أنطوان سيف يستذكر «السيد النوراني»

أنطوان سيف

الدكتور انطوان سيف،الأمين العام السابق “للحركة الثقافية-انطلياس”،لعدة دورات، ومدير الشؤون الثقافية في الحركة، والكاتب والمؤلف، والاستاذ الجامعي، يتحدث عن صديقه “النُّوراني” السيد الراحل محمد حسن الأمين  بلغته المعهودة الراقية العميقة ويقول:

اقرا ايضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: العلامة الأمين.. ذاكرة لا تنسى وماض لن يمضِ

“ليس عندي ما أضيفه إلى ما قلتُه فيه على المنبر، وبحضوره، الأولى في الاحتفال الكبير في بيروت في أوتيل الكارلتون مساء ١٨/١١/١٩٩٧ والثانية في المدرسة الجعفري في صور (وبإصرارٍ  منه شخصياً، مبرراً حرجي بأنّ الكثير من أهلنا في الجنوب لم يستطيعوا أن يحضروا احتفال بيروت “وأحببتُ-قال-أن أحقق رغبتهم بنقل نموذج منه إليهم حيّاً). وكان في احتفال صور ايضاً، على ما أذكر، الاساتذة طلال سلمان وسمير قصير (رحمه الله)…  ونشرتُ الكلمة في كتابي “الريح العنيدة: أقلام لبنانية في غروب القرن العشرين” الصادر عام ٢٠٠٠، ص ١٩-٢٢، بعنوان:”السيّد محمد حسن الأمين: السيّد النورانيّ والثقافة المقاوِمة”.وقد اختار سيف إعادة نشر كلمته  بكلماتها “النورانية” في الذكرى السنوية الأولى لغياب سماحته. وفيما يلي نص الكلمة:

هذا السيّدُ النورانيُّ رمزٌ كبيرٌ من رموز المقاوَمة الثقافية


( الســيّد محمَّد حســـن الأميــنالسيّدُ النورانيُّ والثقافةُ المقاوِمة)
لا تُهادِنُ الإرداةُ أمامَ عوائقها وأقدارها، ذاك أنّ العواصفَ التي تَطبعُ صَفعاتِها على السطوحِ المرتجِفة تأبى أن تُسلِّمَ سرَّها الحاملَ رغبتَها في ارتياد الأعماق ومعاقرةِ تاريخٍ أُرهِقتْ صفحاتُه الحاضرةُ بعصورٍ مكثّفةٍ من التقهقر والخيبات.لكأنَّ الحكيمَ الجليل الذي يَجهَدُ لرفْع السؤال إلى مستوى الجرح الكبير، ويَنعَم بنعمةِ مَن يُعطي الحكمةَ مَن يشاء، يتواطأُ مع الشاعر الذي يلجأُ إلى قلبٍ يَثقُ بأنَّ مرآتَه المجلوَّةَ بالمحبّةِ وبالألم، يُحسِن التنصُّتَ لأنينِ المقهورين. لا شيء يُغوي للذهاب بتلك المعادلةِ المعروفة إلى غاياتها القصوى: معادلةِ تَشاؤمِ العقل وتفاؤلِ القلب، التي تهِبُ الحياةَ معنىً إنسانياً، “كثيرَ الإنسانية،” كما يقول نيتشه، وتَجعلُ الحياةَ جديرةً بأن تُحيا، وجديرةً أيضاً بأن يُضحَّى بها ومِن أَجْلها! عندما نلتفُّ حولَه، كما الليلة، نكونُ على الحقيقة نفتعلُ المناسبةَ ونصطنعها، كأنَّما نحتفلُ بالــــ”لا” الباقيةِ فينا التي تُوهِم بالقدرة على كتابة تاريخٍ مثاليٍ لم يوجد قط!نلتفُّ حوله لتتأكدَ النفسُ بأنّ مناقِبَها هي في حَرَمِ الاحتماء، الاحتماءِ بالمعنى الذي قيل فيه عن عصبيَّة ابنِ خلدون بأنَها ليست “روحَ” الجماعة بل “غريزتُها” إلى الذات الجَمعيَّة. هكذا تتبدَّدُ الالتباساتُ حول احتفالِ هذه العشيَّة: نحن بحاجةٍ أن نلتفَّ حول بعضِنا لنَشحَذَ قدرتَنا على احتمالِ أزمنةِ القهرِ والتقهقر.

 هذا السيّدُ النورانيُّ رمزٌ كبيرٌ من رموز المقاوَمة الثقافية:

مُجاهدٌ للتحرير من الاحتلال، والتحرُّرِ من الاستبداد والجهل. سيّدُ الممانَعة. داعيةٌ بالحكمة إلى سبيلِ الحقِّ الذي يُحيي، بمواجهةِ الانغلاق، وأخوتُه التعصُّبُ والتطرُّف، الذي يُمِيت. عاشقٌ كبيرٌ للحقيقة يستولدُها لا في أنائيَّته ويقينِه الداخلي، بل في حلبةِ اللقاء ومجالسِ الحوار حيث هو فيها فارسُ الكلام، وفارسٌ فَذّ لفضيلة الإصغاء. إنسانيٌّ داعِيةٌ، ودعوتُه هي إسلامُه وإيمانُه، يَدُلُّ بها إلى الحقّ بالكرامة الشاملةِ جميعَ الخَلْق؛ هو القائلُ: “إنّ إقامةَ صيغةٍ عادلةٍ للعيش المشترك في لبنان، يُعطي فرصةً تاريخيةً للتفاعُلِ بين هاتين الديانتين: المسيحيةِ والإسلام” (ص 108). 

“سيفٌ على البُطْلِ” هَجَرَ في أزمنةِ السوءِ غِمدَه، جسَّدَ في معتقده وحركاتِه وسكناتِه الالتزامَ بأولويَّةِ المحبّةِ والرحمةِ في المسيحيَّةِ والإسلام، التي هي للفقراء والمتسضعَفين والمظلومين والمحرومين “والمعذَّبين في الأرض”.شاعرُ الجمالِ السماويِّ والأرضيِّ (ومن غيرِ واو العطف)، يرسُمُ دائماً في أعلى صفحتِه سماءً صافيةً كوجهه، مرصَّعةً بنجومٍ لا تَهابُ الغِياب. 

اما السيّد فقد اختارَ منذ البدء ومن غير تردُّد الانحيازَ إلى ثقافةِ العين ضدَّ ثقافةِ المِخرز إلى أنْ ينغرسَ بجانب الشمعةِ المقاومِة لا بجانب أسياد الظلام

من أجل هذا كلِّه، لا بل من أجل بعضِه، كان لنا في “الحركة الثقافية – انطلياس”، في الثاني عشر من آذار الماضي، شرفُ أن نُقيمَ له في كنَفِ دير مار الياس، ديرِ عامِّيّةِ 1840، تكريماً مميَّزاً نردُّ به له نزراً من عطائه الثقافيِّ الوطنيِّ الروحيِّ الكبير، كما قال في تقديمه زميلُنا الأبُ الرئيس الدكتور أنطوان ضو. عَودٌ إلى الساح:مِن إشاراتِ أزمنةِ العُقم أن تطفو فيها على السطوح خطاباتُ الرعدِ المُمِلّ من غيرِ بَرقٍ ولا مطر. ومن إشاراتها أنّك تَفزعُ لا من كثرةٍ “متعلِّمةٍ” ممَّن يخافون الكلام، بل من كثرةٍ منهم يخافون الاستماع! وأنتَ، صاحِ، لم يعد لك من سلاحٍ كي ترفَعَ الضيمَ عنهم سوى ظفرِ الكلام!في هذا الأوقيانوسِ الكبير من شبكات الجهل والاستبداد، ومشاريعِ الجاهليةِ المتدثّرةِ بأشرفِ القيم والرسالات، تُدجَّنُ الجماهيرُ كي تُردِّد كلَّ يومٍ، وبصوتٍ أوركستراليٍّ عالٍ، شعارَ التمجيد، حتى ينامَ السلطانُ مطمئناً إلى استمرار الطاعةِ وانحناءِ الرقاب.

سماحةُ السيّد كاسرُ الصمت قامةٌ بنصاعتها حالما تَشهدُ لها عَياناً

أمّا السيّد، فقد اختارَ منذ البدء، ومن غير تردُّد، الانحيازَ إلى ثقافةِ العين ضدَّ ثقافةِ المِخرز، إلى أنْ ينغرسَ بجانب الشمعةِ المقاومِة، لا بجانب أسياد الظلام الكبير الذين قال عنهم الشاعرُ في كلامه على مهرته:أُسِيرُها بين أصنامٍ أشاهِدُها ولا أشاهِدُ فيها عِفّةَ الصَنَمِنموذجٌ لبنانيٌّ راقٍ سماحةُ السيّد، يلملمُ أشلاءً لا تُرى بعيونٍ صنميَّة، مُعمَّمٌ مُكلَّلٌ بوقارٍ تشعُّ منه دماثةٌ هادئةٌ تَزيدها بهاءً نبرةُ صوتِه الرخيم الذي يداعبُ الكلماتِ بشغَفٍ ودرايةٍ كأنها هديَّةٌ يَحرِصُ على أن يقدِّمَها للسامعِ مُنقَّاةً مُصَفّاةً تتباعدُ فيها الكلماتُ متقطِّعةً على مَهَلٍ، خوفاً من استعجال، كأنما يترك لكلِّ واحدةٍ منها كينونةً لفظيةً خاصةً بها؛ يُشظِّي منها الصورَ، حيث الشِعرُ سليقتُه وقدرتُه على هجْرِ الأدوات الأليفةِ للاعتراض.

لكأنَّه عَطَّارٌ من أطباء النفوس والعقول الذين يغوصون في دهاليز النفس المُعتِمة بكلامهم الرخيم يردّد أصداءَه في مخابئها، وينتشلُها من سُباتها. معلِّمٌ كبيرٌ من شيوخ الهِدايةِ حينما يجتاحك التعوُّدُ والإدمانُ على رائحةِ الفساد الذي يحاصرُك، كأنّك بهذا الاعتياد تمنحُ الفسادَ والمفسِدين شرعيةً وتغطيةً، إذ به يَستُرون قباحةَ عُريِهم بصمتِنا. سماحةُ السيّد كاسرُ الصمت. قامةٌ بنصاعتها، حالما تَشهدُ لها عَياناً، فأنتَ لا محالةَ تعرف أنَّ سجلَّ حياتِك خَطَّ عنواناً لمرجِعٍ عزيز، مرجِعٍ محفورٍ في ذاتك إلى الأبد. هذه اللحظةُ التاريخيةُ المِفصلُ في ذاكرتي، قدّمَ لها مِنبرُ الجنوب وساحُه حظَّها الطيِّبَ الأولَ للقائه والتعرُّفِ عليه أثناءَ “تلك الحروب”.

ها هي غبطةُ الصداقةِ والمودَّةِ والتقديرِ تتراكمُ بإثراءٍ مطّرِدٍ منذ الثمانينات مُعمِّقةً، يوماً فيوماً أثلامَها في الوجدان والذات

وها هي غبطةُ الصداقةِ والمودَّةِ والتقديرِ تتراكمُ بإثراءٍ مطّرِدٍ منذ الثمانينات مُعمِّقةً، يوماً فيوماً، أثلامَها في الوجدان والذات. هل لي، سيِّدي، هل لنا، أنْ نُرحِّبَ بك في بيروت، وأنتَ لم تنفكَّ تُزيِّنُ منابرَها بحضورك؟ أَم نُسِرَّ لك، ومن غيرِ مداورةٍ، تَخوُّفَنا من صعوبة أن تَحظى هنا، كما هناك، ببرْدِك وسلامِك؟ فكلٌّ له صليبُه، وكلٌّ له عاشوراه، وقيامتُه وانبعاثُه الآتيان. هذه الشهادةُ المجروحةُ أبَتْ أن تعتصمَ بالصمتِ لِتَكتُّمٍ بَرى الوجدان. فاعذُرْ إفشاءَها العلني؛ فحسبُها أنّها لم تكُ إلا دفعاً من إخوانِكَ وقادريك والمحبِّين.                                                                          

السابق
رسالة من لقمان (17): دارة سليم موئل العلماء
التالي
العميد بسام ياسين يفضح بدعة جديدة: باسيل «ما بدو» ماء!