وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: ثورة بشروط أهل السلطة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

المسافة بين الزخم والأمال الكبرى، التي فجرها حراك 17 تشرين من العام 2019، الذي بدا ثورة واثقة ذات سقف عالٍ، لا تقبل التسويات والمساومات، وقادرة على التغيير الجدّي من جهة، وبين أداء “الثوار” الحالي وخطابهم ومنطق تحالفاتهم، والتواضع في طموحهم والتشرذم في واقعها من جهة أخرى، هذه المسافة بعيدة جداً بل محرجة وصادمة.

ضخّ حراك 17 تشرين آمالاً وطموحات كبرى، لكنه لم يقدم طريقاً ومساراً. شكلت ساحات الثورة أمكنة لتنفيس الغضب والضيق، وتزاحمت بداخلها أطروحات البدائل وصيغة لبنان الآتي، بل بالغت التعبئة الثورية في تفاؤلها، وتجرأت على محرمات السياسة، وهتكت جميع رموز السلطة، بالسباب والتهكم والمحاكمات الرمزية لها. بدا الأمر وكأنه بحكم المنتهي والمحسوم، وأن سقوط قوى السلطة مسألة وقت، وعلى وجوه الثورة أن تتحضر، لتقديم نفسها قيادة بديلة للوطن.

بدا الأمر وكأنه بحكم المنتهي والمحسوم، وأن سقوط قوى السلطة مسألة وقت

في البداية رصدت قوى السلطة ظاهرة الحراك الجديد، التي أربكتها في البداية، ولم تعرف حجمها أو قوتها الفعلية، فالغضب كبير، وتدفق المحتجين لم يتوقف، بل يزداد ويتكثف وينتشر في أكثر المناطق اللبنانية. فكان أداء السلطة، هو استيعاب الصدمة التي أحدثها الحراك، ثم اختبار مدى فعاليتها وقوتها القادرة فعلاً، وراء شعارها وأمنياتها على تغيير المعادلة وتقويض أهل السلطة.

لم تكن إعادة إنتاج لميزان القوى القائم، بل كانت حكومة تحدي ومواجهة بكل معنى الكلمة للثوار

كان اختبار المعارضة الأول، هو المجيء بحكومة حسان دياب، التي لم تكن إعادة إنتاج لميزان القوى القائم، بل كانت حكومة تحدي ومواجهة بكل معنى الكلمة للثوار. كانت حكومة الحلف الواحد واللون الواحد والمرجعية العميقة الواحدة. أي قابلت السلطة صدمة الحراك بالتحدي والمواجهة، ولم تبدّ أية رغبة في المساومة أو المصالحة.

هذا الاختبار أظهر ضعف الحراك الجديد، إن لجهة انقسام المحتجين في التعامل مع حكومة دياب ما يعني افتقاد الحراك، إلى قوة ترشيد أو قدرة تقدير الموقف المناسب، وإن لجهة غياب استراتيجية أو خطة مواجهة، بل كان التحدي يقابل بمزيد من الاحتجاج وصخب الشارع، ولم يعرف كيف ينتقل إلى مرحلة مواجهة مؤثرة، أو يبتكر قواعد اشتباك فاعلة. وهو أمر يقتضي الإنتقال من مجرد الاحتجاج والمطالبة، إلى خطاب جامع أو هدف مركزي وواقعي، يوحد المشتت والمتفرق، ويضبط السلوك المرتجل وحتى المزاجي أحيانا. ويتطلب أيضاً هيكلية أو تنسيقية ما، تُخرج الحراك من هلاميته وتراخيه واعتباطيته، وتحول المحتجين والمعترضين من أفراد يفترشون الأرض وينصبون الخيم إلى كتلة أو جبهة سياسية ذات اقتدار مؤثر وفاعل في تفكيك ثوابت الواقع ومستقراته.

أما الاختبار الثاني، فكان كارثة انفجار 4 آب، هو اختبار لم يقصده أهل السلطة، لكنه كان نتيجة إهمالهم، ولا مبالاتهم بأمن المجتمع وسلامة الناس. كانت هي الفرصة التاريخية ليس فقط للاحتجاج والتعبير عن الغضب، بل فرصة تاريخية، لاستثمار إمكانات وتداعيات الحدث السياسية والدولية، لسحب الشرعية عن كامل الطاقم السياسي بما فيه النيابي، وتأسيس قواعد شرعية وشروط قيادة سياسية جديدتين.

كشف الحدث هشاشة قوى التغيير وتخبطها، وتناقض خطابها ومزاجية وجوهها

لكن شيئاً من هذا لم يحصل، بل كشف الحدث هشاشة قوى التغيير وتخبطها، وتناقض خطابها ومزاجية وجوهها، بل لم يستطع الحراك أن يستعيد زخمه السابق، على الرغم من أن موجبات انفجار 4 آب، تستدعي طاقة تعبئة وكثافة حضور وبداية ضرورية، لا لمحاكمة أهل السلطة فحسب، بل تغيير قواعد الحياة السياسية ومبادئ الانتظام السياسي العام في لبنان. ولأن حدث انفجار 4 آب مر مرور الكرام وقيِّد ضد مجهول، فقد استطاعت قوى السلطة، لا التنصل من مسؤوليتها عنه فحسب، بل عمدت إلى توسيع دائرة هيمنتها، ومارست صلاحياتها المكتسبة إلى أبعد حدّ، وتعمّدت إظهار اللامبالاة بالحال الاقتصادي المتردي، ليتبين أن السلطة كانت بالنسبة إليها معركة مصير ووجود، فضلاً عن اعتبارها ملكاً ذاتياً، وحقاً خاصاً لا يقبل الانتزاع أو الانتقال.

وأخيراً، كانت مناسبة الانتخابات النيابية المقبلة، هو الاختبار الثالث الذي كشف عن أمرين: أولهما قبول قوى التغيير، الدخول تحت سقف السلطة الحالية والقبول بشروطها. فاعتقادهم أن الانتخابات النيابية هي الفيصل التاريخي، في مصير الحياة السياسية في لبنان، هو وهم محض، بحكم أن مبدأ الانتخابات يكون أداة تغيير، حين تخضع جميع القوى لإرادة المجتمع وسيادة الدولة. أما حين تنشأ سلطات منفصلة عن إرادة المجتمع وإجماع أفراده، وظهور قوى على هامش الدولة، بل باتت تنصب نفسها وصيّة على مؤسسات الدولة. فإن هذا الأمر يجعل الانتخابات حدثاً فولوكلورياً شكلياً، لكنه لن يغير من مرتكزات القوة، ولن يُحدِث تعديلاً في ميزان القوى. فالتحدّي القائم هو بعمقه مجتمعي لا سياسي، كياني لا قانوني، سيادي لا انتخابي وتمثيلي.

تبين أن حراك 17 تشرين مناسبة استثمار شخصي للعديد من الأفراد والوجوه

ثانيهما التشرذم والتناقض والتشتت، بين وجوه وقوى التغيير التي رفعت لواء الثورة، الأمر الذي يُسهِّل على قوى السلطة، اكتساح مقاعد المجلس النيابي.

تبين أن حراك 17 تشرين مناسبة استثمار شخصي للعديد من الأفراد والوجوه، ولم يكن جزء من استراتيجية “ثورة” أو مسعى تغييري جدي. أي كانت مناسبة للعديد لدخول حلبة السياسة ونادي السلطة، لكن بشروط وقواعد قوى السلطة نفسها.
تبين أن حراك 17 تشرين كان: ضحية صخبه، ضحية فشله في استثمار إمكاناته، وتحويلها إلى قوة دفع فعلية، بل كان ضحية سوء تقديره لقدراته وإمكاناته، إضافة إلى سوء تقدير لحقيقة قوى السلطة وإمكاناتها وشروط مواجهتها.
يتطلع لبنان إلى ثورة جديدة، ويتوق إلى مجيء ثوار آخرين.

السابق
خاص «جنوبية»: معركة طرابلس.. «الاحباش» و«الجماعة» في مواجهة ميقاتي وريفي وعلوش!
التالي
نصرالله يتحدث عن مقاتلين وخبراء لـ«حزب الله» في أوكرانيا.. ويُحذّر الدولة: تداعيات الحرب وصلت الى لبنان!