الجنس «الشرعي» وموازين القوى على الأرض

الجنس الشرعي

من إخراج كاملة أبو ذكري، كان المسلسل ذو العصَب الأقوى “بطلوع الروح” في شهر رمضان الفائت. ولا عجب، فالمخرجة المصرية معروفة بعينها الراصدة ومخيلتها الواقعية. قصة المسلسل حقيقية، ومن أنكر عليها أصالتها، وادّعى بأنها “مسروقة” عن قصص تشبهها، لا يعرف الكثير عن الأخبار والروايات التي تسرّبت خلال الأعوام التالية لهزيمة “داعش” بعد الحرب عليه في سورية والعراق.
إذن، القصة الآن: روح وأكرم زوجان من القاهرة، لهما ابن واحد. ميسورا الحال وسعيدان. روح قلقة على أكرم، واتصالاته المريبة. تشكّ فيه، ولكنها تحبه. يعرض عليها إجازة قصيرة في تركيا. تفرَح، فيسافران ومعهما ابنهما. هناك، في تركيا، يكون أكرم قد اتفق مع صديقه الحميم عمر أن ينصبا فخّا لروح، مآله العيش مع ابنهما في الرقّة (سورية)، التي يحكمها “داعش”. وأكرم، الذي يكشف لها أن كل ما كانت تشكّ فيه في القاهرة كان اتصالاته مع عمر، وترتيباته لينْتسب إلى “الدولة الإسلامية”، بصفته مجاهداً مقاتلاً. تضيع روح بهذه النقلة، ويصيبها النكد والقلق. وترفضها، وتغضب. لكن “الفلاشْ باك”، ومجريات الأحداث تفهمنا أن عمر الذي جرّهما إلى الرقّة، وأنه المسؤول الثاني في الرقّة بعد أبو جهاد، وهو صديق زوجها الحميم، زميلها في الجامعة، لا ينسى، عندما أعلن لها عن غرامه بها، قبل تخرّجهما، كيف استهزأت به. وكان هذا الغرام هو الذي دفع عمر إلى جذب أكرم إلى الرّقة، وتوريطه في إحدى العمليات العسكرية ليختفي عن الشاشة، ويموت كما يتمنّى، ليستحوذ على روح.

اقرأ أيضاً: صدق او لا تصدق.. تفاصيل مثيرة عن عقود «جهاد النكاح» لدى «داعش»

بعدما يقتنع الجميع ويسلم بأن أكرم قُتل في العملية التي أرسله إليها عمر، تُدخل روح عنوة إلى “استراحة”، تعجّ بالأرامل، مع أولادهن. يقضينَ فيها “عدّتهن”، تمهيدا لنشر أسمائهن على لائحة السبايا التي سوف يختار منها واحد من المجاهدين “عروساً” له، وذلك عملا بالشريعة التي يطبقها “داعش” في الرقّة، والتي يقول إنها بأمر من الله. في هذه الأثناء، يُقتل أبو جهاد، زوج أم جهاد بانفجار لابتوب مفخَّخ. وهنا كلمتان عن هذه الأخيرة: هي زوجة أبو جهاد أمير الدولة الإسلامية في الرقّة. امرأة شهوانية، متسلّطة، شديدة البأس. ولكن بعد مقتل زوجها، لا تُنقل أم جهاد إلى “الاستراحة”، ولا تُضمّ إلى صفوف الأرامل، “المواطنات البسيطات” المدعوّات إلى انتظار “عريس” داعشي، يضيفها إلى صفوف زوجاته العديدات. ولا أحد يعترض على هذا الاستثناء. بل أكثر من ذلك. بعد انتهاء عدّتها، تتحرّش أم جهاد بعمر، وتعرض عليه الزواج، أسوة بالسيدة خديجة التي طلبت يد الرسول. وتلمّح له بالجنة الجنسية التي سينعم بها لو صار زوجها. وعمر يصدّها، ويوبّخها “ألا تستحين؟ القنابل فوق رؤوسنا؟ وأنتِ تريدين الزواج؟!”. فتجيبه أم جهاد: “ومنذ متى كانت القنابل وأشد أيام القتال تمنعنا من الزواج الحلال نحن في الدولة الإسلامية؟”. وتبقى على ملاحقتها له، حتى بعدما تفشل في إعدام روح، عقاباً لها على محاولتها الهروب من ضيافة “الاستراحة”. وهي عالقةٌ في مخالب أم جهاد، ينقذها عمر في اللحظة الأخيرة، معلنا أنها تحت حمايته. أي أنها سبيته، حلاله، فينتشلها من الموت، ويترك أم جهاد وهي في حالة من الغضب الشديد. وحدسها ينبئها بأنه يفضّل روح على أحضانها الدافئة، هي أم جهاد القائدة، زوجة القائد، المعروفة ببأسها الجنسي

ينتهي المسلسل على خير، بعدما تنجح روح بالهروب من الرقّة مع ابنها. وما يهمّنا من هذه الحبْكة المعقودة بينها وبين عمر وأم جهاد أنها نافرة في خرقها الشريعة الدينية التي فرضها الداعشيون على الرقّة، وعلى بقية الأراضي التي سيطروا عليها عامين أو ثلاثة بين سورية والعراق. فكما هي في الواقع وفي المسلسل، كل القوانين التي فرضوها على الأهالي، هي قوانين من عند الله. وعقوبة خرقها تبدأ بالجلد وتنتهي بالإعدام. شريعتهم الإلهية تقول إن روح، “المواطنة البسيطة” في الرقّة، ينفّذ عليها حكم التزويج بعد وفاة زوجها وانتهاء مدة عدّتها. وهروبها من حكم التزويج، يكون قصاصه الإعدام. أما أم جهاد، فصاحبة مَنَعة. لا تدخل بالتالي إلى “الاستراحة”، لا قصراً ولا طواعية، لا تخضع لقانون السبي المقدّس. إنها زوجة أمير، ورئيسة كتيبة الخنساء. لها سلطة مزدوجة، تسمح لها، ليس فقط بالإفلات من القانون الإلهي، إنما أيضا بالمبادرة الجنسية الصريحة. وهذا ما يخالف شريعة “داعش” وأخلاقه المقدسة.

هذا النمط من الإخلال بالشريعة الدينية ومخالفتها، إذا كان المعنيّ بها صاحب سلطة أو عزوة .. ليس حكراً على “داعش” وحده. تجده كيفما ولّيتَ نظرك. خذْ مثلاً ذاك المرجع الديني المجتهد، المعروف بمناصرته النساء، وإصدار فتاوى داعمة لهن. لديه رأي جازم بزواج المتعة، يشجّع عليه، يجتهد في البحث عن قدسيته، في النصوص الشريفة والأحاديث. ولكنه، عندما يُسأل إن كان يقبل بأن يعقد أحد أبنائه، بنات أو صبياناً، زواج المتعة هذا، يجيب من غير تردّد بـ”كلا” حازمة. من دون أن يعطي لهذا الرفض حيثيات، لا دينية ولا دنيوية. ولكن هذا الرفض يشي بالمعنى الطبقي، السلطوي، الذي ينطوي عليه زواج المتعة. المرأة في هذا الزواج هي حتماً في مرتبة أو وجاهة أو مكانة أدنى من الرجل الذي سيتمتع بها. وهذا الرجل الأخير أقلّ وجاهة ومرتبة من الرجل المستغني عن المتعة؛ نظراً إلى قدرته على تزوّج من يشاء من النساء، وعلى تغطية نفقاتهن، و”العدل” بينهن. زواج المتعة كحق مقدّس، منصوص عليه في الكتاب السماوي، يُسْحق هنا أمام موازين القوى على الأرض؛ التي تجعل هذه المرأة المعرّضة له، هي أفقر وأضعف وأقل شأنا من ذاك الذي “سـيتمتّع بها”، فلا يعود هذا الزواج حقاً دينياً، إنما ترجمة أمينة لموازين القوى الحاكمة لعلاقة الفئات الاجتماعية في ما بينها.

مثلٌ آخر: العشائر المسلمة، مثل غيرها من الجماعات الأهلية، تطبّق على رجالها ونسائها أحكام الدين في مسائل الأحوال الشخصية، كالطلاق والإرث والزواج والحضانة .. إلخ. لكن هذه الأحكام ليست واقعة على الجميع بالتساوي. المرأة المطلقة من بينهم، إذا كان والدها قوياً في العشيرة، أقوى من طليقها، يمكنه أن يخالف أحكام الطلاق والحضانة التي تعمل فيها المحاكم الدينية، بأن تبقي أولادها معها إلى ما تشاء، أن تحرمه من رؤيتهم، أو مخالطتهم، إذا رغبت. وتكون بذلك تقوم بمخالفة للشريعة الدينية، الإلهية، باستقوائها بأبيها، بأفخاذ العشيرة أو بطونها.

لا تنْبض الأمثلة، لو أردنا التبحّر في نقطة تفوّق الأقوياء، من أي صنفٍ كانت قوتهم، على القانون الإلهي. أي عندما تسمح لهم قدراتهم بالتملّص منه. ماذا ينقص قادة “داعش”، ليرغموا أم جهاد على الانتقال إلى “استراحة الأرامل” بانتظار السبي؟ ماذا ينقص المرجع الفقيه ليسهّل على ابنته أو ابنه زواج متعةٍ يدعو إليه؟ ماذا ينقص المحاكم الدينية لترضخ لمشيئة شيخٍ من شيوخ عشيرة، ولا تطبق القانون الذي تقتل به النساء من “المواطنات البسيطات”، المعذّبات، والمتظاهرات، المعتصمات من أجل بندٍ واحد من بنود هذا القانون النازل على رؤوسهن بسيف الظلم والتجبّر؟
واحد من اثنين: إما أنهم لا يؤمنون بما يدعون إليه. أي، لا يؤمنون بكلام الله. وهم على درجةٍ من السينيكية. والقانون عندهم ليس سوى أداة تسلّطهم على الجماعة الواقعة تحت نظرهم. في أفضل الأحوال، إلهية قوانينهم موضوعة بخدمة مشاريعهم الدنيوية السياسية، لا الدينية. وإما أنهم مؤمنون، ولكنهم يتحوّلون أمام أصحاب الشكيمة إلى شياطين خُرْس. إيمانهم يضعف أمام مصالحهم الصغيرة، أو طموحاتهم الأكبر منهم، أو الهيبة التي تلفّهم بالمعصومية، أو مجرّد بقائهم على قيد الحياة، فتكون حجتهم الإلهية انتقائية. ربما يتعذّبون. وربما يعون في دواخلهم أنهم، بإذعانهم للأقوى، ومخالفتهم بالتالي للشريعة الإلهية .. مذْنبون، أشقياء، يستغفرون ربهم بكرة وأصيلا.

السابق
جهاد الزّين إطفائيُّ حرائق ثقافتنا السياسيّة
التالي
قبيل الانتخابات.. نداء من «المجلس الوطني لرفع الإحتلال الإيراني عن لبنان».. هذا ما جاء فيه