هل ينجح الغرب في إصطياد «الدب الروسي الهائج».. قبل فوات الآوان؟!

ياسين شبلي

يطرح الغزو الروسي لأوكرانيا مجددا، إشكالية الجوار الجغرافي بين الدول الكبرى والصغرى، وتأثيراته على الأداء السياسي لكلا الطرفين، وهي إشكالية لطالما ولَّدت أزمات إقليمية ودولية، تارة بإسم الحق التاريخي في حال كانت الدول الصغرى، قد سُلِخَت أو إنفصلت لسبب أو لآخر عن جوارها الأكبر، وأخرى بإسم حق الدفاع الوقائي عن النفس، في حال دخلت الدول الصغرى في أحلاف لا تناسب هذا الجوار، وطوراً بإسم الدفاع عن أقليات عرقية أو دينية تنتمي إلى عرق أو دين الدولة الأكبر، وغالباً ما تكون على الجانب الآخر من الحدود. بحكم التداخل والتزاوج الجغرافي والإجتماعي.

هذه الإشكالية مطروحة في العديد من مناطق العالم، ومنها بالطبع إن لم يكن في المقدمة منها، منطقة الشرق الأوسط التي شهدت أقله ثلاث حالات مشابهة ومتشابهة في الـ50 سنة الماضية، أولاها كانت في جزيرة قبرص في العام 1974، حين غزت تركيا الجزء الشمالي منها، بعد محاولة إنقلاب عسكري في الجزيرة كانت صدىً للإنقلاب في دولة اليونان المجاورة، بدعوى الحفاظ على الأقلية التركية في الجزيرة، وبالتالي الدفاع عن الأمن القومي التركي.

ثانيها، كانت عندنا في لبنان مع إختلاف الظروف والمبررات، عندما دخلت القوات السورية الأراضي اللبنانية في العام 1976، بدعوى منع التقسيم، ومنع التوطين الفلسطيني على أراضيه، ومن ثم الدفاع عن “الأمن القومي العربي” الذي كان يعني يومها ولا يزال في عُرف البعث، الحفاظ على أمن النظام السوري تحديداً، وهو ما ظهر جلياً على مدى 30 عاما من الوجود السوري في لبنان، وكذلك في التطورات التي تلت الخروج منه تحت ضغط “ثورة الأرز”، التي إنفجرت بعد زلزال إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، وكذلك الأحداث المتلاحقة منذ إندلاع الثورة السورية التي تكمل بعد أيام عامها الحادي عشر.

ثالث تلك الحالات وربما أخطرها، كان غزو العراق – تحت حكم البعث كذلك – للكويت العام 1990، وضمها إليه تحت راية “عودة الفرع إلى الأصل”، وهو الغزو الذي قلب أوضاع المنطقة رأساً على عقب، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن كل ما شهدته المنطقة بعده من تطورات وتراجع، ومن ثم إنهيار للفكر القومي العربي ولآفاق التعاون العربي، ولو في حده الأدنى، المتمثل بمؤسسات الجامعة العربية، إنما كان نتيجة لهذا الغزو الذي جر الحروب المدمرة على المنطقة، من حرب عاصفة الصحراء، التي كانت بهدف معلن هو “تحرير الكويت”، إلى الغزو الأميركي للعراق عام 2003 بدعوى تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة في ظل حصار دام 13 عاماً، تسبب في مقتل أكثر من مليون طفل عراقي جوعاً ومرضاً.

وإذا كانت الأحداث في الحالة الأولى، قد أدت إلى تقسيم جزيرة قبرص حتى يومنا هذا وسط لا مبالاة دولية، فالتدخل العسكري السوري في لبنان أدى إلى تداعيات خطيرة على البلد، جعلته يمتد ل 30 عاماً من الوجود، الذي تحوَّل مع الوقت إلى “وصاية” برعاية عربية ودولية للأسف، كانت حافلة بالصراعات مع غالبية أطراف الطيف السياسي اللبناني وحتى العربي تقريباً، ما جعل من لبنان ساحة دائمة ومفتوحة، للصراعات الإقليمية وتصفية الحسابات، ولا يزال حتى يومنا هذا، مع إختلاف اللاعبين والوجوه.

كذلك كان الحال مع الغزو العراقي للكويت الذي إنتهى – ولو بعد حين – بإسقاط النظام العراقي من الحكم، وإسقاط العراق نفسه في لجة العنف والإحتلال والضياع، جراء الغزو الأميركي لهذا البلد في العام 2003، وسط تجاهل عالمي رسمي سوى من أصوات قليلة، وحوَّل المنطقة العربية بمجملها إلى ساحة مفتوحة، أمام التدخلات الأجنبية من كل حدب وصوب، بدءاً بالأميركية منها والإيرانية، مروراً بالروسية والتركية والفرنسية، وصولاً حتى الإسرائيلية، بدعوى الحفاظ على وحدة أراضي كل دولة والدفاع عن سلامة هذه الأراضي.

ما يحصل اليوم من غزو روسي لأوكرانيا، هو من هذه العينة من الأحداث التي تتخذ من الدفاع عن “الأمن القومي”، ذريعة تتلطى خلفها مشاريع سياسية

ما يحصل اليوم من غزو روسي لأوكرانيا، هو من هذه العينة من الأحداث التي تتخذ من الدفاع عن “الأمن القومي”، ذريعة تتلطى خلفها مشاريع سياسية، قد تكون ناجمة عن فكر عقائدي قومي متزمت، أو حلم بإنشاء أو عودة مجد إمبراطوري غابر، وغالباً ما تبقى هذه الأفكار أو المشاريع مجرد أمنيات مؤجلة، حتى يتوافر لها شخص لديه “هوس” سلطوي جامح، يترافق مع قساوة وشراسة في طباع الشخص نفسه، ناتج عن غرور وإعجاب مَرَضي بالذات، قد يصل حد “جنون العظمة”، الذي يصوِّر له بأنه المنقذ ليس فقط لبلده، أو لبني جلدته بل للعالم أجمع، ومن هنا تبدأ المأساة التي قد تطال ملايين البشر.

طبعاً لسنا هنا في وارد نفي أو تجاهل العوامل السياسية والأمنية، والمصالح المشروعة للدول وحقها في حماية أمنها القومي، من أي خطر يمكن أن يتهددها، والتي قد تدفع الدول في بعض الأحيان، إلى إتخاذ قرارات وسياسات، تضعها في موقع اللعب على حافة الهاوية، ولكن هذا الحق لا يبرر اللجوء لحل هذه الهواجس، بالقوة العسكرية المفرطة كالغزو وسواه، كما أن هذا الحق لا يقتصر فقط على الدول الكبرى، فالدول الصغرى هي أيضاً لها الحق في أن تقلق على أمنها القومي، خاصة إذا كانت تجاور دول أكبر منها جغرافياً وديموغرافياً، وبالأخص إذا كان لها مع هذه الدول تاريخياً بعض المشاكل، التي لا تخلو منها أي علاقة بين بلدين متجاورين، ومحكومة بأنظمة عقائدية وتوتاليتارية، تعتمد الترهيب والحرب سبيلاً لحل النزاعات السياسية.

الأمر لم يعد لعباً على حافة الهاوية، بل إنزلقت الأمور وباتت تتجه بسرعة إلى الهاوية، أقله من الجانب الروسي

إن ما يحصل في أوكرانيا اليوم، هو مزيج من هذه العوامل مجتمعة، من حديث عن حماية “الأمن القومي” ، إلى حلم إستعادة “مجد” القياصرة الروس، أو الإتحاد السوفياتي السابق، إلى “إنتفاخ” الذات البوتينية، من الناحية الروسية، إلى فكر قومي متطرف، يتخذ من النازية شعاراً له، عند فئة لا بأس بها من الأوكران، معطوفاً على حديث “الخوف” على الكيان من “الدب” الروسي المتوثب، والسعي لحمايته عبر طلب الإنضمام للإتحاد الأوروبي، وبالتالي حلف الناتو، إضافة إلى الرغبة الأميركية – الغربية بتطويق روسيا عبر حلف الناتو، وحشرها داخل حدودها حماية لأوروبا من جهة، ولتخفيف العبء ربما عن الولايات المتحدة، في مواجهتها للصين من جهة أخرى، كل هذه العوامل مجتمعة تضافرت وترافقت، مع “نزق” قيادي روسي، وتهور أو سذاجة أو ربما “سوء تقدير” سياسي من جانب القيادة الأوكرانية، لتنفجر أخطر أزمة في أوروبا والعالم منذ إنتهاء الحرب الباردة، إذ أن الأمر لم يعد لعباً على حافة الهاوية، بل إنزلقت الأمور وباتت تتجه بسرعة إلى الهاوية، أقله من الجانب الروسي الذي يبدو أنه يلعبها على طريقة “صولد”، في وجه الولايات المتحدة..

وأوروبا التي لجأت حتى الآن إلى سلاح العقوبات الإقتصادية القاسية ضد روسيا، مع دعم سياسي وإعلامي واسع، ودعم إستخباراتي وعسكري لأوكرانيا، لا يصل حد المغامرة بالصدام مع “الدب الروسي” الهائج، بل السعي إلى ترويضه عبر التشديد عليه سياسياً وإقتصادياً، وإنزال أقصى الخسائر بقواته المهاجمة عسكرياً، وهو ما يبدو أنها نجحت به حتى اللحظة عبر المقاومة الأوكرانية العنيفة للغزو، المدعومة بكم وافر من المعلومات الإستخبارية، والتي قد تسمح بتحقيق هدف أميركا بحشر روسيا، داخل حدودها ومجالها الحيوي الإستراتيجي في أضيق نطاق، وإن بالحرب “الساخنة”، التي لا يدفع ثمنها سوى الشعب الأوكراني اليوم، ولاحقاً على المدى المتوسط والبعيد الشعب الروسي.

إن خطورة ما يحدث اليوم، نابع من أن الحرب هذه المرة تدور في أوروبا وليست في الشرق الأوسط أو أفريقيا، أو في غيرها من مناطق العالم الثالث مثلاً، حيث للأسف الشديد أن الناس ومصيرها لا قيمة فعلية له بنظر هذا العالم الحقير، وهو ما تجلى برد فعل العالم الغربي على الغزو، الذي أشعل النار في الثوب الأوروبي هذه المرة، بينما كان هو نفسه مشاركاً أو في أحسن الأحوال متخاذلاً، في الكثير من الغزوات التي تعرضت لها بلداننا وكلفت الكثير من الدماء والموارد وأثَّرت بالتالي على حاضر ومستقبل شعوب المنطقة ، هذا من الناحية الإنسانية، أما من الناحية العملية فتتبدى خطورتها في أن الحروب في دول العالم الثالث، تبقى تأثيراتها محلية أو في أكثر الأحوال إقليمية، ولا يتأثر بها العالمين الأول والثاني، في حين أن الحرب في أوروبا يتأثر بها العالم أجمع، سواء من الناحية الأمنية أو الإقتصادية، وبخاصة الدول الفقيرة التي تستورد جل إحتياجاتها من الخارج، وسوف تتأثر بلا شك بتداعيات هذه الحرب، التي وضعت عالم اليوم على “كف دب” هائج ومتفلت، أسمه روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، الذي قد لا يتردد في حال ضاق الخناق عليه وتهَدَد مصيره السياسي، في أن يضع العالم هذه المرة على حافة هاوية نووية، وهو الذي أمر بوضع قوات الردع النووي في حالة تأهب، والحرب لا زالت في بداياتها.

هذه حال الطغاة منذ الأزل، الذين إذا ما ضاقت عليهم السبل، لجأوا لشعار “علَيَّ وعلى أعدائي”

فما بالك والحرب قد تطول وتتحول إلى حرب إستنزاف لروسيا على كل المستويات، وإستنزاف سياسي و”أخلاقي” له ما قد يدفع به إلى الهروب للأمام، وهذه حال الطغاة منذ الأزل، الذين إذا ما ضاقت عليهم السبل، لجأوا لشعار “علَيَّ وعلى أعدائي” ، وتكون “الأعداء” هذه المرة هي الشعوب والناس العاديين، الذين يدفعون دائماً ثمن مثل هذه الصراعات وتنازع المصالح، وليس مجرد شخصيات فردية كزيلينسكي أو بايدن أو جونسون، أو غيرهم من قيادات تساهم في خلق وتفجير هذه الصراعات، وتديرها دفاعاً عن مصالح ومشاريع طبقة “أوليغارشية”، على طرفي الصراع، هي في نهاية المطاف واحدة، في مراميها وأهدافها في التحكم بالعباد ومستقبلهم في كل أنحاء العالم، كلٍ بحسب أهوائه.

فهل ينجح الغرب في ” إصطياد ” الدب قبل فوات الأوان، أم أن “الدب” هو من سيقلب الطاولة على الجميع، وينجح في إنهاء عصر القطب الواحد – على صعوبة هذه المهمة في الوقت الحاضر – ويعيد العالم إلى عصر صراع القطبين أو أكثر، أم سيكون هناك من حل وسط على طريقة “لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم” بعد أن يكون الغرب قد نجح في “تقليم ” مخالب الدب الروسي، وخلخلة أنيابه ولو على حساب أوكرانيا وشعبها؟ أسئلة ستجيب عنها بلا شك التطورات المقبلة . في الإنتظار قد يعيد الغزو الروسي لأوكرانيا – إذا نجح – الروح إلى أحلام بعض الطغاة العرب لتكرار تجاربهم السابقة الفاشلة، وهذا ما بدا واضحاً في إعتبار الأسد الإبن هذا الغزو ، “تصحيحاً” للتاريخ ، سيما أنه وأبوه من قبله هم من هواة “الثورات التصحيحية المباركة”، وهذا سبب وجيه آخر من الأسباب التي تدفعنا للوقوف ضد هذا الغزو وتداعياته.

السابق
هكذا «هندس» نعيم عباس تفجير حارة حريك: انحرفت بندقيتي عندما انحرف «حزب الله»!
التالي
عبد القادر لـ«جنوبية»: السلطة لا تريد أي حل للحدود البحرية لا منطقياً ولا علمياً!