حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: هل اصبح العنف الثوري امرا لا مناص منه؟!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

في سلسلة من حوادث العنف المتفرقة، التي لا يجمعها ظاهريا اي رابط او صلة، يتمظهر ان العنف ينفلت تلقائيا، لحظة ممارسته، مع انطلاق دعوة للتنصل من مسؤولية اقترافه، وكأن حصوله كان قدرا، او لعنة او عقابا الاهيا غيبيا، لا قدرة للبشر على وقفه، حتى لو كان هؤلاء هم مرتكبو العنف ومقترفو جريمته.

كأن حصوله كان قدرا او لعنة او عقابا الاهيا غيبيا لا قدرة للبشر على وقفه حتى لو كان هؤلاء هم مرتكبو العنف ومقترفو جريمته

 في الكارثة الفاجعة التي حدثت لمركب الهاربين من الموت البطيء جوعا، على بر الفاقة والمرض والبطالة، و المسدودة امامهم كل ابواب الرجاء والرحمة والصَدَقَة والخير، والهاربين الى لجة مياه البحر، حيث تراءى لهم ان امر الموت غرقا هو اقل احتمالا، من طرق باب الدخول الى دولة ذات سيادة، يُحترم  الانسانُ فيها، كقيمة بشرية لذاتها، وتُؤَمَّنُ له احتياجات الحد الادنى من التعليم والغذاء والصحة، ويستقر آمنا لغده ومستقبل ابنائه…

 لم يحدث في تاريخ المراهنات والقمار، او في اي كازينو من كازينوهات العالم، أو مضمار من مضامير سباق الخيل، او العاب الميسر او اللوتو او غيرها، ان بلغت المراهنة هذا الكم من الاطلاق والمبالغة، بضربة واحدة يوضع على طاولة المقامرة، العائلة والاب والام  والاولاد والاقرباء، كرصيد لشوط واحد، يراهن به، كرها بلبنان، وهربا من بلد، يرهن اهاليه حيواتهم واطفالهم وعائلاتهم في سبيل الخروج منه…

في لحظة اصطدام مركب الضحايا بمركب الجيش، تكثفت المأساة على جانبي الصورة، الفرار من لبنان ولو باحتمال الموت، أو الحفاظ على هيبة الجيش ولو تسببت الهيبة بالموت، قيل ان الضابط نفذ القانون وحفظ هيبة الجيش!! كذا تم تبرير الفعل والامر وتم تشريع القتل… يا لبؤس القاتل، يا لبؤس القتيل… يا لبؤس من بقي في لبنان شاهدا بائسا… 

في لحظة اصطدام مركب الضحايا بمركب الجيش تكثفت المأساة على جانبي الصورة الفرار من لبنان ولو باحتمال الموت أو الحفاظ على هيبة الجيش ولو تسببت الهيبة بالموت

كيف اصبحت هيبة الجيش مربوطة برمي الاحياء في اعماق الماء والملح؟!

وكيف عدمنا وسيلة تمكننا من تكريس هيبة الجيش والقانون، دون ارتكاب فعل القتل والموت!؟

في الحادثة الاخرى مع وزير الطاقة ومساءلته عن تيار كهربائي مقطوع عادة وتكرارا؛ وعلى مدى اعمارنا، يعلن الوزير عدم رضاه واستنكاره لوضع كهرباء هو وصي عليها، قائلا لناشط غاضب ؛ انا مثلي مثلك، اي غاضب كما انت غاضب؟! يتبادل الوزير عواطفه كمسؤول مع عواطف مستهلك لا ينال خدماته كضحية، يتجسد في الحوار الساخن، مآسي ملايين اللبنانيين الذي يرزحون تحت ظل العتمة والتجاهل والفساد، وعناء صعود الادراج وانقطاع الماء وندرة المياه الساخنة للاغتسال، وتلف المأكولات الغذائية واللحوم في ثلاجات المنازل، وانقطاع خدمات الاتصالات والتدفئة  شتاء والتبريد صيفا…، تتجسد مأساة شعب بأكمله استنزف جهدا وعرقا ومالا بسبب كهرباء لا ينتظم امر استعمالها منذ اكثر من ربع قرن، لكن الوزير يستنتج انه بريء، وبراءته تنبع من مشاركته العاطفية وغضبه من وضع الكهرباء. يمارس الوزير عنفا غير مسبوق الوقاحة، حين يتلبس دور الضحايا، بدل ان يكون في دور المسؤول، الذي يساءل ويحاسب على افعاله، ويناقش على فعالية اجراءاته وقراراته…

يعلن الوزير عدم رضاه واستنكاره لوضع كهرباء هو وصي عليها قائلا لناشط غاضب انا مثلي مثلك اي غاضب كما انت غاضب؟!

 لا تتحقق براءة اي مسؤول باعلان عواطفه، ولا التعبير عن شعوره، فإحلال  العواطف مكان الاجراءات، تهرب نفاقي من المسؤولية، وتلبس جلد الضحية واعلان العجز عن اجتراح الحلول، ليس بابا لرفع المسؤولية او الانضمام الى صف الضحايا المقهورين، الذين تقع عليهم ارزاء المعاناة ومظالم القهر.

لا تتحقق براءة اي مسؤول باعلان عواطفه ولا التعبير عن شعوره فإحلال العواطف مكان الاجراءات تهرب نفاقي من المسؤولية

العاجز يستقيل، والفاقد لمهارة حل الازمة يترك منصبه لغيره، والمغلوب على أمره يتنحى، ما لم يفعل ذلك هو مسؤول، يمارس فعل اغتصاب لحقوق الناس وكراماتهم، ويمارس عنفا كريها وظالما حتى لو تمظهر العنف سلسا رتيبا وهادئا وصامتا…

والبادئ بالعنف ليس الثائر الغاضب، بل الوزير المتلبس دور الضحية، فليس المقصود هنا، تبرير ممارسة العنف ضد الوزير، لكن من بدأ العنف هو الوزير ذاته، وان يكن عنفا خبيثا وهادئا، حين تلبس جلد الضحايا وقدم عواطفه بديلا لحلوله واجراءاته، واشهر عجزه بديلا لاستقالته.

البادئ بالعنف ليس الثائر الغاضب بل الوزير المتلبس دور الضحية فليس المقصود هنا تبرير ممارسة العنف ضد الوزير لكن من بدأ العنف هو الوزير ذاته

في الحادثة الثالثة حين قطع المودعون الطريق على نائب رئيس المجلس النيابي، السيد ايلي الفرزلي، المتوجه لإقرار قانون كابيتال كونترول، فات اوانه منذ ثلاث سنوات، اي قانون يقيد حركة الرساميل والتحويلات المالية، وهو قانون يشرع الجرائم المالية، التي قامت بها المنظومة واقل ما يقال به انه بتوقيته وبصيغته المقترحة : 

  • مخالف للدستور وهو بمثابة جريمة جماعية بحق المودعين ، فهو يبرئ ذمة من استولوا على الودائع المصرفية وأموال الدولة بشكل مطلق.
  •  ويشرّع عملية تهريب الأموال، التي حصلت وبشكل خاص خلال السنوات الثلاث المنصرمة،
  • ويسقط مفاعيل الدعاوى المقامة قبل اقراره في الداخل والخارج، 
  • ويكرّس التمييز بين الأموال القديمة والأموال الجديدة، وبين مودع قديم ومودع جديد، ويخالف مبدأ المساواة بين المواطنين، ويحفّز على تبيض الأموال ويخلق اقتصاد مواز نقدي غير مشروع، ويضع لبنان على اللوائح السوداء لدى الجهات الدولية.

التشريع للجريمة، هو عنوان المواجهة بين نائب رئيس المجلس النيابي، الذاهب الى اهدار حقوق اصحاب اكثر من مليون ونصف مليون حساب مصرفي، عبر مشروع قانون يشكل خدمة لشريحة محدودة العدد، قوامها منظومة سياسية فاسدة من جهة اولى، وملحقاتها في بيئة الاعمال والتلزيمات والقطاع العام من جهة ثانية، وإدارة الجهاز المصرفي وحملة الاسهم فيها من جهة ثالثة، أصر البرلماني المخضرم على تخطي جموع المودعين، حتى لو تطلب الامر دهس البعض منهم وتعريض حياتهم لخطر الموت.

التشريع للجريمة هو عنوان المواجهة بين الفرزلي الذاهب الى اهدار حقوق اصحاب اكثر من مليون ونصف مليون حساب مصرفي عبر مشروع قانون يشكل خدمة لشريحة محدودة العدد

مرة جديد ينفلت عنف في مواجهة عنف آخر، وتراكم المنظومة ممارسة عنفها في اضطهادها للناس عبر تشريع القوانين، الى عنف مضاف عبر قمع سافر يصل الى دهس المحتجين، والتباهي بإعلان النية على اعتماد ذلك كأسلوب يمكن انتهاجه بشكل مستمر.

مرة جديد ينفلت عنف في مواجهة عنف آخر وتراكم المنظومة ممارسة عنفها في اضطهادها للناس عبر تشريع القوانين الى عنف مضاف عبر قمع سافر يصل الى دهس المحتجين

لا تكتفي المنظومة برفض التنحي عن السلطة، والرحيل السلمي عن موقع القرار، رغم فشلها وعجزها وتنكرها عن السعي، لتأمين الخدمات الاساسية في التعليم والصحة والاستشفاء والمواصلات، والكهرباء للملايين من اللبنانيين، ولا تكتفي باستعمال العنف والقمع الممنهج، لآلاف الناشطين في فعاليات الحراك الثوري، عبر فقء عيون المتظاهرين او احراق خيام الساحات، او ارسال ميليشياتها لتخريب الحملات الانتخابية للوائح المعارضة، كما حصل في الصرفند، ولاتأبه لحقيقتها العبثية بانها لا تملك اية خطة لاستنهاض الاقتصاد اللبناني، وانقاذ الوطن من حفرة صنعتها باياديها بعد ثلاث سنوات من افتضاح كارثتها وانفلات تداعياتها، لا تكتفي هذه المنظومة بارتكاب كل هذه الجرائم والخطايا، بل تستدرج قاصدة عامدة جموع ضحايا الازمة، الى مواجهات عنفية تخطط لها، وتحسب انها يمكن ان تنتصر فيها، وان تنجو من خلالها من عقاب الناس وغضبهم، وسعيهم لنيل حقوقهم الاساسية. ترتكب المنظومة جريمتها الاخيرة، في استدراج لبنان الى دوامة عنف شاملة، تحسب انها ستكون رابحة في نهاية مطافها، لكنها ترتكب مغامرتها الخطيرة القاتلة، وتلعب لعبة وجودية قاتلة، خطرها على المنظومة ذاتها، افرادا وعائلات وشخصيات ستدفع غاليا ثمنها، فحذارِ ان نستسهل العنف كخيار، وحذارِ من ان نندفع جميعا، لاعتبار العنف قدرا لا مناص من اعتماده.

لا تكتفي هذه المنظومة بارتكاب كل هذه الجرائم والخطايا بل تستدرج قاصدة عامدة جموع ضحايا الازمة الى مواجهات عنفية تخطط لها وتحسب انها يمكن ان تنتصر فيها

السابق
المعلومات تفكّك احدى أخطر شبكات ترويج المخدرات في صحراء الشويفات!
التالي
المرشحة المعارضة في «صيدا_ جزين» هانية الزعتري لـ«جنوبية»: نرفض الأمر الواقع ومنظومة الفساد