وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: العلامة الأمين.. ذاكرة لا تنسى وماض لن يمضِ

وجيه قانصو

تمر الذكرى السنوية الأولى لرحيل العلامة السيد محمد حسن الأمين بهدوء، نستحضرها خارج صخب الأحداث، وبعيداً عن دعوات النفير التي لا يهدأ صداها ولا تكل حناجرها.  هي ذكرى يراد لها أن تُنسى وتطمس آثار صاحبها، ولا يكون لها ذكر على الألسن، أو مكان بين الذين يراد لهم أن يعظموا ويبجلوا ويمجدوا. 

اقرأ أيضاً: بادية فحص تستذكر العلامة الأمين: خسارتك لا يعوضها شعر ولا عمر

 هذا هو حال بيئة أو ثقافة، تنسى وتتناسى كبارها وتستصغر عظمائها، بعد أن عشعشت الأصنام في مخادع ساكنيها، وارتكس فيها الوعي ليرسو على ضفاف البلاهة، وقست فيها القلوب فباتت كالحجارة بل أشد قسوة، وأتخمت فيها النفوس بالضغينة، والحقد ولم يعد يروي ظمأها إلا الانتقام والتشفي.

هو حال واقع يحتقر كباره ويعظم صغاره، يسفِّهُ عقلائه ويتغنى بسفهائه، يتعيب بأحراره ويفاخر بعبيده، يصدق الكذابين ويذم الصادقين، يمجد لصوصه وسفاحيه ويتغامز على شرفائه وفضلائه، يأنس بالجهل والحماقة ويضيق ذرعاً بالذكاء والفطنة.  هو واقع آخذ في الضيق حتى الاختناق، وفي التآكل حتى التلاشي، فلم يعد للمعنى فيه أي معنى، ولا للوجود الممتلىء أي قيمة، ولا للحياة المتدفقة أي دافع.

خطيئة السيد الأمين أنه أراد الحياة الفائضة بكل فورانها وأرادوا بالمقابل إعدامَ الحياة

خطيئة السيد الأمين، أنه أراد الحياة الفائضة بكل فورانها، وأرادوا بالمقابل إعدامَ الحياة، ويجعلوا من خنقها علامة كل فضيلة وسمو.  أراد إنساناً متحرراً من ثقله وأثقاله، ليتحرك بخفة الطير المحلق، وأرادوا إنساناً متقوص الظهر، من ثقل أحمال ذنوبه وذنوب من سبقوه.  أراد للسؤال أي يستنفذ كامل إمكاناته، ويصل إلى أقصى مداه، وارادوا الكهوفَ ملاذاً من نهار الحقيقة والخرافةَ، مسكناً للعقول. أراد إنساناً قادراً على أن يُريد ويجرؤ أن يقول لا، وأرادوا إنساناً لا يعرف غير ذُل النَعَم وخنوع السمع والطاعة.

أراد السيد إسلاماً يخدم الإنسان، يهبه طاقة الكدح وجلد القوة وإصرارها، وأرادوا إسلاماً يحيا بالرعب ويقوى بالخوف.  أراد إسلاماً لا سلطة فيه لأحد على أحد، وأرادوا إسلام التسليم ودين العبيد وعقيدة الطاعة.  أراد إسلام الحب والرحمة، والدفع بالتي هي أحسن، وارادوا إسلام الإنتقام والضغائن والعقاب وإقامة الحدود. أراد إسلاماً رحباً لا سقف له ولا جدران فيه، وحقول وجود ممكنة تمتد في كل الإتجاهات، وأرادوا إسلام التكليف الشرعي، ودين الخصوصيات وحصون العزلة. أراد إسلام الإمكانات اللامتناهية، والدين المفتوح على تأويلات لا حصر لها، وأرادوا الإسلام المنجز والمقفل والدين المستهلك والمشبع والمستنفذ. أراد إسلام الطرق المتعددة، وأرادوا إسلام الخط الواحد، والعقيدة الحازمة بحد السيف القاطع. أراد إسلام الحياة ونمائها وعمرانها، وأرادوا إسلام الموت وما بعده.  

أراد السيد إسلاماً يخدم الإنسان يهبه طاقة الكدح وجلد القوة وإصرارها وأرادوا إسلاماً يحيا بالرعب ويقوى بالخوف

ذنب السيد أنه جاهر بصدقه، قدم نفسه من دون أقنعة، وجعل ظاهره كباطنه شفافاً متلألأً. رفض أن يكون له مريدين، وجانب اتباع الأتباع له.  سائل الموروث لا ليحاكمه، بل ليستخرج ما كان مطموساً وكامناً فيه.  أراد لكل إنسان أن يكون قائد نفسه، ودليل ذاته، وصاحب حق في الاختيار والقرار، أي الحق في أن يمارس حريته، لا أن يتصف بها فقط. نبه إلى أن الارتقاء يكون في الخطأ والخطيئة، لا في ادعاءات العصمة والكمال، وأكد أن الخلاص والنجاة، ليسا ملكية دين أو خصوصية مذهب، بل ليسا حقائق ما بعد الموت، بل هما صفة الكدح الإنساني الذي لا يتوقف، وثمرة الاختبارات الإنسانية التي تستجلي، أنقى ما في داخل الإنسان وأرقى ما في خارجه، لتجعله قابلاً كل صورة.    

ليس التجاهل المتعمد للعلامة الأمين، من البعض منقصة له، فالواسع لا تحويه الحفر الضيقة، والنهر الهادر لا تخنقه الجداول النحيفة، والبهائم الزاحفة لا تعرف معنى طيران النسر المحلق.   فالعلامة الأمين اختبار إنساني فريد لن يمحَ، وعلامة حفرت توقيعها على أعتاب كل فِكرٍ نيِّر.  هو ذاكرة لا تنسى وماض لن يمض. 

السابق
لبنان.. الاستعدادات لـ 16 مايو
التالي
لماذا أفلس لبنان؟ القصة من بداية النهب المنظم إلى معالجات التصحيح المالي