حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: استلابٌ ثقافيٌ أم احتلالٌ ايرانيٌ

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

إن الحديثَ عن “احتلال إيراني” في لبنانَ، هذه الأيام، يرفعُ من مستوى الجدل الداخلي حول النفوذ الذي يمتلكه “حزب الله”، في تقرير مسارات البلد الراهنة ومصيره المقبل.. و توصيفُ ” الاحتلال الإيراني” مثار جدل يجري، في غيابِ وجودِ ألوية ومدرعات وجنود إيرانيين، بل يستخدم في “تمرين الاحتلال المفترض”، أدواتٌ لبنانيةٌ تتمتعُ بحاضنة اجتماعية طائفية، وتستندُ الى تحالفاتٍ داخليةٍ، عابرة لكل طوائف البلد. وهنا تَكمُنُ الإشكاليةُ! والحال أن ما يصدر.. عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقبله عن رئيس الجمهورية ميشال عون – يكرر.. أن “حزب الله” حزبٌ لبنانيٌ ممثَّل داخلَ السلطتين التشريعية والتنفيذية.

اقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: حراكُ ١٧ تشرين وضابط الايقاع


وفيما يذهب عون إلى الدفاع عن سلاح الحزب، بصفته “حاجة” لا يمكن لجيش البلاد تأمينها..، ذهب سعد الحريري إلى اعتبار أن مشكلة سلاح “حزب الله” هي إقليمية دولية وليست لبنانية…( د. محمد قواص- لبنان: في الجدل حول “الاحتلال الإيراني”! المصدر: النهار ( 13-01-2022 ).

يذهب عون إلى الدفاع عن سلاح الحزب بصفته “حاجة” لا يمكن لجيش البلاد تأمينها ذهب الحريري إلى اعتبار أن مشكلة سلاح “حزب الله” هي إقليمية دولية وليست لبنانية


الإشكالية المطروحة، أي صحةُ إسباغِ صفةِ الاحتلالِ على نفوذ إيران في لبنان، لا يطرحها فقط المشككون في صحة المصطلح، فقد ظهرت جليا أيضا، في تصريحين للناطقيَن البارزين باسم “المجلس الوطني لرفع الإحتلال الايراني”… فالنائب السابق فارس سعيد صرح انه يجب “رفعُ الاحتلال الإيراني أكان سافراً أو مقنعاً”، أي أنَّ هذا الاحتلالَ غير واضح المعالم. وتتوضحُ الإشكاليةُ أكثرَ في تصريح النائب السابق أحمد فتفت، الذي اعتبر انه يجب “إنقاذ لبنان من الاحتلال الإيراني الذي يمثله حزب الله”. نحن هنا إذن أمام طرفين، طرف خارجي ايراني نعتبره محتلا، وطرف داخلي لبناني يمثله على أرض الواقع!..بهذا المعنى يصبح “السافر” في تصريح سعيد هو “حزب الله”، فيما “المقنّع” هو إيران.

إذا كانت الإشكالية في مصطلح “الاحتلال الايراني” هي عدم وجود جيش ايراني على الأراضي اللبنانية فإن استباحة “حزب الله” للحدود بين لبنان وسوريا يجعل لبنان وسوريا مساحة أرض واحدة


أن بيان “المجلس الوطني”، يكتفي بالإشارة إلى تصريحات للإيرانيين، يعتبرون فيها انهم يسيطرون على عواصم عربية من بينها لبنان، من خلال جيوش تابعة لهم… ويمكن أن نضيف أن نصرالله اعتبر نفسه، جنديا عند ولي الفقيه الايراني، مما يجعلنا نستنتج ان “حزب الله” الذي يقوده جندي عند ايران، هو تابع عسكريا لها. وقد اعتبر نصرالله في كلمته الاخيرة، ان أميركا مسؤولة عن جرائم إسرائيل، فهي التي تمولها وتزوّدها السلاح. ويمكن للمنطق نفسه أن ينطبق على علاقة إيران بـ “حزب الله”. فإذا كان “حزب الله” يسيطر عسكريا على لبنان، فهذا يعني أن إيران هي التي تسيطر عليه، فهي التي تزود “حزب الله” بالمال والسلاح، باعتراف نصرالله نفسه.
يمكننا ان نضيف انه إذا كانت الإشكالية في مصطلح “الاحتلال الايراني”، هي عدم وجود جيش ايراني على الأراضي اللبنانية، فإن استباحة “حزب الله” للحدود بين لبنان وسوريا، يجعل لبنان وسوريا مساحة أرض واحدة، ويحوّل الوجود العسكري الإيراني المؤكد في الأراضي السورية، ذا إمتداد ميداني حتمي على الاراضي اللبنانية.

يصطدم مصطلح “الاحتلال الايراني” بمشكلتين مترابطتين: اولا كيفية ترجمته كمطلب، وثانيا كيفية تحقيقه على الأرض


رغم هذه الاعتبارات، يصطدم مصطلح “الاحتلال الايراني” بمشكلتين مترابطتين: اولا كيفية ترجمته كمطلب، وثانيا كيفية تحقيقه على الأرض، رغم أن العنوان الأساسي هو “رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان”، لا تأتي المطالب التي يطرحها “المجلس الوطني” على ذكر إيران بل “حزب الله”، بما فيها تطبيق القرارات الدولية واتفاق الطائف…


المشكلة اليوم اعمق، وتكمن في أن قسما من الشيعة اللبنانيين، يعتبرون أن وجدانهم الديني والاقتصادي والعسكري، جزء من ايران. وبما أن إيران هي طرف خارجي، فهذا يعني أن وجدان هذه الفئة من الشيعة محتل منها، لكن برضاها الكامل… من هنا يصح القول، إن إيران تهيمن على لبنان بدون أن تحتله مباشرة… كيف نرفع “احتلالا وجدانيا”، بدون معالجة وطنية للمسألة الشيعية في لبنان، التي أوجدها تمثيل “حزب الله” للطائفة الشيعية؟ ( غسان صليبي النهار ص ؛ آراء20-01-2022 ).

اما عماد قميحة( على صفحته على Facebook ) فيحاول الفصل بين الهوية القانونية لعناصر حزب الله وبين هويتهم السياسية؛《 وهيهوية لا علاقة لها بمكان الولادة ولا دخل فيها لدوائر النفوس والشؤون الادارية، وانما تحدد حصرا بالاعتقاد والثقافة ومن ثم بالاداء والانتماءتماما كما الانتماء الديني والمذهبي. فبالامكان ان تجدَ مُسلِما مولودأ من أبوين مسلمين ومسجل على هويته بانه مسلم، ولكنه في الواقع هواختار المسيحية دينا له، ويمارس كل الطقوس المسيحية… فهذا الشخص لا يمكن ان نناقش بدينه واعتقاده بحجة انه مسجل على هويته انهمسلم…وكذلك هي الحال مع حزب الله قيادة وأفراد، فالانتماء الى فكرة ولاية الفقيه بمحمولاتها ومقتضياتها الحقيقية، هي وحدها كفيلةباستحالة المنتمي ليس فقط الى الهوية الايرانية بالمعنى الجغرافي، ( فقد تجد ايرانيين ليسوا مع ولاية الفقيه)، بل أن يتحول صاحبها الىإيراني اكثر بكثير من بعض الايرانيين، فهو ايراني بالفكر وبالسياسة وبالاعتقاد وبالمصالح والثقافة والمذهب والانتماء والولاء واسلوب الحياةوحتى المشاعر فيفرح بقرار ويحزن بقرار، وصولا الى الصلاة والصوم وادق تفاصيل حياته ومستقبله وحتى مماته… وعليه، فمع “ولاية الفقيه” لم يعد الحديث يختصر عن إحتلال او عدمه، وانما يتعداه حتما اكثر من مجرد إحتلال…》

الفكرة التي قدمها عماد قميحة صحيحة بداية،  لكنها تحمل خللا في الاستنتاج ولا بد من الاعتراض عليها، صحيح هي اخطر من احتلال،لكنها ليست “ايرنة”  هي ” ادلجة خامينائية” او “أدلجة خمينية” ولذلك هي ظاهرة استلاب ثقافي ينتج عنها دور سياسي وعسكري،وطريقة مواجهته وتفكيك عناصر لحمته وقواه، تختلف عن طريقة مواجهة الاحتلال، كما نتائج المواجهة واهدافها المحققة تختلف عن نتائجتحقيق الفوز على الاحتلال و كما تختلف الاهداف المنجزة كذلك. فاحتلال يجري اجلاؤه، اما الاستلاب الثقافي فيجري نقاشه وتفنيداسانيده ومرتكزاته الفكرية والمادية.

في مقالة هامة للخبير في القانون الدولي ساجي سنو، ناقش الكاتب من منظور القانون الدولي ومعاهدات جنيف التي تم توقيعها بشأن الحروب والقوانين، الملزمة لكل انواع الاحتلال والسيطرة، شعار” رفع الاحتلال العسكري عن لبنان” مبينا افتقار هذا الشعار لأي مبرر يستند الى القانون الدولي او احكام محكمة لاهاي الدولية، وقد اورد في مقاله:


Pour parler d’ ” occupation ” iranienne du Liban, et à défaut de présence militaire iranienne directe dans ce pays, les souverainistes libanais recourent en la théorie – assez controversée – de l’occupation par entité interposée…
la jurisprudence internationale – semble rejeter la notion d’occupation par personne interposée, dite aussi occupation à distance, ou occupation longa manu. Cette notion souffre de plusieurs failles qui la rendent contraire aux fondements du droit de l’occupation…
De plus, pour qu’il y ait occupation, il faut qu’il existe une différence de nationalité entre les habitants, d’une part, et les forces intervenantes et exerçant le pouvoir sur ces habitants, d’autre part.
notamment le fait que la puissance occupante soit en mesure de substituer sa propre autorité à celle de l’Etat dont le territoire est occupé, désormais incapable de fonctionner publiquement.
Or les différents rapports du Secrétaire général de l’ONU relatifs à l’application des Résolutions 1559 et 1701 révèlent qu’il existe un rapport concurrentiel, mais non substitutif,
entre l’autorité du Hezbollah et celle de l’État libanais ; l’État libanais conservant, malgré tout, une partie considérable de son autorité..
(https://icibeyrouth.com/opinions/29643)

يكتب د. ساجي سنو ؛ لرفع شعار “الاحتلال” الإيراني للبنان ، وفي ظل غياب وجود عسكري إيراني مباشر في هذا البلد ، يلجأ “السياديون اللبنانيون” إلى النظرية – المثيرة للجدل إلى حد ما – المتمثلة في “احتلال كيان عبر وسيط” …
القانون والاعراف القضائية الدولية – يبدو أنه يرفض فكرة الاحتلال عبر وسيط ، والمعروف أيضًا باسم الاحتلال عن بعد ، أو احتلال باليد الطولى. هذا المفهوم يعاني من عدة عيوب تجعله مخالفًا لأسس قانون الاحتلال …
علاوة على ذلك ، لكي يكون هناك احتلال ، يجب أن يكون هناك اختلاف في الجنسية بين السكان من جهة ، والقوى التي تتدخل وتمارس السلطة على هؤلاء السكان ، من جهة أخرى …
اضافة لذلك وعلى وجه الخصوص يجب أن تكون القوةُ المحتلة، قادرةً على إحلال سلطتها بديلا لسلطة الدولة التي احتلت أراضيها ، وبالتالي تصبح الدولة غير قادرة على العمل علنًا.

المشكلة اليوم اعمق وتكمن في أن قسما من الشيعة اللبنانيين يعتبرون أن وجدانهم الديني والاقتصادي والعسكري جزء من ايران


غير أن التقارير المختلفة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن تطبيق القرارين 1559 و 1701، تكشف أن هناك علاقة تنافسية وليست بديلة، بين سلطة حزب الله وسلطة الدولة اللبنانية. فقداحتفظت الدولة اللبنانية ، رغم كل شيء ، بجزء كبير من سلطتها.

هذا في الجانب القانوني اما في الجانب السياسي، فمن الضروري قراءة شعار ” رفع الاحتلال الايراني ” بعين النقد والتبصر، لماذا؟! لان هذا الشعار يريد ان يعفي قسما كبيرا من اطراف المنظومة الفاسدة، والتي خربت اقتصاد البلد، وقامت بممارسة الزبائنية والمحاصصة الادارية والامنية وتواطأت مع حيتان المصارف، واستولت على الشواطئ العامة واقامت المرامل والكسارات، وجعلت من الكهرباء والنفايات والتلزيمات مصادر تمويل لارتكاباتها واحزابها ومحاسيبها، يريد ان يعفيها من ذنوبها جميعا…
ان تبني شعار ” رفع الاحتلال الايراني”، هو اعادة تدوير لهذه الفئة من المنظومة، واعادة تعويمها وتوضيبها بقالب جديد يحمل عنوان ” السيادة بوجه احتلال مفترض”، ويخاصم الطائفة الشيعية كعدو مذهبي بيولوجي نهائي، وليس مواجهة حزب الله كطرف سياسي وعقائدي، استطاع نتيجة ظروف اجتماعية وسياسية ودينية، ان يمسك بقرار اغلبية الشيعة، وان هذا الامساك كما خيارات الشيعة، قد تنتقل وتتبدل الى خيارات اخرى، فيما لو تأمنت ظروف سياسية واجتماعية مختلفة.

لا يضعف حزب الله بتحشيد اصوات سيادية اضافية، في كسروان وجبل لبنان وطرابلس والشوف بل يواجه في النبطية وصور وبعلبك والهرمل


وليس خبرية الاحتلال الايراني سوى محاولة لاعادة تعويم المنظومة، باستدراج دعم خليجي يعدل التوازن بين اطراف السلطة، فظاهر شعار “رفع الاحتلال” عمل جذري لتغيير الواقع اللبناني، باطنه وحقيقته، محاولة اعادة تعويم قوى كانت متحالفة مع السعودية ودول الخليج، وفقدت مصداقيتها لديها، أما سقف حركتها فهو تخفيف غلبة حزب الله، ودفعه الى توزيع اكثر انصافا لمكاسب السلطة، فيما المطلوب رفض الهيمنة الايرانية، ومخاصمة حزب الله كحزب لبناني يعمل لمصلحة ايران، والبناء لميزان قوى داخل الساحة الشيعية، يحررها من غلبة حزب الله عليها، ويستعيد كيان الدولة اللبنانية.

لا يضعف حزب الله بتحشيد اصوات سيادية اضافية، في كسروان وجبل لبنان وطرابلس والشوف، بل يواجه في النبطية وصور وبعلبك والهرمل، ولغة التحريض التي تلامس التعصب والكراهية، سيف ذو حدين تشد عصب جهة هنا واخرى هناك، فيما المطلوب خطاب هادئ وثابت وعقلاني، يدخل آذان الجمهور الشيعي ويشرح المأزق الذي يصنعه حزب الله لشعب لبنان عامة ولشيعته خاصة.

لا يضير حزب الله ان يتعامل السياديون مع الشيعة اللبنانيين كجالية ايرانية قوتهم من قوة ايران ومستقبلهم من مستقبل ايران وبقاؤهم في لبنان مناط بقوة حزب الله

لا يكتفي شعار ” رفع الاحتلال الايراني” بتناقضه مع القانون الدولي، وافتقاره لاي مسوغ شرعي يبرر تبنيه، ولا يقتصر على خلل سياسي يعيد خلط الاوراق واعادة تدوير وتعويم قوى سياسية، ساهمت في بتعاظم سطوة حزب الله وهيمنته على مفاتيح قرارات السلطة الاساسية، بل يستعيد لغة تحريضية سئمها اللبنانيون من مخلفات الحرب الاهلية، حول الاحتلالات المتعاقبة، وهي هيمنات عاثت بلبنان فسادا ودمارا، لكنها حدثت بمشاركة واستدعاء قوى لبنانية اساسية لها، استقوت بها لتعزيز نفوذها.

لا يضير حزب الله ان يتعامل السياديون مع الشيعة اللبنانيين كجالية ايرانية، قوتهم من قوة ايران، ومستقبلهم من مستقبل ايران، وبقاؤهم في لبنان مناط بقوة حزب الله، فقد بذل جهدا كبيرا وخلال مدة طويلة، ليقنع انصاره بذلك، ولم ينجح الا بنسب قليلة، وما ينقصه اليوم، هو دعم اضافي يقدمه له بعض خصومه السياديين، ليقنع من خلالهم، من تبقى من الشيعة ومن لم يقتنع بعد.

السابق
خيارات خاطئة.. وهاب يكشف عن خسارة مالية كبيرة للحريري!
التالي
بعدسة «جنوبية»: الشيخ المعارض عباس الجوهري يُعلن ترشحه للانتخابات.. بوجه الثنائي الشيعي!