هل صارت تركيا وقبرص واليونان..مثلّث «الحلم البديل» للبنانيين؟

هجرة اللبنانيين مستمرة
لم يعد التلويح بالمناديل على حافة البحر في وداع المُهاجِرين «نوستالجيا» من قصائد عن الغربة والحنين وأغنيات عن الاشتياق ووطن الأجداد ومآثر الانتشار في بلاد الله الواسعة. فثمة «لعنةٌ» كأنه يراد منها «ترحيل اللبنانيين» وترْك الوطن الصغير لقمة سائغة في فم المجهول.

هجراتٌ وراء هجراتٍ ورحيلٌ خلف رحيلٍ كأنه نزوحٌ وتهجيرٌ وفرار، تارةً بالحرب، ساخنة وباردة، وتارةً بالتجويع والتهشيم والتهميش والتخويف والتيئيس. فـ «الوطن – الملجأ» صار «مصنعاً» لتصدير الأجيال تلو الأجيال… الأبناء والكفاءات والأدمغة و… العائلات.

خلال الحرب الأهلية، يقال إن نحو 990 ألف شخص هاجروا لبنان وتَوَزَّعوا في بلدان العالم. وما هو أكيد أن عدداً لا بأس به من الأفراد الذين تَركوا «بلاد الأرز» عادوا بعدما هدأتْ الأحوال ليكملوا حياتهم، حيث وُلدوا وعاشوا.

ولكن بالنسبة للعائلات التي هاجرتْ، فإن قلةً قليلةً منها اختارت طريق العودة، فيما الأكثريةُ الساحقة التي كبر أولادها في الغربة وتَأقْلموا مع الحياة في بلدانٍ اكتسبوا عاداتها وتقاليدها وثقافاتها، فإنها لم تستطع أن تنتزعهم مرة جديدة من تلك الجذور التي ترسخت لهم في الغربة بعدما انتزعتْهم سابقاً من جذورهم الأولى.

ومَن حاول الرجوع الى لبنان من تلك العائلات وإعادة وصْل ما انقطع، وجد نفسه غير قادر على التأقلم من جديد في بلدٍ يغرق بأزماتٍ وحروب متكررة. ولذا، ما كادوا يستقرون حتى يبادرون مع أولى اهتزازاتِ الوضع في لبنان إلى حزْم حقائبهم و«النزوح» مجدداً إلى البلدان التي اكتسبوا جنسياتها وصاروا فيها مواطنين.

وكأن هجرةَ العائلات قَدَرٌ على لبنان لا ينفك يعيد نفسه مع كل أزمة. إذ مع خفوت وهْج ثورة 17 أكتوبر 2019، وبدء فرض المصارف للقيود على السحوبات والتحويلات، بدأت بعض العائلات تتململ من الوضع خوفاً على مستقبل أبنائها ولا سيما إمكان تسديد أقساطهم المدرسية أو دراستهم في الخارج.

تركيا الخيار الأنسب لعائلات تستثمر بشراء منزل في منطقة سياحية ولمتقاعدين باحثين عن الهدوء

ففي الوطن الصغير الذي لطالما تَمَيَّز برأسماله البشري، يوازي الخوف من ضياع المستقبل الدراسي للابناء القلق على سلامة هؤلاء وحياتهم. ومن هنا قررتْ الكثيرُ من العائلات الانتقالَ من لبنان للاستقرار في دولٍ مُجاوِرة تؤمّن لمُواطنيها وساكنيها أساسيات العيش الرغيد.

ويُقدَّر عدد الذين غادروا في ما يُسمى بالموجة الثالثة من الهجرة وفي الفترة ما بين 2018 و2021 بـ 195433 لبنانياً. ومنذ بداية السنة الحالية وحتى منتصف نوفمبر، بلغ عدد اللبنانيين المُهاجِرين 77777 مقارنة بـ17721 في العام 2020. وكانت لجزيرة قبرص القريبة، كما لتركيا واليونان، حصة الأسد في استقبال العائلات اللبنانية الهاربة من جحيم بلادها والتي تعتبر غالبيتها أنها «طُردت» وهُجِّرت من وطنها الأم.

تسهيلاتٌ عَزَّزَتْ الهجرة

لم يكن الانتقالُ إلى هذه الدول بالأمر السهل ولا سيما بالنسبة لمَن لا يملكون حسابات بالدولار أو اليورو في مصارف خارجية أو للذين ليست لديهم حسابات بالفريش دولار في لبنان… لكن ذلك لم يمنع الكثيرين منهم من المغامرة والسعي للاستقرار في دول قريبة تذكّرهم ببلادهم ولا تشكّل هجرةً بالنسبة إليهم، وخصوصاً أن قبرص وتركيا واليونان قدّمتْ تسهيلاتٍ للبنانيين الذين يتملّكون شققاً أو عقارات فيها أو يقومون باستثمارات مختلفة نظراً لحاجة هذه الدول الثلاث بعد الأزمات الاقتصادية التي اجتاحتها الى استثمارات أجنبية والى ضخ العملة الصعبة فيها وفي قطاعها العقاري بشكل خاص.

وقد جذبت هذه التسهيلات اللبنانيين الذين كانوا يسعون مع بداية الأزمة إلى تهريب أموالهم من المصارف المحلية. كما شكلت عاملَ جَذْبٍ لشركات التطوير العقاري التي اتجهت إلى بلدانٍ تؤمّن لها سوقاً واعدة وتسهيلات كثيرة وتتيح لها بيع الشقق في هذه الدول للبنانيين بشيكات مصرفية.

فالشركاتُ العقاريةُ، كما يقول نقيب الوسطاء العقاريين وليد موسى لـ «الراي»، وجدتْ في الأمر فرصةً ذهبيةً لتوسيع أعمالها من جهة وسداد ديونها للمصارف من جهة أخرى. «وقد شكّل إقبالُ اللبنانيين على الشراء في قبرص وتركيا واليونان ما يشبه المعجزة، حيث استطاعوا بواسطة شيكات مَصْرِفية إخراجَ أموالهم من لبنان وشراء شقة في بلد أوروبي والحصول معها على فرصة الاستحصال على إقامة طويلة الأمد».

إقرأ أيضاً: عون «يُحاصر» الثنائي وميقاتي حكومياً ومجلسياً..و«قواعد الاشتباك» قيد الإختبار جنوباً!

كما تمكّنت الشركات العقارية المتعثّرة من أن تجني الأرباح وتثبت أقدامها في هذه الأسواق وتعيد بناء رأسمالها وتسدد ديونها بالعملة اللبنانية للمصارف اللبنانية. وازدهرت عمليات البيع هذه في بداية أزمة المصارف في أواخر العام 2019 لكنها اليوم باتت أصعب مع عدم قبول الشركات العقارية للشيكات المصرفية التي باتت قيمتها الفعلية أقل بكثير من السابق مع ارتفاع سعر الدولار وانخفاض قيمة الليرة كما بات ارتفاع أسعار الشقق غير ملائم لهذا النوع من المبادلات.

مغامرة نحو بر الأمان

هذا الأمر أغرى الكثير من العائلات لاقتناء بيت لها والإقامة في هذه الدول والبحث عن عمل ومدارس للأطفال. وما كان في البدء استثماراً مالياً سرعان ما تحوّل الى استثمارٍ حياتيّ وفرصةً لمستقبل آمن.

وتروي إحدى السيدات كيف انتقلت وعائلتها الى اليونان حيث كان زوجها موظفاً في شركة عالمية ومركزه أثينا، بعدما كانت مع أولادها مستقرين في لبنان بسبب المدارس. ولكن مع بدء تقييد السحوبات المالية وجائحة «كورونا» التي فرضت التعليمَ عن بُعْد، غادرت الى اليونان.

وبعد بضعة أشهر اشترت العائلة شقة من متعهد لبناني بشيك مصرفي. ومع حصولها على الإقامة استطاعت تسجيل أولادها في مدرسة عالمية البرنامج، ولا تفكر حالياً، مطلقاً بالعودة الى لبنان، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا أموال او وظائف وحيث المدارس مهدَّدة كل يوم بالإقفال.

وتقول السيدة «شكرت ربي ألف مرة على نعمة العيش هنا بعد أحداث الطيونة وما رافقها من ذعرٍ عمّ المدارس في المنطقة، ولا سيما أن أبناء شقيقي يتعلّمون في إحداها واضطر تحت وابل الرصاص الى الإتيان بهم من المدرسة».

ومَن يتصفّح مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، تطالعه عشرات الإعلانات عن فرص لشراء المنازل في اليونان، حيث المدرسة والجامعة والأمان والملذات السياحية والطقس الرائع طوال أيام السنة، وحيث إمكانية الحصول على إقامة دائمة في بلد أوروبي تُعتبر حلماً بالنسبة للبنانيين.

والأمر نفسه ينطبق على جزيرة قبرص التي باتت بدورها ملجأً للكثير من العائلات الباحثة عن الأمان أولاً، وعن وسائل لإخراج أموالها من لبنان ثانياً.

ويقول ريشارد الحاج موسى، وهو صاحب شركة تعنى بمساعدة اللبنانيين على فتْح حسابات لهم في البنوك القبرصية، إن مَن لا يودّ أن يعيش غربةً حقيقية وينتقل إلى قبرص، بات بإمكانه وهو في لبنان أن يفتح حساباً له في أي بنك قبرصي فيتخلّص بذلك من عبء حفظ أمواله في البيت، وفي الوقت ذاته يؤمّن حرية التصرف بأمواله من دون قيود ولا سيما إن كان صاحب شركة ويحتاج الى هوية مصرفية وتسهيلات مصرفية تساعد الحركة التجارية لشركته.

 عشرات الإعلانات عن فرص لشراء المنازل في اليونان والحصول على الإقامة / الحلم

وصار فتْح حسابات في المصارف القبرصية، خياراً جدياً لأعداد كبيرة من اللبنانيين الذين يبحثون عن سبل للخلاص من جحيم البنوك اللبنانية، وأيضاً لمَن يفكر بالانتقال الى الجزيرة والاستقرار فيها، حيث يسهل له وجود حساب مصرفي باليورو أو الدولار عمليةَ الاستقرار، كما يسهّل له وجود وسيط لبناني تَجاوُز صعوبات هذه العملية.

أما تركيا وبسبب تَدَنّي قيمة عملتها، فقد صارتْ من الوجهاتِ الأَحَبّ والأنسب بالنسبة للعائلات اللبنانية، رغم بعض الصعوبة في ما يختص بالمدارس إذ إن غالبيتها تعتمد اللغة التركية، ويصعب على التلامذة اللبنانيين الاندماج فيها.

لكن الخيارَ الذي ارتأتْه بعض العائلات هو الاستثمار في امتلاك بيت في تركيا وخصوصاً في المناطق السياحية على البحر يقصدونه في الصيف والعطلات المدرسية كافة هَرَباً من مشقات الحياة اليومية في لبنان ولا سيما أن التنقل بين البلدين سهل والمسافة لا تبعد أكثر من ساعة بالطائرة كحد أقصى.

ويشكل الخيارُ التركي الحلَّ الأنسب للعائلات التي كبر أولادها وانتقلوا الى جامعات في الخارج وللمتقاعدين الذين بات بإمكانهم عيش تقاعدهم براحة وهدوء بعيداً عن مصائب لبنان وخصوصاً إذا كانوا يملكون رأس المال ولو بسيطاً بالدولار.

الارتماء بالبحر

لكن ليست العائلات الميسورة وحدها التي سعت الى الهروب من تَفَلُّت الأوضاع في لبنان، بل إن عائلات كثيرة من أصحاب الدخل المحدود عملت على الانتقال أيضاً الى البلدان المُجاوِرةِ، في مُغامَرةٍ أشبه ما تكون بالارتماء بالبحر من دون سترة نجاة تماماً كما كانت تفعل إبان الحرب الأهلية.

والروايات كثيرة عن عائلاتٍ غامرت وتركتْ كل شيء خلفها لتستقرّ في بلد مجاور. وتقول جانين، وهي ربة عائلة انتقلت الى قبرص، أنهم بدايةً جمعوا كل ما يملكون، ولم يتعدّ 2000 دولار، وقصدوا الجزيرة، حيث كانوا استأجروا عبر الانترنت بيتاً متواضعاً خارج إحدى المدن.

وحين أنجز ولداها هناك عامهما الدراسي «أونلاين» في مدرستهم اللبنانية سجّلتْهم على الفور لتلقّي دروس مجانية لتعلُّم اللغة القبرصية خلال الصيف، وبعدها سجّلتْهم في مدرسة رسمية بحيث لا يكلّفونها أي أقساط. وعمدت بدورها إلى القيام ببعض الأشغال البسيطة التي تدرّ عليها مردوداً بالدولار، مثل تدريس اللغة الفرنسية «أونلاين» وصناعة حلي يدوية تبيعها للسواح، فيما تابع زوجها عن بُعد عمله كمستشار إداري في إحدى الشركات، وصار راتبه يُحَوَّل الى مصرف قبرصي.

وهكذا برأسمال بسيط، استطاعت العائلة الاستقرار في واحد من أجمل البلدان وأكثرها أماناً. ولا تستطيع جانين ان تصف سعادتها بالقرار الصعب الذي اتخذتْه العائلة وكيف حوّل مسار حياتها.

في تركيا، تروي نور، وهي مؤثّرة على مواقع التواصل الاجتماعي، كيف استطاعتْ بعد استقرارها مع زوجها في اسطنبول أن تتابع عملها وبث منشوراتها والحصول على مبالغ مالية خاصة لقاء تسويقها للمنتجات والألبسة التركية، بحيث استطاعت أن تصيب عصفورين بحجر واحد، إذ زاد مدخولها وساعدت كل مَن يودّ فتْح صفحة له لبيع الألبسة التركية في لبنان عبر إرشاده إلى أبرز التجار وصنّاع الموضة وأفضل البضائع التركية لقاء عمولة، فيما يقوم زوجها بتأمين عملية شحن هذه البضائع الى لبنان ويشكل الوسيط العملاني بين تجار لبنان وتركيا.

وتفكر نور وزوجها حالياً بتأسيس عائلة بعد استقرارهما في تركيا، الأمر الذي لم يكن وارداً في لبنان حيث لم يجرؤا على إنجاب الأطفال في ظل ضبابية المستقبل.

… إنه غيض من فيض قصص نجاح اللبنانيين في الاستقرار بعيداً عن وطنهم الذي يعاني فشلاً مريعاً في إدارة شؤونه على كل المستويات ويصارع الارتطام المروّع. ومن قلب الحنين الكبير والدائم إلى الوطن الأمّ في كل لحظة ومع كل صباح، تبقى كلمتهم كلّهم واحدة: ارتحنا من مشاكل لبنان وسياسييه… ويحقّ لنا أن نعيش.

السابق
بغياب التحالفات الإنتخابية..الأحزاب تتخبط في طرابلس وعكار
التالي
كارثة «كورونية»..433 اصابة «أوميكرون» منذ 3 كانون الأول و2017 حالة و15 وفاة جديدة!