«في مصادر النكبة اللبنانيّة».. محاضرة لبيضون : «الطائفيّة المجدَّدة تعيد تعريف الفساد»

احمد بيضون

بمناسبة السنة الثالثة لإنطلاقتها ، نظمت الندوة للفكر الحر محاضرة القاها المفكر وعالم الإجتماع والمؤرخ الدكتور أحمد بيضون بعنوان ” في مصادر النكبة اللبنانية : الطائفيةُ المُجدَّدةُ تعيدُ تعريفَ الفساد”، وذلك يوم السبت الفائت في ديربورن- ميشيغن .

وهذا النصّ الكامل لمحاضرة الدكتور بيضون، “في مصادر النكبة اللبنانيّة: الطائفيّة المجدَّدة تعيد تعريف الفساد “:

اقرأ ايضاً: «هجمة» كبيرة على العملة الخضراء.. الدولار تجاوز الـ 26 الفا!

الغثيان 

في إحاطةٍ قدّمها وزيرُ الخارجيّةِ الفرنسيِّ جان-إيف لو دريان في مجلسِ الشيوخِ، في كانون الأوّل من العام الماضي، وتناولَ فيها مسائلَ مطروحةً في معْظَمِ أقطارِ الشرقِ الأوسطِ، وَصَفَ الأزمةَ اللبنانيّةَ بأنّها “اقتصاديّةٌ وماليّةٌ، اجتماعيّةٌ وإنسانيّةٌ، سياسيّةٌ بل أخلاقيّةٌ أيضاً”. 

في مسْمَعِ اللبنانيّينَ، تبدو الأوصافُ الخمسةُ الأولى تحصيلَ حاصلٍ… وكذلكَ الأخيرُ المسندُ إلى الأخلاق! لولا أنّ هذا الوصفَ الأخيرَ ليس مألوفاً صُدورُهُ من وزيرِ خارجيّةٍ يعْرِفُ الإشكالَ العويصَ المترتّبَ على إسنادِ السياسةِ إلى الأخلاقِ ويعرفُ من أحوالِ السياسيّينَ في طولِ الشرقِ الأوسطِ وعَرْضِهِ (وفي غيرهِ أيضاً) ما يُفْترَضُ أن يُغْريهِ بالاستغناءِ عن ذِكْرِ الأخلاقِ في هذا المعْرِض. هذا وزيرُ خارجيّةٍ أمسى مُخَضْرَماً وليسَ بُنَيّةً من بُنَيّاتِ أَخَويّةٍ ما! مع ذلكَ، وَصَفَ لو دريان أزْمتَنا ب”الأخلاقيّة”!… 

والحالُ أنّ واجبَ التحفّظِ الدبلوماسيِّ لم يَكُنْ حالَ دُونَ إقدامِ آخَرينَ من قادةِ العالَمِ على اعتمادِ هذا الوصفِ للأزمةِ اللبنانيّةِ أو ما هو بمَثابَتِه. وكان آخرَ هؤلاءِ الأمينُ العامُّ للأُممِ المتّحدة. فإذا استذكَرْنا (مرّةً أخرى) ما هو مفْتَرَضٌ من تحفّظٍ في هذه المقاماتِ لم يَبْقَ إِلَّا كلمةٌ واحدةٌ تسمّي شعورَ هذهِ المراجِعِ حيالَ المشهدِ الحاليِّ لأهلِ “المالِ والسلطةِ” في ديارِنا: الغَثَيان! 

وهو غَثَيانٌ جاءَ غَلّاباً فاستدعى لجوءَ الوزيرِ الفرنسيِّ إلى الأخلاق. وجاءَ متَمادِياً أيضاً فحفَلَ العامانِ الفائتانِ بأشنَعِ الأوصافِ أطلقها تِباعاً على ساسةِ لبنان ومصرفيّيهِ مسؤولونَ يضبطونَ ألسِنَتَهُم عادةً. 

ومع سهولة الإقرار بما تتّصف به النكبة اللبنانيّة (وهذه تسميةٌ أراها أقرب إلى واقع الحال من عبارة “الأزمة اللبنانيّة”) يبقى لزاماً على المتأمّل أن يعيّن لهذه الأبعاد مراتب تُظهرُ التفاوت بينها في الوقع وكيفيّة تضافرها في ديناميّة النكبة العامّة. وهو ما يحملني، قبلَ الدخول في التفاصيل، على حجز الصدارة للبعد السياسيّ الاجتماعيّ الذي أعِدّه بؤرة التفسير لسواه من الأبعاد بما فيها الاقتصاديّ الماليّ. فلا نردّ الفساد، حين نعاين جسامة دوره في الانهيار الماليّ، إلى خللٍ في الأخلاق، مع الإقرار بحصوله، بل إلى خللٍ في النظام السياسيّ سنجهد في بيانه. لا نردّ الانهيار الماليّ أيضاً إلى خللٍ فنّي: إلى نقصٍ في المعرفة أو في البراعة مثلاً انتهى إلى ما حلّ بالنقد اللبنانيّ وبالقطاع المصرفيّ وبماليّة الدولة ومن ثمّ بعموم اللبنانيّين. فإنّما هي سياسةٌ مركّبة أمْلَتها مصالحُ للمتحكّمين بمواقع القرار الماليّ في القطاعين العامّ والخاصّ تضافرت في رسم هذا المسار الذي آل إلى الكارثة المعلومة.  

وأمّا الأخلاق فهي، وإن لم تصلح تفسيراً لفساد له هذا العرض الجماعيّ كلّه، إنّما تقدّم بفقدانها أو بسوئها حكماً عليه. هذا إلى إشعارها بوجهة الشعور حيال ما تمادى ظهوره من إحجامٍ عجيب لزمته القوى الحاكمة عن سلوك أيّ من السبُل التي ظهرت ضرورة سلوكها للتوجّه نحو معالجة (لا يسعها أن تكون إلّا بعيدة المدى) لوجوه النكبة المختلفة، بما بدا ممكناً تيسيره من موارد ومعونات. وهذه سبُلٌ يجملها عنوانٌ واحدٌ تردّد كثيراً منذ اندلاع الحريق، بل قبله بكثير، وهو “الإصلاح”. وهذا هو العنوان الذي بقي بلا وقع ولا حضور في أقوال القوى الحاكمة وأفعالها. وقد أثارت هذه البلادة على التحديد ما سمّيناه الغثيان الذي أصاب مراجع عديدة في طول العالم وعرضه ومثّل مسوّغاً لحديث الأخلاق أو حديث غيابها.  

في ما يعدو الغثيان، وهو حالةٌ شعوريّةٌ، تنشر البلادة نفسها إحساساً أقرب إلى المنطق العمليّ هو الإحساس باستعصاء نكبتنا هذه على العلاج. فليس من جهةٍ ترتضي مدّ يد العونِ الماليّ إلى الدولة اللبنانيّة طالما بقيت قائمة أوضاع مؤسّسيّة هي التي رعت النهب وآلت إلى التبديد ومن ثمّ إلى الإفلاس: إفلاس القطاعِ المصرفيِّ وإفلاس الدولة، ولو انّه بقي مقنّعاً أو غير معلَنٍ في الحالتين. وقد بات واضحاً أنّ عجز الحكم عن الاستجابة للدعوات المتقاطرة من جهات كثيرة إلى الإصلاح وعن الإدلاء بخطّة أو تصوّر لوقف التردّي ومباشرة النهوض إنّما يشير إلى قصور في بنيته متمثّلٍ في التعارض بين مصالح القوى الحاكمة وإجراءات الإصلاح سواء منها ما تناول ضبط الإنفاق العامّ وجوهاً وأحجاماً وقَواعدَ أم تجديد هيكلة القطاع المصرفيّ على نحوٍ أقرب إلى التثمير الأمثل لما بقي تحت يده من موارد وإلى الإنصاف في توزيع خسائره وفق خطّةٍ تحفظ للمودعين حقوقهم. 

بيّنٌ مِن بعدُ أنّ الإحجام عن الإصلاح، وهذا موقفٌ سياسيّ لا يغيّره، على ما يظهر، بقاء الإصلاح محصوراً في الترشيد الماليّ والضبط الإداريّ دون مساس بالهيكل السياسيّ، لا يفضي إلى بقاء الأوضاع عند درجة السوء التي بلغتها حتّى اليوم. بل هو يفضي إلى ازديادها سوءاً وقد يؤول إلى بروز ضروب من تفكّك المجتمع والجنوح إلى العنف المنتشر لا تزال مكبوتة نسبيّاً حتّى الآن. ولمّا كان الإحجام المشار إليه محصّلةً سياسيّةً لسلوك الحكم بأطرافه كافّةً فإنّ علينا بيان كيفيّات الاتّحاد ما بين المسار الماليّ نحو الانهيار وبنية المصالح السياسيّة، بما هي مجال لمطالب ومطامح ومصدر إملاءات وخطط أو قرارات في شبكة العلاقات ما بين الدولة والقطاع المصرفيّ وفي التصرّف الماليّ لكلّ من هذين على حدته. 

تمويل الدولة وطبائع الفساد 

وذاك أن نموذج تمويل الدولة والإنفاق العامّ بعد الحرب شكّل صلب الأزمة الأهمّ والدافع الأشدّ نحو الانهيار، وهو ما سنعود إليه. ذاك أيضاً أن مواطأة المصارف حاجة الدولة المتعاظمة إلى الاقتراض حفزتها الاستجابةُ لنِسبِ الفائدة المفرطة المقدّمة من مصرف لبنان ولم يردعها تعريض أموال المودعين الذين حظوا بفوائد مرتفعة أيضاً. وما أغرى المصارف بتقبّل هذا التعريض أنّها حظيت بهامش ربح مرتفع وتمكّنت، وهي العارفة بوقائع الحال والمآل، ومعها كبار المودعين (والسياسيّون منهم على الأخص) من إخراج أموالها وأموالهم، حالما ظهرت بوادر الأزمة، متسبّبة في استفحال هذه الأخيرة. هذا ولا بدّ من التذكير بأنّ أسواق المال الخارجيّة كانت قد استنكفت عن إقراض الدولة قبل نحوٍ من سنتين من تعثّر القطاع المصرفي، وذلك شعوراً منها بالخطر القريب المتجسّد في النصيب الذي باتت خدمة الدين تقتطعه من موارد الدولة وبتنامي العجز في ميزان المدفوعات، فانحصر تمويل الدولة بالمصارف اللبنانيّة. كان وشك السقوط سرّاً ذائعاً إذن، في الأوساط الموصوفة ب”العليا” على الأقلّ… 

يُذْكر الفساد تكراراً تعليلاً لتضخّم الإنفاق العامّ ولما يقابله ويزيد من وطأته من قصور في ما يتحصّل من موارد عامّة. وينتهي الفساد أيضاً إلى تقليص الجدوى النسبيّة المفترضة للنفقة ومعها الحصيلة المفترضة للجباية.. ويمكن اعتبار العلاقة التي نشأت بين الدولة والمصارف علاقة فساد إجماليّ، قبل الدخول في تفاصيلها، إذ هي قامت على الترادف بين إفراطين: الإفراط في الفوائد (أي في أرباح المصارف التي راحت تزداد شبهاً بالرشوة) لقاء الاستجابة لإفراط الدولة في الاقتراض (وقد فرضه الفساد الهيكليّ المولّد لسياسة التضخّم في الإنفاق العامّ).  

ما هو الفساد؟ هو اتّخاذ الخدمة العامّة أو المال العامّ، خلافاً للقانون، سبيلاً إلى الانتفاع الخاصّ. على مستوى الموظّف الإداريّ، يُفهم بهذا، في الأغلب، اشتراط الرشوة لأداء خدمة مستحقّة أو أداءُ الخدمة لغير مستحقّ أو أداؤها أيضاً على وجه مغاير للمعايير المقرّرة لها، وهذا كلّه لقاء منفعة خاصّة. يُطْلق على ما جرى هذا المجرى اسمُ “الفساد الصغير” وهذا على الرغم من أنّ المنفعة المترتّبة عليه قد لا تكون صغيرة فعلاً أو قد يجعلها التكرار تتضخّم كثيراً. لكنّ هذا النعت يتيح تمييز الفساد الإداريّ، وهو لا يوصف بضيق النطاق عندنا، عن آخر أوسع نطاقاً بكثيرٍ هو الفساد السياسيّ. وهذا مع العلم أنّ النوعين متداخلان جدّاً وأنّ الإداريّ متأهّب على الدوام لإنفاذ الرغبة السياسيّة حيث يكون الإنفاذ محتاجاً إليه. فإنّ الإداريّ يعرف دَينه للسياسيّ بحلوله في الموقع الذي هو فيه ويعرف أيضاً حاجته إلى حماية السياسيّ ليسعه الاستمرار في الخطّة التي هي خطّته. 

هذا يفضي إلى طبائعَ للفساد أو أصنافٍ منه يأتلف فيها الإداريّ والسياسيّ ولكن يبقى الأخير أصلاً لها محكّماً في استمرارها ومستفيداً منه مباشرةً في كثير من أحواله.  ومن الفساد السياسيّ نخصّ بالذكر ههنا ما يتعلّق بالتصرّف بالمال العامّ حصراً إذ السياسة تفتح أبواباً للفساد غير هذا الباب. فإذا حصرنا همّنا الآن في المال العامّ، سياسةً وإدارة، (وهو ما نعدّه مربط الفرس في موضوع النكبة الجارية) ظهرت لنا على الفور كُتَلُ هَدْرِ وَمصادرُ انتفاعٍ عظمى هي غير خافية أصلاً. نذكر منها: التَلْزيماتِ خارِجَ الأُصولِ: للخدمات أو الشراء وللأشغال أو الإنشاءات، في الوزارات وفي البلديّات، في هذا المجلس وفي ذاك الصندوق… بَواخِرَ الكَهْرَباءِ التي غادرتنا مؤخّراً بعد طول إقامة… العائلاتِ المُسْتَوردة للنَفْطِ بَدَلاً مِن الدَولةِ… الاتّجارَ بالنفوذِ: من تغريم المصارف قروضاً أو مستخدمين أو تيسير الصفقات لها إلى التدخّل في برامج شركتي الخلويّ لتغريمهما أو لتيسير صفقاتهما أيضاً إلى الدخول السياسيّ عَنْوةً أو لقاءَ تسهيلاتٍ غير مشروعة في شركات ومشاريع مختلفة… التَهْريبَ غَيْرَ المُجَمْرَكِ أَو المُجَمْركَ رَمْزِيّاً عَبْرَ المَرْفَإ وَالمَطارِ أو الإفادةَ غير المشروعةِ من إعفاءات مقرّرة… الأَمْلاكَ البَحْرِيّة السائبة… المَقالِعِ وَالكَسّاراتِ المَرْعِيّة سِياسِيّاً… فواتيرَ الاستشفاء المهولة التضخيم التي تتقاضاها المستشفيات الخاصّة… التَهَرُّبَ مِن ضَريبةِ الدَخْلِ فضلاً عن َالمُحاباة في قانونِ الضَريبةِ… الجَمْعِيّاتِ شبهَ الوهميّة أو الوَهْمِيّةَ المُمَوَّلة مِن الدَوْلةِ… بدلاتِ الاستئجار الفاحِشة لِمَباني المُؤَسَّساتِ الرَسْمِيّةِ… التَوْظيفَ الانْتِخابِيّ أَو السِياسِيّ بلا مسوّغ عمليّ في القطاعين العامّ والخاصّ… الرَشاوى في الدَوائرِ العَقاريّةِ لِقاءَ التَخْمينِ المُتَهاوِنِ لِلضَرِيبةِ أو الرَسم… وضْعَ اليد على المشاعات لمصلحة السياسيّ أو بتسهيل منه… صفقات “هذا الصندوق” أو ذاك “المجلس” أو تلك المؤسّسة العامّة ومصروفاتها غَيْر الخاضِعةِ للرَقابةِ المالِيّةِ المُسْبَقةِ، إلخ، إلخ… 

هذا ونحن لا ننفكّ نردّدُ أَنَّ أَطْرافَ السِياسةِ وَالحُكْمِ في لُبْنان تُمَوِّلُها (وَتَسْتَتْبِعُها) قُوىً خارِجِيّةٌ. هذا ضربٌ آخر من الفساد وإن يكن الشعور به قد تبلّد لقِدمِ العهد به وفرطِ التعوّد ولاستفادة المحيطين بالساسة المعنيّين أو المنتمين إلى القوى المعنيّة والمقرّبين منها أيضاً. هو أيضاً أمْرٌ ظاهِرُ الآثارِ في مسلك هذه القوى، وآثاره جسيمة في أحوال البلاد جملةً، فلا يَرْقى إلَيْهِ شَكٌّ وَلا يُنْكِرُهُ أَصْحابُ العَلاقةِ أنْفَسُهُم أَو بَعْضُهُم في الأَقَلّ. وَأمّا ما تُجْمِع القوى وزعماؤها عَلى إنْكارِهِ فَهوَ أَنَّ الدَوْلةَ اللُبْنانيِّةَ أَيْضاً تَتَوَلّى قِسْطاً فاحِشاً مِن تَمْويلِهِم: أَيْ أَنَّهُم يَنْهَبونَ المالَ العامَّ وَأَنَّ هَذا النَهْبَ سَبَبٌ مُزْمِنٌ وَراجِحٌ لِما آلَتْ إلَيْهِ حالُ الدَوْلةِ المالِيّةُ مِن انْهِيار ومن سَوق للمجتمع برمّته إلى ما يشبه الإفلاس.  

تُمَوِّلُ الدَوْلةُ الإنْفاقَ السِياسيَّ الجاري لِلْقُوى وَالزَعاماتِ الحاكِمةِ، مِنْ تَنْظيمِيٍّ وَخِدْمِيٍّ، وَتُمَوّلُ أَيْضاً جانباً (على الأقلّ) من نُمُوّ الثَرَواتِ الشَخْصِيّةِ لِزُعَماءَ مُعْروفِينَ بَعْضُ ثَرَواتِهِم ظاهِرٌ لِلْعَيانِ وَبَعْضُها خَفِيٌّ وَلَكِنَّهُ ذائعُ الصِيت. يَحْصُلُ هذا التَمْويلُ بآليّاتِ الفَسادِ المَعْروفةِ، عَلى أَنْواعِها، وقد سبق ذكرُ بعضها فنعيد منه الآن ما ينفرد به السياسيّون أو يكادون: مِنْ جُعالاتٍ يَجْبُونَها لِقاءَ تَحْكيمِ نُفُوذِهِم في تَلْزيمِ المَشاريعِ وَالخِدْماتِ العامّةِ وَمِن شَرِكاتٍ أَو أَتاواتٍ يَفْرِضونَها لِقاءَ تَسْهيلِهِم أكْلَ حُقوقِ الدَوْلةِ عَلى أَصْحابِ المَصْلَحةِ في ذَلِكَ، إلخ.، وَيَحْصُلُ التَمْويلُ أَيْضاً بإِلِزْامِ الدَوْلةِ، عَبْرَ جَمْعِيّاتٍ أَو مُنْشَآتٍ مُخْتَصّةٍ، بِتَكاليفِ خِدْماتٍ مُخْتَلِفةٍ تُقَدَّمُ لِلأتْباعِ بِاسْمِ التَنْظيمِ أَو بِاسْمِ الزَعيم… وَيَحْصُلُ التَمْويلُ، في صِيغةٍ لَهُ أُخْرى، بِتَوْظيفِ الأَنْصارِ، في القِطاعِ العامِّ، مِن غَيْرِ حاجةٍ لِهَذا القِطاعِ بِهِم: لا لِكَسْبِ أَصْواتِهِم وَأَصْواتِ عائلاتِهِم في الانْتِخاباتِ وَحَسْبُ، بَلْ، في كَثيرٍ مِن الحالاتِ أَيْضاً، لِتَشْغِيلِهِم فِعْلِيّاً في أَجْهِزةِ الزَعامةِ أَو التَنْظيمِ فيما هُم يَتَقاضونَ أُجورَهُم مِن المالِ العامّ. إلخ. 

تَعْجَزُ الزَعاماتُ الحاكِمةُ عَن المَسِّ بِهَذِهِ الأنْواعِ مِن الفَسادِ لِأنّها شِريانٌ ضَخْمٌ مِن شَرايينِ حَياتِها، لا أَكْثَرَ وَلا أَقَلّ. وَالحالُ أَنَّ هَذا الفَسادَ هُو الفَسادُ الأعظمُ، إذا لَزمْنا معنى الكلمة التقليديّ، وَهوَ شَبَكةُ هدرٍ أخطبوطيّةٌ كان لها شأنها في الإفضاء عاجِلاً أو آجِلاً، حالما يُفْتَقَدُ مَن يَهِبُّ لِلإنقاذِ مِن الخارِجِ، إلى دَمارِ الدَوْلةِ وَالبِلاد. 

فلا وجه لصرف النظر عن هذا كلّه بغية تشديد النكير مثلاً عَلى الرَواتبِ الضخمة وَالتَعْويضاتِ الشخصيّة وَما جَرى هَذا المَجْرى من منافع. لا لأنّ الاحتجاج على هذه المحاباة المعلنة لذوي السلطة غير جائز، فهو في الواقعُ مَوْفورَ الشَرْعِيّةِ، يزيده وجاهةً ما بدا من افتقار المستفيدين إلى منجزات يستحقّون بها هذا الذي يجنونه. فإنّما هم لهذه الجهة، في حالِ ضَعْفٌ مَعْنَوِيّ شَديد، بعد ما حلّ بالبلاد وأهلها في ظلّ سلطتهم. غير أنّهم ما زالوا قادرين على إعفاء أنفسهم هيئاتٍ وأفراداً مِن الإصْلاحِ وَالمُحاسَبة. وَهو ما يُسَهِّلُ رَفْضَ كُلِّ إصلاحٍ آخَرَ عَلى المُتَضِرِّرينَ مِنْهُ، أيَّاً يَكُن الإصْلاحُ وَأَيّاً يَكُن المُتَضَرِّرون. 

الحرب وجديد السياسة 

يبقى، في كلّ حالٍ، أنّ ما أجملناه تحت عنوان الفساد واستكثرنا من الأمثلة المعروفة له ليس بالقليل. ولعلّه يستوعب ما كان يسمّى “الفساد” في مراحل ما قبل الحرب. بعد الحرب، أصبح تمويلُ الدولة كلّه محكوماً، لجهتي حجمه وكيفيّات إنفاقه، لا بالقدرات الموضوعيّة للبلاد ولا بالمصلحة العامّة بالضرورة، بل بالإملاءات المتقابلة لقوى طائفيّة استولت على الحكم وأصبحت تبدو من غير بدائل. وهي قد تقاسمت الدولةَ قطائعَ وأخضعت الإنفاق العامّ لإدامة نفوذها أو توسيعه في الوسط الطائفيّ لكلّ منها ولتمويل نفسها أيضاً (وهذا الأخير يتداخل فيه الإنفاق على الأجهزة الحزبيّة وتنمية الثروات الشخصيّة للقادة). هذه هي الواقعة التي لا غنى عن التريّث عندها إن شئنا التوصّل إلى فهم قويمٍ لما نحن فيه من نكبة.  

ما الذي نقصده بافتقار مجتمعنا السياسيّ، في طوره الأخير، إلى بدائل تتوزّع ما بين صفّ السلطة وصفّ المعارضة ويتيح تعدّدها ما يسمّى تداولاً ديمقراطيّاً للسلطة؟ نقصد استئثار قوّة سياسيّة واحدة بقيادة كلّ من الطوائف الكبرى في البلاد، منذ أعوام الحرب، بحيث يتعذّر إخراج هذه القوّة من الحكم، مهما يكن بؤسُ سجلّها فيه، من غير إخلالٍ جسيمٍ بمبدإ تقاسم السلطة بين الطوائف، وهو المبداُ المعتبرُ عموداً فقريّاً للنظام السياسي. ومع أنّنا نقع في الحالة الشيعيّة، مثلاً، على قوّتين لا على واحدة ونقع على ما يشبه ذلك في الحالة المارونيّة فنحن لسنا، في الحالتين، حيال قوّة تصلح بديلاً للأخرى في الحكم. القوّتان الشيعيّتان مؤتلفتان، منذ غدوات الحرب، وتتوزّعان النصيب الشيعيّ من السلطة الحاكمة منذ خروج القوّات السوريّة من البلاد سنة 2005. والقوّتان المارونيّتان متنازعتان في الغالب، ولكنّ اقتصار تمثيل الموارنة على إحداهما دون الأخرى، وهو يحصل بين حينٍ وآخر، يضفي على هذا التمثيل مظهر ضعفٍ واضحٍ لدى مقارنته بالتمثيل الشيعيّ على التحديد.  

فإذا سرّحنا النظر في أحوال سائر الطوائف ظهر لنا كيف انحصرت قيادة البلاد طوال عقد ونصف عقد في قبضة ستة أو سبعة من زعماء الطوائف، لا تستقيم صيغة للحكم ما لم يكونوا، في ما يتعدّى الخلافات المقيمة بينهم، أوصياء على الصيغة متضامنين متكافلين. أهمّ المترتّبات عن هذه الحال (وهي من مواريث الحرب أصلاً) أنّ صفّيّ المعارضة والحكم يصبحان صفّاً واحداً من غير افتراضٍ لوحدة في الخطّ أو في التوجّهات. بل العكس يبقى هو الحاصل. فيُحتمل أن يَظهر أيّ من أطراف الحكم في مظهر المعارضة بلا احتياجٍ منه إلى مغادرةِ الحُكم، ويحتملُ، إذا حيل بينه وبين ما يطلب، أن يتنحّى أو يقاطع فيفضي بآلة الحكم كلّها إلى التعطّل. وذاك أنّ هذه الآلة ليست مصمّمةً بحيث تطيق الاستغناء عن واحدٍ من مكوّناتها الطائفيّة بلا محنةٍ يدشّنها الاستغناء لصيغة الحكم كلّها وللبلاد. مؤدّى هذا تمتُّعُ كلّ من الأطراف الطائفيّة بحقّ نقضٍ يواجه به ما لا يرضيه ويحصُل بقوّته، ولو بعد مجالدةٍ ومساومةٍ، على ما يرغب في الحصول عليه.  

لا يسعُنا التوغّل ههنا في تفاصيل هذه القاعدة وشواذّها، وقد تبسّطنا مراراً في عرضها في مناسبات أخرى مختلفة. ما يُهمّنا إيضاحُه هنا هو أنّ هذا التقابل، في ميدان الحكم، بين قوىً لا يستغنى عن أيٍّ منها له تبعاتٌ على سياسة الدولة الماليّة: على الإنفاق العامّ بقياسه إلى الموارد وعلى تعيين هذه الموارد أيضاً وعلى وجهات الإنفاقِ وأحجامِه وقواعدِه وما يلي ذلك كلَّه ويترتّب عنه. هذا التقابلُ يؤسّس لما سمّيناه “المناهبة” في الدولة، وهي أوسع نطاقاً بكثير من الفساد وأضخمُ عواقبَ وهي تشتمل على الفساد، في كلّ حالٍ، وتنشئ البنى لاستقباله. 

ولنُشر ههنا إلى حالتين حسّيتين متغايرتين أثمرتا مثالاً واحداً في مضمار المناهبة. في تِسْعيناتِ القَرْنِ الماضي، أَرْسى الحُضورُ المالِيُّ، الشَخْصِيُّ وَالسُعودِيُّ، لِرَفيق الحَريري في السِياسةِ اللبنانيّة والدَعْمُ المادِّيُّ الإيرانِيُّ لِحِزْبِ اللهِ نموذجين مُتَقابِلَيْنِ وَمُتَنافِسَيْنِ لِما “يَنْبَغي” أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الطاقةُ المالِيّةُ لِكُلِّ قِيادةٍ طائفِيّةٍ في لُبْنان، في عُرْفِ سائرِ القِياداتِ، حَتّى يَبْقى التوازُنُ بَيْنَها في حالةٍ يُمْكِنُ قُبولُها… 

أَصْبَحَت هَذِهِ الطاقةُ المَطْلوبةُ أَضْخَمَ بِكَثيرٍ مِمّا كانَت، في عهودٍ سبقت، وَذَلِكَ لِاسْتِواءِ الحَجْمِ المالِيِّ لِلْقِيادةِ مُحَدِّداً حاسِماً لِسِعةِ النُفوذِ وَعُمْقِهِ في الطائفة. فالتَمْويلُ عَصَبُ أَدَواتِ التَدَخُّلِ المُخْتَلِفةِ مِنْ تَعْليمِيّةٍ وَرِعائيّةٍ وَتَشْغيلِيّةٍ وَإعْلامِيّةٍ، إلَخ. وَهَذِهِ أَدَواتٌ غَيَّرَتْ كَثيراً في طَبيعةِ العَلاقةِ بَيْنَ القِيادةِ وَوَسَطِها الطائفيِّ بِالقِياسِ إلى ما كانَت عَلَيْهِ هَذِهِ العَلاقةُ قَبْلَ الحَرْب. 

فالحالُ أَنَّ القِياداتِ المُخْتَلِفةَ، الطامِحةَ إلى نَوْعٍ مِن المُعادَلةِ النِسْبِيّةِ، في النِطاقِ الطائفيِّ لِكُلٍّ مِنْها، لِلْقُوّتَيْنِ الكَبيرتَيْنِ الآنِفتَيّ الذِكْرِ، لَمْ تَجِدْ سَبيلاً ثابِتاً أَو كافِياً إلى هَذا التَعادُلِ في مِضْمارِ التَبَعِيّةِ للخارِجِ وَلا في مِضْمارِ ابْتِزازِ الأَوْساطِ القادِرةِ عَلى التَمْويلِ في الطائفة. فَلَمْ يَبْقَ لَها سِوى التَرْكيزِ عَلى التَوْظيفِ السِياسيً الطائفيِّ لِلْمالِ العامِّ (وَلِلْمَرافِقِ العامّةِ) وَعَلى نَهْبِ هذا المالِ بِسُبُل ِ الابتزاز والفَسادِ المُتاحةِ جَميعاً. 

وَلَقَد ازْدادَ هَذا التَوَجُّهُ إلى تَسْخيرِ مالِ الدَوْلةِ شُمولاً بِتَراجُعِ الطاقةِ المالِيّةِ الحَريرِيّةِ والدَعْمِ السُعودِيِّ لَها، في عَهْدِها الثاني، وَبِما أَخَذَ يَظْهَرُ مِنْ تَراجُعٍ حاصلٍ أَو مُرَجَّحٍ لتدفّقِ المالِ الإيرانِيِّ إلى حِزْبِ الله كلّما ضاقت حلقة الحصار الغربيّ على إيران الخمينيّة. 

ذلك كلّه جعل الحاجَةَ إلى الإطْباقِ على المالِ العامِّ جامِعةً، في المرحلة الأخيرة، بَيْنَ القِياداتِ الطائفيّةِ المُحْتاجةِ إلى صِيانةِ الأَدَواتِ الاجْتِماعِيّةِ السِياسِيّةِ لِسَيْطَرَتِها عَلى الطَوائفِ وَإلى صِيانةِ التَوازُنِ القائمِ بَيْنَها أَيْضاً، وهذا مَع بَقاءِ التَنافُسِ في الحَجْمِ وَالنُفوذِ جارِياً بِطَبيعةِ الحال. هذا أيضاً مع سقم في منطق توسيع الأجهزة أو تكثيرها لتعزيزِ الحجمِ والنفوذِ (وقد تكاثرت حالات التوازي الضئيل الجدوى بين الطواقم المتشابهة: هذا في الوزارة وذاك في “المؤسّسة العامّة”، ناهيك بتداخل الصلاحيّات بين الأجهزة الأمنيّة، إلخ). ومع السقم في التوسيع والتكثير ضعف منتشر في الأداء ناجم، بالدرجة الأولى، من تقديم الاستنزاف التنظيميّ أو القياديّ (أي السياسيّ) على الخدمة العامّة. 

… وما قد تجب الإشارة إليه ههنا أَنَّ التَمْييزَ بَيْنَ أَمْوالِ القائدِ وأَمْوالِ القِيادةِ أَمْرٌ شائكٌ جِدّاً في مجتمعنا السياسيّ، إذ العَلَنِيّةُ أَو الشَفافِيّةُ مَفْقودةٌ، بِتَواطؤٍ عامٍّ، فيَكادُ مُجَرَّدُ المُطالَبةِ بِها لا يُذْكَر. فإذا ألححنا في طلب التمييز الماليّ بين القيادة والقائد فما يجوز ترجيحه هو أن يؤثر القائد لتمويل نفسه سلوك ما يشبهُ طريقة الشريك المضارب يمليها على متموّلين وأصحاب مشاريع لقاء تقريبهم إليه وتمتّعهم بميزات أو امتيازات ييسّرها لهم نفوذه أو أيضاً لقاء اجتنابهم نقمته وما يتأتّى عنها من ضرر متنوّع الأساليب والمنافذ. عليه تنتهي هذه الخطّة، وإن بدت في منطلقها ابتزازاً لرأس المال وأصحابه، إلى تكبيد الدولة، في نهاية المطاف، كلفة تعبيد سبُل المزيد من الثراء أمام من لا يعوزهم الثراء. وأمّا نصيب المحازبين والأنصار ونفقات النشاط المنظّم فيتحصّل معظمها، على الأرجح، من مدّ اليد مباشرةً إلى المال العام وهذا بإتاحة منافذ لهؤلاء إليه تتراوح بين مجرّد الاستخدام والموقع الوظيفيّ المميّز بريعه وإمكان تحويل هذه النفقة أو تلك إلى غير وجهها الأصليّ، إلخ . لا حاجة إلى القولِ، من بعدُ، أنّ هذا التمييز يبقى بعيداً عن القطع فهو لا يعدو حدّ الترجيح ويستبقي وجاهةً لاعتبار الاختلاط بين ماليّتيّ القيادة والقائد هو النموذج المحبّذ. 

إذَنْ، تُصْبِحُ هَذِهِ الحاجةُ إلى تَسْخيرِ المالِ العامِّ أَو نَهْبِهِ جامِعةً في ظَرْفٍ تَضيقُ فيهِ كَثيراً طاقةُ هَذا المَصْدَرِ وَيأخذ الاسْتِمْرارُ في اسْتِنْزافِهِ في زَعْزِعَة أَرْكانَ العَمارةِ كُلَّها. وَبَيْنَ الحاجةِ إلى مُواصَلةِ النَهْبِ والتَسْخيرِ وَالحاجةِ إلى المُحافَظةِ عَلى مَصْدَرِهِما، دارت وما تزال تدور المُباراةُ الجَهَنَّمِيّةُ في إبّان التوجّه نحو النكبة الجارية، ثمّ في أثنائها. 

بينَ الفساد والمناهبة 

نعود إلى المناهبة. ومؤدّاها أنّ نوعاً من المبارزة ينشأ ما بين هذه القوى الحاكمة في تدبّر سبُلٍ متناظرةٍ للإنفاق العامّ. والعمدةُ في ذلك ليست أن يلبّي الإنفاق العامّ حاجاتٍ عامّةً بل أن يبقى مرعيّاً نوعٌ من التعادل النسبيّ بين أنصبة القوى الطائفيّة من “الكعكة” الإجماليّة. يترجم هذا التعادل النسبيّ مبدئيّاً أحجام القوى وما يفترض أنّها تمثّله من طوائف معتبراً بمحصّلة المقارنة بينها. ولكن لا يسعه أن يتجاهل، بطبيعة الحال، ما يشير به ميزان القوى في ظرف بعينه، وهو ما يتحصّل من التناحر شبه الدائم بين هذه القوى نفسها. تضطرب الاستجابة لمقتضى التعادل أيضاً أو تختلّ لمدّةٍ من الزمن حين يفضي الصراع إلى الاستغناء عن بعض “من لا يستغنى عنه” من القوى. فتحلّ في الحكم محلّ القوّة الرئيسة في طائفةٍ من الطوائف قوّة أضألُ شأناً يظهرُ معها تمثيل الطائفة عرضةً للطعن، بالنظر إلى ضعفه، حين يقارَن بتمثيل غيرها. وهذه حالةٌ أوضحنا مغايرتها لمنطق النظام الطائفيّ بعد الحرب وتعذّر تماديها بلا كلفات جسيمة يتكبّدها هذا النظام ولا تخلو أن ترزح إلى هذا الحدّ أو ذاك، على الاستقرار العامّ في البلاد. فتتعيّن العودة، بعدَ حين، إلى تشكيل للحكم أقرب إلى التوازن… وهو ما يسهّل تحقّقَه عادةً استحقاقٌ دستوريّ ما: حكوميّ أو نيابيّ أو رئاسيّ، أو أزمةٌ واسعةُ النطاق…  

هذا وما يمهّد للمناهبة ما تحتاج إليه من بيئةٍ سياسيّة هو أنّ التباري فيها بات يجري، بعد العام 2005، بلا حَكَم يقرّ المتبارون بسلطانه. قبلَ الحربِ، كانت مهمّة التحكيم في يد رئاسة الجمهوريّة ولم يكن هذا السلطان المخوّل لها بحكم الدستور وميزان القوى بين الطوائف معاً، يفترض النزاهة بالضرورة. أعوام الحرب كانت بطبعها استثناءً لجهة سلطة الدولة الإجماليّة وموقعها من قوى المجتمع السياسيّ ومن المجتمع كلّه. وأمّا أعوام الوصاية السوريّة بعد الحرب فكان التحكيم فيها في يدِ الوصيّ، وهو ما موّه واقعَ التشكيل الطائفيّ الذي تَوَزّعَ مواقع السلطة في ظلّ دستور الطائف (أو ما استبقيَ منه) ومنطقَ العلاقة بين أطرافه. وحين انقشع ظلّ الوصاية باتت حصائل المناهبة خاضعة حصراً لمزيج من التواطؤ والتنازع بين قوى الحكم التي استتمّت عدّتها وعديدها الطائفيّين. وظلّ ييسّر المناهبةَ كثيراً تَوَزّعُ ممثّلي الطوائف محميّاتٍ مؤسّسيّةً يقبع خلف دفّة كلّ منها مسؤولٌ تكاد كلمته لا تقبل ردّاً ولا اعتراضاً ويعدّ التصدّي له افتئاتاً على طائفته. وهذا في حينٍ بدت فيه الهيئات الرقابيّة مفتقرةً إلى السند السياسيّ ومحفوفة الصلاحيّة بالاستثناءات، يرى فيها السياسيّون خصماً لهم وغريماً ويكفّون يدها حيث يستطيعون إلى الكفّ سبيلا.  

أمرٌ آخر ينبغي التشديد عليه هو أنّ منطق المناهبة لا يهيمن في ميدان الإنفاق العامّ وحده بل يرزح أيضاً على موارد الدولة فينحو إلى تقليصها فيما هو يسعى إلى إطلاق العنان للإنفاق. يتبدّى هذا الرزوح الذي تمليه مداراة مصالح الفئات النافذة طبقيّاً أو طائفيّاً في المجتمع أو استرضاء الجمهور الناخب هنا أو هناك، لا في منطوق النظام الضريبيّ أو التعرفات المختلفة وحده، بل في حدود جباية الضريبة أو الرسم أو بَدَلِ هذه الخدمة العامّة أو تلك. هذا المنحى بوجهيهِ: تضخيم النفقات والحدّ من الواردات أصبحَ مؤدّاه، في البيئة الطائفيّة المؤسّسيّة، أن تغدو المناهبة، باستوائها سنّة عامّةً في تصريف شؤون الماليّة العامّة، عباءةً منشورةً على الفساد بمعناه التقليدي وبنوعيه الصغير أو الإداريّ والكبير أو السياسيّ… فهي تزكّي الفساد وتعزّزه ولكن تفيض عنه فلا يَسْتنفد معناها. 

دوّامة الاستدانة 

آن الآنَ أوانُ القول إنّ إفضاء المناهبة، في صيغتها التي أرساها تكوين السلطة السياسيّة في غدوات الحرب، لم يكن لينتهي إلى هذا التضعضع الماليّ الفادح للدولة ولقطاع المصارف معاً لولا انفتاحُ باب الاقتراض أمام الدولة على مصراعيه ما إن وضعت الحرب أوزارها. فتحت الاستدانةُ بما ظهر، لنحوٍ من عقدين، من يسرٍ في الاقتراض من الأسواق الماليّة، أوّلاً، ثمّ من القطاع المصرفيّ على نحوٍ متزايد الحصريّة، أبواب تمويل الإنفاق عن سعةٍ وَفْقَ نموذج المناهبة. وقد تعزّز هذا اليسر بالفحش في معدّلات الفائدة المقدّمة إلى المقرضين بالليرة اللبنانيّة وبالدولار. يسّر هذا الفحش للمصارف اللبنانيّة أرباحاً مهولة سهّلت لها بدورها استدراجاً واسع النطاق لودائع تعاظمت كتلتها، يشدّها ما عُرض على أصحابها من معدّلات فائدة مجزية راح يتزايد تفوّقها على الرائج في السوق العالميّة. من هذه الدورة الجهنّميّة التي دخل فيها الاقتراض العامّ والودائع، بأثر من فوائد بذلتها الدولة للبنوك وأخرى بذلتها المصارف للمودعين، تشكّلت الصيغة اللبنانيّة ممّا يسمّى “خطّة بونزي”، وقد أشار إليها الرئيس الفرنسيّ ماكرون بلا مواربة بهذا الاسم. وهذه خطّة تنتهي حكماً على ما هو معلوم، باستئثار اللصّ بما حصّله بعد أن يكون قد وزّع على مؤتمنيه بعضاً من أموالهم لجذب المزيد فالمزيد منها… إلى أن أعجزه سخاؤه في تقدير الريوع المترتّبة لودائع لم تستثمر بحيث يغطّي نموّها هذه الريوع عن المضيّ قدماً في التوزيع وفقاً لتعهّده… فتوقّف عن الدفع ولاذ بالفرار محمّلاً بما كان قد تبقّى في خزانته.  

سهّلت هذه السياسةُ لبضعة أعوام نموّاً استثنائيّ الوتيرة لاقتصاد البلاد الخارجة من الحرب. تدفّقت الأموال فعلاً من مصادر الاغتراب اللبنانيّ ومن مصادر أخرى أخَصّها أثرياء الخليج. وأتاح تدفّقها إلى المصارف اللبنانيّة للمصرف المركزيّ تثبيت سعر القطع لليرة اللبنانيّة، وهو أمر كان حيويّاً ليتاح للدولة الاقتراض من المصارف اللبنانيّة بالعملة الوطنيّة بلا قلقٍ من جانب المصارف على قيمة قروضها وليتاح لهذه الأخيرة الإفادة المستدامة من الفارق بين معدّل الفائدة المحصّل من المقترضين بالليرة (وفي طليعتهم الدولة) ومعدّل الفائدة المدفوع للمودعين بالدولار، وكان أرفع أيضاً من المعدّلات الجارية في السوق العالميّة. في هذا المناخ المشعر بالبحبوحة، وكان غير منتظر في بلادٍ خرجت من الحرب مدمّرةً ومستنزفةً، انطلقت وأُنجزت ورشاتُ إعادة الإعمار المعلومة بما وصم نموذجها من فسادٍ وإفسادٍ ومن انحيازٍ إلى مصالح ذوي المال والسلطة… 

على أنّ هذا اليسر بعد العسرِ لم يَطُل عهده. لم يلبث أن اضطرب التفاهم الدوليّ الإقليميّ الذي أتاح الخروج من الحرب أصلاً وأسهم أفقه (وهو أفق السلام العربيّ الإسرائيليّ المعوّل عليه في حينه وما كان يُفترض أن يفتحه من أعمالٍ وأسواق) في إملاء النموذج الذي اعتمد لإعمار بيروت، على الأخصّ. فكان أن توطّد الاقتران (الذي لم يكن قد زال قطّ) ما بين الاستعصاء المؤسّسيّ الذي استبقى النظام في حال أزمة سياسيّة متواصلة تقريباً والتبعيّات الطائفيّة لأقطاب الخارج (وهو ما رسم، ابتداءً من أواخر التسعينات، على الأخصّ، أي منذ انقضاء حقبة التفاهم السوريّ السعوديّ، خريطة الاشتباك الدائم بين أطراف النظام). ولم يكن يسع هذا الاستعصاء البتّة أن يحدّ ممّا مما سمّيناه المناهبة وهو فسادٌ أكبرُ متقابلٌ في تصميم الإنفاق العموميّ في جملته وفي لجم الموارد. ذاك كلّه انتهى إلى كبح معدّلات النموّ وإلى التباطؤ في تدفّق الأموال من الخارج ثمّ إلى ظهور العجز في ميزان المدفوعات وتوقّف المقرضين الخارجيّين عن إقراض الدولة قبل عامين تقريباً من الانفجار الأخير. وقد سبق القول أنّ القطاع المصرفيّ سدّ هذه الفجوة إذ استجاب لشهيّة الاستدانة العموميّة، وهي قد لبثت مفتوحةً تسعفها الأرباح المحقّقة للمصارف ولا يضبطها تواتر الإنذارات بإفضاء البلاد إلى الهاوية… 

السياسة بما هي أصل 

ولنُعِد القول أنّ هذا الذي حصل لم يكن ليحصل لولا ما أثمرته الحرب من تشكيل جديد لقوى السلطة الطائفيّة. وهو تشكيل يستحسن أن نضيف إلى ما أسلفناه بصدده أنّه همّش الفاعليّة السياسيّة للعائلات أو العشائر وللمناطق المتحلّقة حول البلدات الريفيّة ولأحياء المدن إذ سيّدَ الطوائف ممثّلة بقوّة رئيسة واحدة أو اثنتين لكلّ منها… وهذه قوىً أصبحت غير قابلة للاستبدال تحت طائلة الخلل الجسيم في ميزان التمثيل العامّ. خصوصاً وأنّ الطوائف خرجت من الحرب مشرّبةً اقتناعاً بالمساواة الحقوقيّة فيما بينها. وهو ما جعلَ خروج القوّة المتسيّدة في أيّة طائفةٍ من السلطة يبدو غبناً لها من جانب طائفة أخرى أو حلفٍ طائفيّ، وهو ما أصبح منطق التكوين الجديد لنظام التمثيل وللسلطة يرفضه بشدّة. هذا مع العلم أنّ التفعيل التامّ لهذه الصيغة الجديدة اقتضى وضع حدّ للوصاية السوريّة مع انسحاب القوّات السوريّة من البلاد في ربيع 2005، بعد اغتيال رفيق الحريري، ومع إجراء انتخابات نيابيّة جديدة غداة ذلك الانسحاب وما شهده هذا المنعطف من دخول لحزب الله وللقوّتين العونيّة والقوّاتيّة إلى ساحة الحكم والصراع المباشر عليه. 

عليه أصبح حكّام البلاد الفعليّون أولئك الأفراد الستّة أو السبعة وهم زعماء الطوائف الرئيسة ويسعهم أن يحكموا من خارج المؤسّسات الدستوريّة أو أن يتحكّموا في عمل هذه المؤسّسات مباشرةً أو عبر ممثّليهم فيها. ولمّا كانت العلاقات بين هؤلاء تتبع عن كثب تقلّب العلاقات الإقليميّة، بل تردّداتها الدوليّة أيضاً، وميزان القوى بين أقطابها، فقد أصبح الحلف الواسع بين قوى الطوائف، وهو ما فرضته طائفيّة ما بعد الحرب صيغةً مرجّحةً للحكم، لا يستبقي من واقعة “التحالف” إلا اسمها، في الغالب. فيتبدّى في واقعه تشتّتاً بين أقطاب لا يجمعها مضمون سياسيّ وينتهي إلى شللٍ كلّيٍّ أو جزئيّ عند تعذّر التوافق بين الأطراف ويضمّ الحكم والمعارضة معاً في الهيئة الحاكمة الواحدة، على كلّ حال، أو يجعلُ أطراف الحكم يتداولون المعارضة أيضاً فيما بينهم تبعاً للظرف أو للموضوع، وهو ما سبق التنويه به.  

لم تمنع هذه الحال استشراء المناهبة إذن بل عزّزتها مع استئثار كلّ من القوى بالمقدّرات التي تتحصّل لمواقع اقتطعتها وفرضت هيمنتها عليها في الدولة. فلم يكن شلل الحكومة مثلاً ليحول دون الإنفاق الجاري سواءٌ في الوزارات أو في الصناديق والمجالس المعلومة وفي سائر المؤسّسات العامّة، وهذا، على الأخصّ، بفعل ما حفظته الطائفيّة المجدّدة، بعد الحرب، من واسع الصلاحيّات للوزير في وزارته ومن حمايةٍ للقياديّ المسؤول في موقعه، بل أيضاً بفعل ما أخذ يزكّيه شلل الحكم المركزيّ من تسيّبٍ في مواقع السلطة المختلفة ومن مناهبةٍ بالتالي. 

النكبة الفريدة وقراءة الأفق 

في ذاكرتنا العامّة، بل أيضاً في الشعور الحميم لكلّ منّا، ما يُبرز الطابع الفريد للانهيار الماليّ الشامل ولسلوك الحكم حياله. جعل تقرير نشره البنك الدوليّ نكبتنا واحدةً بين ثلاثٍ هي أبرز ما شهده العالم من هذا النوع من الأزمات في قرنٍ ونصفِ قرن. وصرّح التقرير باقتضاء عودة البلاد إلى ما كان عليه مستوى دخلها في سنة 2017 إلى اثنتي عشرةَ سنةً في التقدير المتفائل وتسعَ عشرةَ في التقدير المتشائم وهذا بعد أن تبدأ المعالجة التي لا نراها بدأت فعلاً إلى الآن.  ولم تقصّر مراجع دوليّة أخرى مختلفة في إبراز فداحة النكبة وظهور أهل الحكم مظهر الساهي عن أبعادها ومقتضيات مواجهتها. وقد جاءت الضربة التاريخيّة لمرفإ بيروت فقرنت هول الانفجار بفظاعة الانهيار. هذا ولا أريد الخوض الآن في تقويم المواجهة الشعبيّة للنكبة: في دلالاتِ نهوضها العارم وأسباب خمولها لاحقاً. فهذا يقتضي بحثاً على حدة. أكتفي الآن بالإشارة إلى هجرة جانب من الجمهور الطليعيّ الذي استجاب للتشخيص السياسيّ للكارثة الماليّة وذهب إلى اتّهام النظام الطائفيّ برمّته. لا أتوقّف الآن أيضاً إلى ما يبدو تباشير هلهلةٍ في قوى النظام الطائفيّ: من تضعضع الزعامة السنّيّة الأولى مؤخّراً، بعد مخاضٍ غير قصير، إلى تقلّص القوّة المارونيّة الكبرى بنتيجة الجردة المحرجة لسلوكها في الحكم وعلى رأس البلاد، إلى اشتداد النقمة من طائفيّةٍ وغير طائفيّةٍ على الاستئثار الشيعيّ بالتسلّح من خارج الدولة وبادّعاء الحقّ في توريط البلاد كلّها في أيّ نزاع يرتئي وحده الدخول فيه، إلخ… فهذه مستجدّات تستأهل البحث على حدةٍ أيضاً وإن يكن التكهّن بمصائرها وتقدير عواقبها لا يزالان محتاجين إلى قَدْرٍ من التريّث، على الأرجح.   

لم أخلص من جهتي إلى غير ما خلص إليه أوفر فصائل الحركة الشعبيّة يقظةً واستقلالاً. وهو أنّ جذر النكبة الجارية سياسيّ، لا خلقيّ ولا فنّي، وهو داخليّ، بالدرجةِ الأولى، نما في تربة النظام الطائفيّ وإن يكن للإلزامات الخارجيّة وقعٌ شديدٌ على حركته ونصيبٌ جسيم من توفير الوسائل لنموّه وإملاء وتائر هذا الأخير ومآلاته. فيكون العلاج الواجب، إذا وجد علاج، مشروطاً باتّخاذ النظام الطائفيّ غرضاً للنقض وباعتماد الإصلاح السياسيّ شرطاً لاستقامة السبل الأخرى للإصلاح وإفضائها إلى غاياتها. لا ضيرَ في الحكم الخلُقي على أركان السلطة تبعاً لسلوكهم في النكبة (وقبلها). ولكن يمتنع ردّها، مع ذلك، إلى مجال الأخلاق أو تخيّل حلّ لها تكفي لتحصيله أخلاق مغايرة. والذين يزعمون القدرة على إصلاح الأمور بالاعتماد على رفعة أخلاقهم وسلامة نواياهم، لا غير، أي من غير مسٍّ بالأطر المؤسّسيّة للنظام الطائفيّ، وهي التي لبثت، على مدى أعوام، بنية استقبال وحضناً ترعرعت فيه النكبة، يرجّح أن يفسدهم هذا النظام نفسه قبل أن يبلُغوا من الإصلاح وطَراً يُعْتدُّ به. 

يبقى أنّ التوصّل إلى مجتمع ودولة تُرعى فيهما قيمُ المواطنة، لا قيمُ الطائفيّة، يَفْترض تكوّنَ قوى اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ راجحةٍ في البلاد تتّخذ هذه القيم دليلاً. وهو ما مثّلت بعضُ أجنحة الحركة الشعبيّة التي أطلقتها النكبة إرهاصاً معتبَراً به. لم يصمد هذا الإرهاص في الساحات بعد أن قوبل بالقمع والإنكار. ولكنْ بقيَت منه نُوىً متنوّعةٌ، متفرّقةُ المواقع. لا تزال هذه النوى ناميةً وعلى نموّها وتماسك تنظيمها ونضج برامجها نُعَوِّل.

السابق
«هجمة» كبيرة على العملة الخضراء.. الدولار تجاوز الـ 26 الفا!
التالي
مستقبل المنطقة الذي حضر دون استئذان (7) : إسرائيل تملأ «الفراغ» الأميركي