وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: العرب بين غزو روسي ومقاومة أوكرانية

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

 يثير غزو روسيا لاوكرانيا معضلة عند صناع القرار العربي، بالأخص الخليجي. بين اتِّباع الموقف الأخلاقي والمبدئي، الذي يقتضي إدانة الغزو الروسي، وتأييد بل دعم الشعب الأوكراني، في دفاعهم المشروع عن وطنهم وسيادتهم من جهة، وبين حسابات المصالح القومية والاقتصادية التي ترجح موقف الحياد السلبي، وعدم الدخول في مواجهات أو اصطفافات بين طرفي الصراع، تجنب هذه الدول تبعات سياسية، وأثمان اقتصادية مكلفة من جهة أخرى.

الذي عزز وقوَّى معضلة التعارض هذه، أن ظاهر المعركة مواجهة بين غزو ومقاومة له، في حين نجد أن محركاته العميقة، قوى عابرة للمكان الأوكراني، وغير ذات صلة بحرية الأوكرانيين وسيادة بلدهم. ما يجعلها مواجهة بين شبكة مصالح وشبكة مصالح أخرى، تصادم بين تحالف دولي وتحالف آخر، صراع بين محور أمني ومحور آخر، بل حتى اشتباك بين منظومة قيم وحكم ومنظومة أخرى.  ما يعني وجود شكل مباشر وعيني ومحسوس للمواجهه، يمكن تلمس آثارها بالدمار والضحايا، وشكل آخر غير مباشر، يمكن تلمس تبعاته في العالم كله، بتخبط أسعار السلع وارتباك السوق،١ وانكماش الاقتصاد الدولي وخلخلة موازين القوى العالمي.

لا شك أن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وظهور الدولة الإسلامية في إيران، إضافة إلى سقوط الاتحاد السوفييتي، ولد ميلاً عربياً لدى صناع القرار في العواصم العربية الكبرى، نحو المعسكر الغربي، بالأخص الأمريكي.  بناء على اعتقاد أو ترجيح قوي، بأن الولايات المتحدة تشكل ضامناً لاستقرار المنطقة، ضد المتغيرات المفاجئة التي أحدثها انتصار الثورة في إيران، وضد الطموح المتهور، لدى أي من القيادات العربية أمثال صدام حسين، وضد التضخم المفاجىء والمربك للقوى الأصولية، إضافة إلى اعتبار الولايات المتحدة، مدخلاً حصرياً لحل المشكلة الفلسطينية، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.

نجحت الولايات المتحدة نسبياً في تلبية هذا التطلع، فكانت راعية للصلح بين مصر وإسرائيل، ثم بين إسرائيل والأردن، وضيقت بل حاصرت النظام الإيراني، وأنهت حكم طالبان، وقوضت القاعدة ولاحقت قياداتها، وحاصرت صدام حسين ثم أنهت حكمه بطريقة مأساوية.  كل ذلك عزز المرجعية الأمريكية، في معالجة الأزمات والصراعات وضمان الاستقرار، وقوى الرهان العربي، بل الثقة العربية، بالقدرة وحتى الصدقية الأمريكية، في حفظ التوازنات الإقليمية وضمان استقرار المنطقة. بالتالي بات المجال العربي، ما عدا بعض الجيوب، مجالاً محسوباً في مآلاته الكبرى على المعسكر الغربي، في سياساته وتحالفاته واستراتيجياته.

جملة عوامل دفعت صناع القرار في العواصم العربية الكبرى، إلى إعادة النظر في الرهان على الاقتدار الأمريكي، وبجدوى الثقة المتبادلة بينهم وبين صناع القرار الأمريكي. 

جملة عوامل دفعت صناع القرار في العواصم العربية الكبرى إلى إعادة النظر في الرهان على الاقتدار الأمريكي

كان أول هذه العوامل، هو الاندفاع الأمريكي المتحمس للاتفاق النووي مع إيران، انطلاقاً من الفصل بين تخفيض حجم ودرجة التخصيب النووي، وبين الأداء السياسي العام في المنطقة. ما جعل الاتفاق، يتخذ طبيعة تقنية لا سياسية، إدارية لا استراتيجية.  هو فصل كان بمثابة ضوء أخضر ضمني، لإطلاق عبث النظام الإيراني في المنطقة، وأدى إلى نتائج معاكسة لما اعتقده الأمريكيون أنه سيعزز الاستقرار.

ثاني هذه العوامل، هو بناء أولويات جديدة للسياسة الأمريكية، تقوم على إعطاء التحدي الصيني الأولوية الكبرى، سواء أكان في تمدد الصين الاقتصادي، أم في توسعها السياسي. ومع زيادة الإنتاج الأمريكي للنفط وتقلص نسبة اعتمادها على النفط العربي، قلصت الولايات المتحدة من حجم حضورها، وتعاملت ببرودة ولامبالاة واضحة في الكثير من المشكلات الخطيرة، وفي مقدمها: الأزمة السورية، الزحف الإيراني الممنهج، للامساك بمفاصل النظامين اللبناني والعراقي، والمسعى الإيراني لبناء قاعدة سياسية في اليمن عبر الحوثيين.

ثالث هذه العوامل، وجود قنوات تواصل وربما تنسيق وتفاهم، بين صناع القرار الأمريكي، بالأخص في عهد أوباما، وبين القوى المناهضة للنظم السياسية القائمة، بخاصة بعض التيارات الإسلامية، وفي مقدمهم تنظيم الأخوان المسلمين.  وهو أداء أقلق قادة العواصم العربية الكبرى، بالأخص الرياض والقاهرة، وخلق انطباعاً بأن الأمريكيين مستعدين للتخلي عنهم، في حال ظهور تغيرات ومعطيات من الداخل، وتعديل في موازين القوى لصالح الإسلاميين.  

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: ثورة بشروط أهل السلطة

هذه العوامل مجتمعة، تسببت بوجود علاقة غير متكافئة بين الأمريكيين وحلفائهم العرب، لجهة عدم وجود توازن بين ما يقدمه العرب للأمريكيين، وما يقدمه الأمريكيون لهم. فالخليج كان يستجيب دائما للأمريكيين، في الحد من ارتفاع أسعار النفط، أو التعويض عن النقص، في حاجة السوق العالمي للنفط، عبر زيادة إنتاجه، وكان يشبك اقتصاده بدرجة كبيرة مع الاقتصاد والسوق الأمريكيين، مقابل عدم عناية كافية من الأمريكيين، بالإنصات الجدي لمخاوف الخليجيين، من تبعات الاتفاق النووي على أمنهم واستقرارهم، ومقابل ترك الأزمة اليمنية تطول وتمتد، رغم قدرة الأمريكيين على حسمها وإنهائها، ومقابل استعمال مسألة حقوق الإنسان، وقضية الأقليات الدينية الإثنية وورقة ابتزاز وتهديد لأكثر الدول العربية. 

العلاقة غير متكافئة بين الأمريكيين وحلفائهم العرب لجهة عدم وجود توازن بين ما يقدمه العرب للأمريكيين وما يقدمه الأمريكيون لهم

كل ذلك، خلق انطباعاً لدى دول الخليج بأنها مكشوفة الظهر، وأن الإلتزام الأمريكي بأمنهم بات محل شك بل تهمة أحياناً. وهو انطباع انعكس في سياسات دول الخليج الأخيرة بالوقوف على مسافة من المتصارعين الدوليين، والخروج من حال الاصطفاف الدولي، وإعادة تأسيس الموقع الدولي على قاعدة متوازنة ومرنة، تقي دول الخليج ارتدادات الصراع بين الكبار، ويدفعها إلى بناء أمنها الذاتي وبلورة تحالفات واستراتيجيات منسجمة مع مصالحها وأمنها القوميين، كبديل عن التراخي الأمريكي وعدم صدقيته، بل تصدع مكانته وهيبته الدوليتين.  

لا شك في مشروعية هكذا مسعى وتوجه، وأن الاستقلالية السياسية والسيادية والكفاية، الامنية والاستراتيجية والتقنية، ضرورات نمو وتطور، فضلا عن ضرورات بقاء واستمرار.  بيد أن الذي يحتاج إلى حسابات دقيقة، هو أن الخروج من الحلف الغربي، قد لا يحقق مقصد صناع القرار العربي، بقدر ما قد يقوي ويعزز هامشية وضعف الأنظمة العربية، بخاصة، وأن البديل الروسي يمثل نموذجا فاشلاً لنمط الحكم السياسي والإدارة الاقتصادية، وأن التمدد الاقتصادي الصيني، يماثل الغزو لجهة مسعاه، إلى التحكم بالمقدرات الاقتصادية والإنتاجية داخل البلدان المتعاونة معه، كما إن الصين تقلد النموذج الليبرالي في بنيته الإنتاجية والإقتصادية، من دون أن تأخذ منه مضمونه السياسية والفكري.  هذا فضلا عن أن توثيق العلاقة مع الحليف الروسي والصيني،  يولد محاكاة سياسية لاستبداده وبطشه وبوليسيته.

من هنا، فإن المطلوب إعادة بناء العلاقة مع المعسكر الغربي، على قاعدة الندية والاستقلالية والسيادية والإنتاجية الذاتية، على الرغم من أن مخالفات هذا المعسكر وانتهاكاته لمنطلقاته الليبرالية والإنسانوية، أكثر من أن تحصى. بيد أنه ما يزال يمثل النموذج الأنجح من بين النماذج المتوفرة، في   الاستفادة من تجربته في تحقيق التحول السياسي نحو الديمقراطية، والنموذج التحديثي في تطوير بنية الإنتاج، والنمط العقلاني في تفعيل أداء الدولة ونظامها الإداري، من دون إقفال الباب بوجه التجارب الغنية الأخرى.  أي إن ثغرات وهفوات الماضي، تستدعي إعادة بناء العلاقة على قواعد أخرى، لا السعي إلى تشكيل حيز هامشي أو حياد هش، يغري القوى المعادية واللدودة بالانقضاض عليها. 

المطلوب إعادة بناء العلاقة مع المعسكر الغربي على قاعدة الندية والاستقلالية والسيادية والإنتاجية الذاتية

أما بخصوص الأزمة الأوكرانية الحالية، فلا أجد مسوغاً يحول دون أخذ الموقف الأخلاقي الصريح بإدانة الغزو الروسي، لأن القضية ليست قضية انحياز إلى الموقف الأمريكي، بقدر ما هي تثبيت مبادىء وقواعد التعامل الدولي، التي تحرم اعتداء أية دولة على دولة أخرى.  ما يعني أن التعارض بين إعلان الإدانة وبين تضرر المصالح، هو تعارض بين الآني والاستراتيجي، بين ما يحد من الخسائر وما يضمن البقاء.  

السابق
حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: إيران..العقوبات مقابل الإرهاب!
التالي
خاص «جنوبية»: بالصورة..لائحة «زرقاء» في بيروت الثانية!