لقمان سليم.. حين يخشى القاتل من القتيل!

لقمان سليم

سنة مرت على اغتيال لقمان سليم، وما زالت الجريمة في خبر غامض، لدى الدولة والقضاء والأجهزة الأمنية على اختلافها، لكنها في خبر واضح ومعلوم لدى أغلبية الأمّة. أما المجرم القاتل فهو في حرية مطلقة، طليق يسرح على هواه. ولا شك أن القاتل مرتاح (البال والضمير!) ولا شيء يعكر صفوه الاجرامي ولا أية عوائق حول خطواته وتنقلاته، خصوصاً بعدما (تكفّلت!؟) الدولة بتوثيق الجريمة، وضمّها الى ارشيف الجرائم في جارور مثقوب أو في أدراج مهملة!

اقرأ أيضاً: كسرا للصمت.. حملة «صفر خوف» ضد الاغتيال السياسي في ذكرى لقمان سليم!


لقمان المغدور غاب ورحل، ولكنه فقط لن يعود.. واذا ظن القاتل أن قتل النفس والغدر بها في عتمة عابرة خافية ساترة ، ستعطيه حياة مُضاعفة، فهو ، حتماً ، في غير زمن، في غير مكان، في غير علّة ، في غير تعاسة ، في غير جهل ، في غير وجود.

اذا ظن القاتل أن قتل النفس والغدر بها في عتمة عابرة خافية ساترة ستعطيه حياة مُضاعفة فهو حتماً في غير زمن في غير مكان


يكشف الطبيب الشرعي الذي عاين جثة المغدور أن ست رصاصات اخترقت رأس وصدر وظهر لقمان. فمن الواضح والجلي والثابت، أن القاتل كان خائفا من القتيل، لذلك أمطره بالرصاص، خوف القاتل من بقاء رمق حياة في جثمان المقتول. لم يكن خوف القاتل من أن ينجو لقمان من الموت فحسب، بل كان خوفاً يشوبه قلق هائل ممهور بحقد دفين وكره أكبر . تكشف الرصاصات الست حقيقة القاتل ودوافعه، ليس أقلها دافع تخويف وترهيب، كل من يفكر وتخوله نفسه ملاقاة الفكر النّير، ومجاراة العقل الوازن.

القاتل كان خائفا من القتيل لذلك أمطره بالرصاص خوف القاتل من بقاء رمق حياة في جثمان المقتول

تعرفت على لقمان سليم في بداية عام 1990، بعيد اطلاقه دار نشر تحت اسم “دار الجديد”، والذي اصدر، لاحقا، من خلال “الجديد” العديد من الكتب والابحاث والدراسات الفكرية والشعرية والفلسفية والادبية والسياسية. وسرعان ما توطدت علاقتي معه، بعدما تلاقينا (وتشاكسنا) ، وفي محصلة العلاقة بيننا، لقمان وأنا، اتفقنا على مساحة علاقة صداقة تجمعنا. أضف الى ذلك أن لقمان كان عاشقا للشعر، ويهتم كثيرا بطباعة ونشر كتب الشعر. وبعد اشهر قليلة على انطلاق دار الجديد، طلب مني تزويدة بمخطوطة شعر لي، اذا كانت جاهزة، لطباعتها ونشرها ضمن سلسلة اصدارات شعر حديثة. وبالفعل، كانت مخطوطتي حاهزة، وأرسلتها الى صديقي لقمان ليطبعها. أيام قليلة وصدر كتابي “ليس غيابك” عن دار الجديد.


أما اللقاء الأخير الذي جمعنا، فكان في نهاية صيف سنة2020، في إحدى مطاعم جبل لبنان، وكنا في حفل غداء، وامتدت الجلسة المشتركة مع أصدقاء حتى منتصف الليل، بعدما فاجأتنا إحدى الصديقات،الساهرة معنا، “سنحتفل الان بعيد ميلاد لقمان..” واحتفلنا في تلك الليلة بعيد الصديق لقمان، وكم كان ودودا راقصا مبتهجا في تلك السهرة، ولا أنسى ما أنشد لقمان في تللك الليلة الصاخبة من غناء وطرب ورقص. كانت فرحته عارمة، وكأنه قمر الليلة الصافية في مساحة الانتظار الموصوف، انتظار السمر الذي يرسم خارطة الأمل في العيون المغردة.

بين 1990و 2020، مسافة عمر وزمن عبرناها معاً، جلسات ومناسبات وسهرات ومؤتمرات وندوات ونقاشات ،ومشاكسات ورحلات في المكان الوطني والجغرافي، تقاسمتها مع لقمان، وكانت تلك المرحلة وهذه المناسبات التي جمعتنا، كانت كافية للتعرف، عميقاً، في أفكار وأحلام الفتى الباحث المتوغل في سحيق العلم والمعرفة والأمل. أفكار كثيرة، بل مشاريع فكر كانت تشغله، فلم يترك للوقت متسعا سوى لخياله وأفكاره القائمة على الوعي الممنهج والتفسير العلمي البحت.

تعمق في الفكر السياسي واستطاع بناء خصوصية فكرية سياسية منفردة بقواعد مفتوحة على اللغات والثقافات الأخرى ومتجانسة مع الاخر

البحث الفلسفي أساس المنطق الذي اتبعه لقمان، وحاول من خلاله قراءة توجهات الحضارة المستقبلية الممكنة.
اللغة كانت غرامه المتزن ورأيه الموزون، ويعتبرها المدخل والركيزة في مسألة الوعي الوطني والانتماء.
تعامل مع الشعر ، كلغة خاصة داخل اللغة، لها قواعدها ومفرداتها ونحوها وصرفها، بما يخدم انتاجية اللغة نفسها.

تعمق في الفكر السياسي، واستطاع بناء خصوصية فكرية سياسية، أو لغة سياسية منفردة، بقواعد مفتوحة على اللغات والثقافات الأخرى، ومتجانسة مع الاخر. لغة تعترف بالاخر وتمنحه (الاخر) حق الشك والنقد، (لذلك وطبعا اغتالته عصابة إلغاء الاخر).
كان نشيطاً وغزير الإنتاج في النشر والمشاريع التوعوية والثقافية، جريئاً في التعبير، ومتمرداً على السياسات التقليدية ورافضاً للطائفية. وذهب الى ابعد حدود الرفض للهيمنة الطائفية والفئوية، وهذا العناد المنطقي العقلاني الواعي، والاصرار على مجاراة الحضارة ومواكبتها، عجّلت ودفعت المجرم الجاهل لاغتياله.

وقائع وأيام عبرت وكنّا فيها:

في دورة معرض الكتاب العربي والدولي( 1990) في مبنى وزارة السياحة، القاعة الزجاجية، شارك دار الجديد في المعرض، وكان لقمان في حينها نجم الحضور اليومي في نشاطات المعرض، وذلك لكثرة ابتكاراته ونشاطاته (الغريبة)، ومنها أنه أصدر جريدة يومية، على مدى12 يوماً، وهي عدد أيام المعرض. وكل يوم تحتوي نسخة جريدة المعرض مواضيع ثقافية تخص الكتاب والكتب.


لم يكن لقمان في غير مجاراة للعلم والمعرفة والثقافة، وانطلاقا من مفهوم الوعي الوطني والحضاري، عاش ومات رافضاً لكل ما من شأنه، أن يعيق مسيرة حضارة حتمية يعمل في كنفها، لذلك كان رافضا للطائفية، ويعتبرها أساس خراب البلاد. وكان يدير مركز “أمم” للأبحاث والتوثيق، في جزء من منزله في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت.
كما اهتم لقمان كثيرا بتوثيق ذاكرة الحرب الأهلية (1975-1990)، خصوصا لتسليط الضوء على ملف المفقودين. وكان يعمل مؤخرا على مشروع لأرشفة يوميات الحرب السورية.

عاش ومات رافضاً لكل ما من شأنه أن يعيق مسيرة حضارة حتمية يعمل في كنفها لذلك كان رافضا للطائفية


في مطلع التسعينيات أسس “دار الجديد” للنشر. وأنتج مع زوجته الألمانية مونيكا بورغمان فيلمين وثائقيين، أحدهما لتوثيق مجزرة صبرا وشاتيلا خلال الحرب الأهلية في لبنان، والثاني حول سجن تدمر في سوريا.


لقد شكل لقمان بنى تحتية لحركة محورية في الواقع الوطني وفي المجتمع المدني اللبناني، ونشاطه السياسي عبّدهُ بثقافة متنورة قديرة. استطاع أن يزرع روح الثقافة في الوعي السياسي، وأن تكون لغته وخطابه وتوجهه الفكري وأنشطته العامة والكثيرة محط اهتمام ومتابعة في المساحة الوطنية، حتى أن الذين لا يستسيغون سياسته كانوا يتابعون ويترصدون أفعال نشاطاته وتأثيراتها في المجتمع المدني.

شكل لقمان بنى تحتية لحركة محورية في الواقع الوطني وفي المجتمع المدني اللبناني ونشاطه السياسي عبّدهُ بثقافة متنورة قديرة.


لا شك أن المغدور لقمان سليم ، بنشاطه السياسي الثقافي الاجتماعي، شكّل قلقاً (للعين السوداء الساهرة الحاسدة! )، فراقبته وتتبّعت وترصّدت خطواته، وتأثيراتها الناجعة في المجتمع المدني، فقررت اغتياله وبظنّها أنها نجحت في إبعاد شخصية وطنية عن مسارها الظّلامي الهدّام، كما فعلت وأبعدت واغتالت سواه من الشخصيات الوطنية الكبرى!

السابق
عندما يلتقي السيد هاني فحص بلقمان سليم!
التالي
معوض في ذكرى سليم: سنكمل النضال لتحرير اللبنانيين من قبضة الميليشيا!