واشنطن والشرق الأوسط.. ماذا كشفت أزمة أوكرانيا؟

اوكرانيا روسيا

أما وأن الولايات المتحدة ما برحت تردد منذ عهد الرئيس باراك أوباما أنها بصدد “مغادرة” الشرق الأوسط، فإن أزمة أوكرانيا كشفت، ولأول مرة على نحو صارخ، أن دول المنطقة أخذت علما، وتنحو بدورها إلى “مغادرة” الولايات المتحدة. وما بين مزاج إدارة جمهورية وأخرى ديمقراطية، لم تعد المنطقة حليفا أكيدا غير مشروط لواشنطن ولم تعد الولايات المتحدة تملك وكالة حصرية لها في المنطقة.

واللافت أن هذا التحول انسحب على إسرائيل المفترض أن واشنطن هي حليفها التاريخي الاستراتيجي الأول، بحيث أن موقف وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد جاء على استحياء مدينا للحرب الروسية في أوكرانيا، فيما تدعو منابر أخرى إلى التمسك بالحياد في هذا الصراع (أي مداراة روسيا)، وهو أمر لا تراه واشنطن بعيون راضية.

اقرأ أيضاً: أوكرانيا.. بوتين يبحث عن انقلاب عسكري

الواقعة تعكس تباعدا في الكيمياء ما بين حكومة ما بعد بنيامين نتنياهو وإدارة ما بعد دونالد ترامب. تكشف أيضا، وربما على نحو غير مسبوق، تباين الرؤى حول الأمن الاستراتيجي لإسرائيل. ولئن دافعت واشنطن في عهد أوباما عن الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 بصفته حاميا لأمن إسرائيل من سلاح نووي قد يطل من طهران، فإن سعي بايدن للعودة إلى الاتفاق بعد “بشارة” ترامب بالخروج منه، أثار الخلاف بين البلدين، لكن أيضا أماط اللثام عن مضي واشنطن في انتهاج خيارات بشأن أمن إسرائيل حتى لو كانت نقيض الخيارات التي تسعى الأخيرة إليها. 

وجدير تذكّر تقدم العلاقات الإسرائيلية الروسية في عهد نتنياهو بحيث فاق عدد زياراته لموسكو تلك التي أجراها لواشنطن. وجدير تذكّر أن تدخل الرئيس الروسي فلاديمير العسكري في سوريا تمّ التفاهم بشأنه مع إسرائيل قبل أن يتمّ تنسيق ذلك التدخل مع أوباما في نيويورك في قمة جمعت الزعيمين على هامش الجمعية العامة السنوية للأمم المتحدة في سبتمبر 2015 قبل أيام من شنّ القاذفات الروسية غاراتها الأولى في سوريا.

باتت روسيا رقما صعبا في السياستين الداخلية والخارجية لإسرائيل. يصل عدد الإسرائيليين الناطقين بالروسية حوالي مليون نسمة يشكلون لوبي روسي داخل إسرائيل كما يشكلون قوة ديمغرافية لها نفوذها داخل أروقة القرار في روسيا. ثم أن قواعد الأمن الإسرائيلي المتعلق بمقاربة “الأخطار” في سوريا ترتبط على نحو حيوي وحتمي بالاتفاق مع موسكو. وما التوتر الذي سُجل مؤخراً، سواء في الدوريات الجوية الروسية السورية فوق الجولان أو في السجال الروسي الإسرائيلي الأخير حول الموقف في أوكرانيا، إلا مثال على دقّة وخطورة المسّ بالعلاقة بين البلدين وتداعيات ذلك المباشرة على الجبهة الشمالية لإسرائيل. 

في السياق نفسه، لوحظ على نحو واضح تحول الموقف العربي بشأن الحدث الأوكراني باتجاه منطقة حيادية بما يعبّر عن توق المنطقة العربية إلى النأي بنفسها عن صراع لا مصلحة لها بالانخراط فيه. وما امتناع دولة الإمارات العربية عن التصويت في مجلس الأمن بشأن مشروع قرار أميركي ألباني حول أزمة أوكرانيا، إلا تعبير مباشر، من على منبر أعلى مؤسسة أممية، عن مصالح الدول العربية في عدم الانحياز في نزاع يتصارع داخله الحلفاء والشركاء.

غير أن ذلك النأي بالنفس يعبر في الوقت عينه عن تغير في أجندات المنطقة بحيث بات لروسيا (والصين) موقع في الشرق الأوسط وجب أخذه بعين الاعتبار بعد أن كان نفوذ الولايات المتحدة ومصالحها هي الغالبة في المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ولا ريب أن للإدارة الديمقراطية الحالية دور إضافي في إسباغ أجواء سوء التفاهم في قراءة علاقة واشنطن بدول المنطقة، والتي بدت غريبة وبعيدة عن طبيعة العلاقات الاستراتيجية التاريخية، لا سيما بين دول المجموعة الخليجية ومصر من جهة والإدارات الحاكمة في البيت الابيض. 

والحال أن مباشرة تركيا فتح علاقات جديدة واعدة مع القاهرة وعواصم الخليج، كما التطور الذي طرأ على علاقات أنقرة مع إسرائيل لا يمكن قراءتهما إلا وفق تمرين لبناء شبكة علاقات تأخذ بعين الاعتبار المشترك في مصالح دول المنطقة، كما المشترك في حال علاقاتها مع الولايات المتحدة، سواء في التمسك باستراتيجيتها وتاريخيتها من جهة، كما في ظهور واجهات مختلفة من سوء الفهم في مقاربة واشنطن لأولويات دول المنطقة ومصالحها. لكن بالمقابل فإن لتركيا حسابات أيضا مع روسيا تجعل من الحدث مناسبة لاستعادة “أطلسية” ترنحت في السنوات الأخيرة. ويظهر ذلك في إدانة أنقرة للحرب الروسية في أوكرانيا وتزويدها كييف بمسيرات “بيرقدار” أو في إمساك تركيا بمفاتيح مضيق البوسفور والدردنيل والتلويح بإعادة قراءة اتفاقية مونترو بشأن المضائق. 

ولئن يدور الخلاف الإسرائيلي مع الولايات المتحدة حول جدارة أي اتفاق نووي مع إيران في توفير أمن إسرائيل، فإن المنطقة العربية، وفي مقدمها المجموعة الخليجية، تنظر بعين القلق إلى نزوع أعمال “فيينا” إلى معالجة التقنيات التي من شأنها ضبط البرنامج النووي وإعادته إلى “الصندوق”، دون أن تشارك دول المنطقة في صياغة الاتفاق العتيد، ناهيك من أن فريق  روبرت مالي الذي يمثل الولايات المتحدة في مفاوضات العاصمة النمساوية، لا يدرج، وبناء على رفض إيراني، برنامج إيران للصواريخ الباليستية وأنشطتها المزعزعة للاستقرار داخل ملفات التفاوض، وهي أولويات أمنية تجد واجهات مكثفة  لها في اليمن.

باتت المنطقة بحُلٍّ من التزاماتها الآلية في أن تكون طرفا في صراع الكبار. بادرت واشنطن إلى طرق أبواب الخليج تحريا لمصادر بديلة للطاقة لأوروبا. ردت العواصم بأنها ملتزمة بعقود وعهود واتفاقات تمنعها من تحويل انتاجها وصادراتها لأسباب لوجيستية تقنية نعم، لكن أيضا لأسباب تتعلق بمصالح المنطقة مع دول كبرى مثل روسيا والصين كما مع الولايات المتحدة. صحيح أن حسابات دوب الخليج تختلف عن حسابات تركيا وإسرائيل في إدارة العلاقة مع موسكو وواشنطن، غير أن الحدث كشف خللا بنيويا في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بات يتطلب مراجعة في واشنطن لن تنتظر نتائجها دول المنطقة.

السابق
حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: سلاح لأية قضية…
التالي
عودة السنيورة لإنقاذ لبنان!