تسوّل على جسر جونية وتساؤلات حول المشهد الإنتخابي في كسروان – جبيل

زحمة جبيل

في طريقي إلى مجمّع فؤاد شهاب الرياضي حيث أمارس هواية المشي الصباحيّة، اعتدت أن أعبر الجسر نزولاً في اتّجاه البحر. لكنهّا السنة الأولى التي أشهد فيها متسوّلين هناك يحاولون الإفادة من زحمة السير لاستعطاف قلوب السائقين.ظاهرة التسوّل لم تعد مستغربة في لبنان كلّه، حتى في جونية، التي لم تعرف من قبل هذه العادة، التي كنّا نلاحظها دائمًا في معظم المدن الساحليّة. لكن الزمن تغيّر، ويُمكننا تلمّس هذا التغيّر ببعده المأسوي، عندما ننظر إلى هذه الظاهرة في حضرة الرئيس شهاب، أبي العدالة الاجتماعيّة في لبنان، الذي يبعد نصبه التذكاري مسافة مئتي متر عن مساحة التسوّل. بعد يومين فقط من الإعلان عن اللوائح الانتخابيّة النهائيّة، عبرت الجسر ورحت أمشي في ملعب فؤاد شهاب الرياضي، مستعرضًا اللوائح السبع التي ستتنافس في منطقة كسروان – جبيل. 

لا يمكنك أن تستعرض اللوائح في حضرة الرئيس شهاب من دون أن تقفز إلى ذهنك المداميك التي بنى عليها شهاب حكمه: السيادة، الوطنيّة، دولة المؤسسات، تطبيق الدستور والقوانين، العدالة الاجتاعيّة والنزاهة. كذلك لا يمكنك أن تستحضر حكم شهاب من دون أن تتذكّر إسقاط لائحته الانتخابيّة في منطقة كسروان، وإضاءة جسر جونية المذكور أعلاه بالشموع، احتفالاً بانتصار الحلف الثلاثيّ على لائحته، ممّا أدّى لاحقًا إلى إبتعاده عن الحكم وسقوط الشهابيّة. مواطنو “كسروان العاصية” عادوا وعزلوا أحزاب الحلف الثلاثي وانتخبوا بأغلبية قاربت الــ 70% لائحة ميشال عون، الذي اختار أن يترشّح في كسروان بعد عودته من المنفى. وفي حينه، كانوا يصرّحون من دون خجل أنهم سينتخبون من يختاره عون على لائحته حتى ولو كان “عموداً”.

اقرأ أيضاً: المرشح عن دائرة الجنوب الثالثة فراس حمدان لـ«جنوبية»: معركتنا مع المنظومة لا تنتهي في ١٥ أيار

وإذا كانوا قد أسقطوا لائحة شهاب “نكاية بالمكتب الثاني القمعيّ”، وكردّ فعل على “انحيازاته إلى المسلمين”، فقد انتخبوا لائحة عون “نكاية بالحلف الرباعيّ المسلم” الذي تشكّل بعد خروج الجيش السوري من لبنان تحت ضغط ما سمّي بــ”ثورة الأرز”. وكما مهّد انتخابهم ضدّ لائحة شهاب إلى سقوط الشهابيّة لاحقًا، مهّد انتخابهم بأكثرية ساحقة لائحة عون إلى سقوط الوطن. استحواذ عون على تأييد مسيحيّ واسع سمح له بالتحالف مع “حزب الله”، وبالوصول إلى رئاسة الجمهوريّة، وقد أدّى عهده إلى ما نحن فيه اليوم من وضع يُشبه العيش في جهنّم، وهي التسميّة التي أطلقها عون نفسه على الجمهوريّة التي يرأسها. لا أعرف كيف سينتخب الكسروانيون في 15 أيار المقبل. لكن الاستطلاعات والتخمينات تتوقّع أن تتوزّع الأصوات على اللوائح السبع المتنافسة، لا سيّما على خمسٍ منها.

اللوائح الخمس هي الآتية: “صرخة وطن” برئاسة نعمة أفرام، “معكم فينا للآخر” لـ”القوات اللبنانيّة”، “كنا ورح نبقى” لـ”التيار الوطني الحر”، “الحريّة قرار” برئاسة فارس سعيد ومنصور البون، “قلب لبنان المستقّل” برئاسة فريد الخازن. أما اللائحتان المتبقيتان فهما: “قادرين” لـ”مواطنون ومواطنات في دولة”، و”نحنا التغيير” لمجموعة من المستقلّين. لن أناقش في هذا النص التركيبة الاجتماعيّة للّوائح وبرامجها، فربّما فعلت ذلك لاحقًا. سأكتفي ببعض الملاحظات الأوليّة حولها، انطلاقًا من عنوانها وما أعرفه عن توجّهات قياداتها. “صرخة وطن” تجمع التوجّهات الاجتماعيّة – الاقتصاديّة مع التوجّهات السيادية، لكن هذه الأخيرة أقرب الى “الصرخة” من “المواجهة”. “معكم فينا للآخر” تردّ على نغمة “ما خلّونا” لـ”التيار الوطني الحر”، وهي تعلي شأن المطلب السيادي في وجه “حزب الله”. لكن توجّهاتها الاجتماعيّة الاقتصاديّة لا تزال دون مستوى الأزمة مع تمسّك “القوات اللبنانيّة” بأطروحات ليبيراليّة لم تعد تصلح لمعالجة أزمة اجتماعيّة – معيشيّة بهذا الحجم. “كنا ورح نبقى” تتتجه للحفاظ على المواقع وعلى ما هو قائم، وقد تجلّى ذلك بترشيح إحدى المسؤولات عن أزمة الكهرباء وعن العتمة التي يعيشها اللبنانيون. 

“الحريّة قرار” تركّز على أهمية الإرادة والقرار إذا أردنا الحرية. تعلي شأن الحريّة الوطنيّة والسيادة في وجه “حزب الله” و”الاحتلال الإيراني”، لكنها تهمل في خطابها الحريّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، مع أن قيادتها (سعيد والبون) من عائلتين شهابيّتين، ويعرفان تمامًا أن السيادة الوطنيّة التي أرساها شهاب لم تكن ممكنة من دون عدالة اجتماعيّة تقوّي انتماء المواطنين إلى الدولة، وتنتشلهم من التبعيّة إلى الطوائف ورعاتها الخارجيين. “قلب لبنان المستقلّ”، التي جعلت كسروان – جبيل قلب لبنان، عليها ألا تكتفي بالعاطفة بل أن تقنع العقل أيضًا بأنّها مستقلّة، لا سيّما أن قيادتها تتأرجح بين الولاء لبكركي (“آل الخازن هم حراس بكركي”) وبين التحالف مع سليمان فرنجية الملتحق بـ”حزب الله” ومحور “الممانعة”.  عليها أن تختار بين “أنت البطرك يا بشارة الراعي” و”أنت البطرك يا سليمان”، فضلاً عن حاجتها لأطروحات اجتماعيّة اقتصاديّة. الأفضل بالطبع أن تبتكر خطاً مستقلاً عن الاثنين. لائحة “قادرين” تملك برنامجاً اجتماعياً اقتصادياً مفصّلا يحترم مبادئ العدالة الاجتماعيّة، لكنّه يفتقر إلى موقف واضح من مسألة السيادة الوطنيّة وهيمنة “حزب الله”، لا سيّما أن “مواطنون ومواطنات في دولة” يعوّلون على كرم أخلاق السلطة الحاليّة، التي يطالبونها بــ”انتقال سلمي للسلطة”، تعترف من خلاله بعجزها عن إدارة شؤون البلاد ورغبتها بتسليم الأمر لأناس “قادرين” على الحكم. أمّا بالنسبة للائحة “نحنا التغيير” فأنا لا أعرف الكثير عن شخصيّاتها. الـ”نحنا” غير كافية لأن توضح من هم ولا “نحنا التغيير” تقنع بحدّ ذاتها لماذا هم وليس غيرهم يمثلون التغيير. 

في جميع اللوائح شخصيات محترمة، لكن دورها الأساسيّ سيكون للأسف تأمين الحاصل للوائحها والنيابة لزعاماتها، في ظلّ قانون انتخابي نسبيّ يضرب فيه الصوت التفضيليّ المفهوم الأساسيّ للنسبيّة. أخرج من الملعب عائدًا إلى منزلي، وألمح كالعادة صورة صغيرة للبطريرك صفير على يمين أسفل الجسر، كُتِبَ عليها الجملة الشهيرة للبطريرك الراحل: “لقد قلنا ما قلناه”.  أمام انتخابات قد تحدّد مصير لبنان لسنوات طويلة، وفي ظلّ ظروف يعلو فيها صوت السلاح على الموقف السياسيّ، أكثر ما يحتاجه المرشّحون هو الحزم والشّجاعة اللذان صبغا مواقف صفير. وهذا يوازي بأهميّته البرامج ومضمونها.

السابق
التفلت الأمني يقلق اللبنانيين..حل المشكلات بالسلاح يصبح ظاهرة!
التالي
محمد عبد الله العائد إلى بيروت شاعراً متفرداً إبداعاً وحياة