لا المثالي والمتخيل.      

انطلق هذا المكون من مطالب عالية السقف، بل تكاد تكون أكثر طموحاته وتطلعاته صعبة التحقيق، بحكم قلة عدد هذه المكون داخل المجلس النيابي من جهة، وبحكم بقاء منظومة السلطة بقواها وشبكة مصالحها وتغلغها العميق داخل مؤسسات الدولة من جهة أخرى.  ما يعني حاجة هذا المكون إلى: بناء خطة توفق بين ما يجب أن يكون وما يمكن تحقيقه، أي التوفيق بين الغاية الأخلاقية والحقيقة السياسية، والتخلي عن المواقف الصارمة والحادة تجاه القوى السياسية الأخرى لصالح اكتشاف المشتركات ونقاط التقاطع مع المكونات الأخرى، تحويل القناعات الصلبة إلى مواقف مرنة وخطة عمل منتجة.

التغييريون حجزوا مقاعد وازنة لهم في المجلس النيابي القادم، لكن الانتخابات النيابية احتفظت بمكونات المنظومة السياسية السابقة

من المؤكد أن التغييرين حجزوا مقاعد وازنة لهم في المجلس النيابي القادم، لكن الانتخابات النيابية احتفظت بمكونات المنظومة السياسية السابقة، بكل تناقضاتها وتبايناتها،  بكل خروقاتها وتجاوزاتها،  بكل فسادها وزبائنيتها المعهودة.  ومع عدم حيازة أي طرف أو مكون على الأكثرية النيابية المطلوبة، فإن الحياة السياسية ستزداد تعقيدا وارتباكاً. صحيح أنه لم يعد بمقدور أحد حسم أية وضعية سياسية أو أي قرار لصالحه أو اعتماد السقوف العالية، الأمر الذي يفرض على جميع الأطراف ميلاً إلى التسوية وأنصاف الحلول، لكن الثمن مقابل ذلك، هو تشكل سلطة هجينة وضعيفة، بطيئة ومتعثرة وعاجزة.  

إذا كان أفق  هذا المكون هو إحياء الدولة وإعادة بناءها على أسس عقلانية وفاعلة، وخلق حياة سياسية مطهرة من كل جيوب الفساد، فإن التحدي الذي يواجه هذا المكون هو القدرة على تحويل واقع ملغم ومعد للتفجير، والجدارة في التعامل مع تناقضات المشهد السياسي لا القفز فوقها، والقدرة على تحقيق  الوعود التي أطلقوها لا مجرد تصورها أو تخيلها أو الإكثار من التصريح بها.   

 للحديث صلة….

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الانتخابات بين ثقافتي القطيع وحرية الاختيار

السابق
شينكر يتهم باسيل بالفساد: مسؤول عن الانهيار المالي.. وهذا ما قاله عن نتائج الانتخابات!
التالي
بالصور.. مولوي يعلن أسماء الفائزين بالإنتخابات النيابية رسميًّا