عبد الله «الساعي» إلى «العدل لا القانون»!

ياسين شبلي

كعادتنا نحن اللبنانيين في تناول الأحداث اليومية التي تعصف بنا ، تعاطينا – أو لنقل الغالبية العظمى منا – مع حادثة المواطن عبد الله الساعي، الذي إقتحم بنك بيروت والبلاد العربية فرع جب جنين وإسترد وديعته المحتجزة – كغيرها من ودائع اللبنانيين في البنوك – بالقوة ، تعاطينا معها بسلبية و”سطحية” لافتة ، سلبية تجلت بأخذها “كلامياً” في إتجاهين متعاكسين، عبر إعتبار البعض لعبدالله من جهة بطلاً شجاعاً مقداما، إسترد وديعته بالقوة تحت شعار “أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، وهو شعار سياسي قديم كما هو معروف ، غالباً ما أُتخذ ككلام حق يراد به باطل، في غابة السياسة ودهاليزها وصفقاتها، إذ لم نجد له من تطبيق على أرض الواقع اللبناني والعربي عموماً سوى في “تحرير” أرض الجنوب اللبناني من الإحتلال الصهيوني، مع ما رافق هذا التحرير ولا يزال، من تداعيات على الوطن وأهله حتى اليوم، جراء “الكلام الحق” من قبل أصحاب الأرض، و “المراد” الباطل من قبل أصحاب المشروع الإقليمي، ومن جهة أخرى إعتباره مجرماً إتخذ من الناس رهائن مقابل وديعته، وعرَّض حياتهم للخطر، في مغامرة كان لها أن تتحول إلى مأساة، فيما لو حصل أي طارئ غير محسوب، الأمر الذي جعل ردة الفعل هذه تبقى في إطارها الكلامي، دون أي فعل عملي للبناء على هذه الحادثة، من حيث التركيز على أسبابها، والسؤال عن مدى الضغط النفسي والفعلي الذي وصل إليه عبد الله الساعي، والذي دفعه لإرتكاب ما إرتكب من مغامرة إنتحارية، كان لها أن تودي بحياته، وكذلك تبيان مدى خطورتها، إذا ما تكررت على السلم الإجتماعي في البلد.

اقرا ايضاً: القصة الكاملة لـ«المقاومات» اللبنانية على «مد الوطن».. إختلاف واتفاق ودماء!


لا نقول هذا الكلام من منطلق “التنمر” على الناس ومواقفها، أو من باب التنظير عليها أو تقريعها، فكلنا في الهم والغم لبنانيون، نعيش نفس الظروف الصعبة، النفسية منها والإجتماعية، التي وضَعَنا فيها مجموعة من اللصوص والقتلة والأفاقين المحترفين، ممن يَعتبرون ويُسَمّون أنفسهم قادة أو زعماء سلطة أو طبقة سياسية، مسؤولين عن هذا البلد وإدارته، إنما لنقول بأن القضية أكبر وأعمق، من أن ننعت عبدالله الساعي بالمجرم أو البطل.

إعتبر البعض لعبدالله من جهة بطلاً شجاعاً مقداما إسترد وديعته بالقوة تحت شعار “أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”


فالقضية ليست لعبة إلكترونية أو حبكة سينمائية بعنوان “عسكر وحرامية”، أو مباراة كرة قدم تنتهي بفوز أحد الفريقين، بل هي قضية عامة تخص حاضر ومستقبل شعب بأكمله، شعب تعرض لعملية غش ونصب وإحتيال مكتملة الأركان، وعن سابق تصور وتصميم، ما جعل الناس في حالة من فقدان التوازن النفسي، لأن الذي حصل هو فعلا فوق كل تصور، وخارج أي منطق، ولا يمكن أن يتحمله اي عقل بشري، عندما يتعلق الأمر بإنقلاب موازين حياته ما بين ليلة وضحاها، كما حصل وكما هو حاصل في حالتنا اللبنانية.

القضية ليست لعبة إلكترونية أو حبكة سينمائية بعنوان “عسكر وحرامية” بل هي قضية عامة تخص حاضر ومستقبل شعب بأكمل

عبدالله الساعي ليس مجرماً، إقتحم البنك بسلاحه لسرقة مال المودعين، عن سابق تصور وتصميم، ليعتقل ويحاكم على فعلته، ولا هو شجاعاً قام بعمل بطولي، في سبيل قضية عامة لإعادة الحقوق إلى أصحابها، ليتم تنصيبه قائدا وقدوة. عبدالله الساعي يا سادة، هو بكل بساطة ووضوح مواطن لبناني مظلوم، مطحون، مغلوب على أمره، هو إنسان يائس لا حول له ولا قوة، هو إنسان فقد الأمل بكل شيء، بالدولة والمسؤولين والحق والعدل، هو إنسان أوصلوه إلى الكفر، بكل ما يمت للعقل والمنطق بصلة، هو إنسان لم يعد لديه ما يخسره، فقام بعمل إنتحاري يائس، ودخل في مقامرة وضع فيها حياته ومستقبله على الطاولة ولعبها “صولد” غير آبه بما يمكن أن تكون عليه النتيجة، وهذه لعمري قمة العبثية، التي لم يجد عبدالله الساعي للأسف الشديد بُداً منها ولا بديلاً عنها، لمحاولة فعل أي شيء يفك عنه طوق الظلم والقهر الذي يعيشه، ويعيشه مثله عشرات آلاف اللبنانيين، الذين إنقلبت حياتهم رأساً على عقب في غفلة منهم.

عبدالله الساعي ليس مجرماً إقتحم البنك بسلاحه لسرقة مال المودعين عن سابق تصور وتصميم ليعتقل ويحاكم على فعلته ولا هو شجاعاً قام بعمل بطولي


عبدالله الساعي، هو رمز لأزمة وطن وشعب، جعلوه عاجزا مشلولا، وبالتالي “مجرما” يقتحم البنوك اليوم، وربما يقتحم البيوت غدا بِغضّ النظر عن أصحابها – وهنا الخطورة – بحثاً عن حق ضائع سليب ومغتصب، من قبل منظومة متكاملة، بالتضامن والتكافل ما بين البعض من ساستها ورجال أعمالها، والبعض من عسكرها ورجال أمنها، كما البعض من كتابها وإعلامييها، والبعض من قضاتها ورجال دينها. منظومة أضاعت بوصلة القيم والأخلاق، ففعلت وبكل صفاقة ما لم يفعله قبلها أحد، وما زالت مستمرة في غيها، عبر إعادة إنتاج نفسها وبالوجوه الكالحة نفسها، مع بعض التغييرات البسيطة في “إنتخابات” وضعت هي قانونها، وتُمسِك هي بمفاتيحها عبر المال المنهوب والمُهرَّب.

هذه المنظومة نفسها هي التي س” تحاسب” عبدالله الساعي على “وقاحته” في تحديها وتجاوزه عليها، ولو عبر محاولة “إنتحار” قام بها، لتبدو وكأنها تحميه من نفسه، وتحمي المجتمع من أمثاله عن طريق “قوانين” هي وضعتها وصاغتها على مقاسها، قوانين تذكرنا بما كتبه ميخائيل نعيمة في إحدى قصصه، على لسان بطل القصة وصراخه قائلا، “نريد عدلاً لا قانوناً”، فما أكثر القوانين وما أقل العدل، في بلد شعبه مشلول، وعاجز عن الحركة بفعل “ثقافة” الطائفة والمذهب والخوف من الآخر، ولم يعد قادرا سوى على التعبير بالكلام، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

عبدالله الساعي هو رمز لأزمة وطن وشعب جعلوه عاجزا مشلولا وبالتالي “مجرما” يقتحم البنوك اليوم وربما يقتحم البيوت غدا بِغضّ النظر عن أصحابها – وهنا الخطورة


عبدالله الساعي ليس بحاجة لتصنيفه بطلاً أو مجرماً، وهو لم يقم بما قام به – على ما أعتقد – بحثاً عن شهرة زائفة أو دور بطولة، في “ثورة” وئدت في مهدها، ولم يتبقَ منها سوى مجموعات متنافرة، تبحث عن مكان لها على الخريطة السياسية في البلد، من ضمن لعبة الإنتخابات التي وضعت وتضع قواعدها السلطة والمنظومة نفسها.

بتنا بالفعل نريد عدلا لا قانونا نريد إدارة رشيدة لا سلطة نريد دولة لا ولاية أو مقاطعة نريد رجال دولة لا زعماء ولا قادة

عبدالله الساعي بما هو مواطن لبناني مظلوم، بحاجة لمن يرفع عنه الظلم والقهر، لمن يجد له حلولا سريعة، تقيه شر العَوَز في عمله ومعيشته، بحاجة لمن يضمن له أمنه وإستقراره النفسي، لمن يبث فيه روح الأمل بمستقبل زاهر له ولأولاده من بعده، بحاجة لمن يحميه ويستعيد حقوقه المنهوبة ويحافظ عليها، لقانون عادل يوفِّر عليه، عناء البحث والعمل على إسترجاع حقه بيده.
هذا ما يريده ويحتاجه أي مواطن لبناني، بغض النظر عن إسمه ودينه ومنطقته، لقد شبعنا “أبطالاً” ومجرمين، شجعانا وجبناء، ملائكة وشياطين، عسكر وحرامية، شبعنا حكي ومماحكات وإتهامات في كل الإتجاهات.
بتنا بالفعل نريد عدلا لا قانونا، نريد إدارة رشيدة لا سلطة، نريد دولة لا ولاية أو مقاطعة، نريد رجال دولة لا زعماء ولا قادة، نريد وطن يجمعنا لا مزارع تفرقنا. هل نطلب الكثير أو المستحيل؟ لا أعتقد..

السابق
وفاة بسام الملا مخرج مسلسل باب الحارة
التالي
«آخرة» رجل مثقف.. تحت جسر الفيات!