الرئاسة «الفراغية» في لبنان

أعلن رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون عزمه على رفض تسليم البلاد للفراغ، عند انتهاء ولايته الرئاسية في الحادي والثلاثين من اكتوبر المقبل، ولكنّه في الوقت نفسه يضع مواصفات للشخص الذي يمكن أن يقبل به خليفة له، ويرفض التاريخ المقترح لإجراء الانتخابات النيابية، ويترك “حزبه” يطعن في قانون الانتخابات النيابية، ولا يحرّك ساكناً يساعد على اعادة مجلس الوزراء الى الانعقاد.

وهذا السلوك  يفيد بأنّ عون الذي يرفض “التسليم للفراغ” ينشئ مصنعاً له، ليستفيد منه، على ما جرت عليه عادته، فهو على سبيل المثال لا الحصر، ما كان ليصل الى رئاسة الجمهورية، لولا الفراغ الذي صنعه، لمدة طويلة، بالتكافل والتضامن مع “حزب الله”.

إقرأ أيضاً: خاص «جنوبية»: العرب للبنان.. إلى اللقاء بعد الانتخابات!

يحاول عون أن يخيف اللبنانيين من الفراغ، ليجعل من نفسه أو من “ولي العهد” جبران باسيل، بديلاً مقبولاً، مستعيداً، من أجل ذلك، سيناريو “تطويع المستحيل”، إذ إنّ انتخاب عون رئيساً للجمهورية كان، مثله مثل انتخاب جبران باسيل راهناً، مستحيلاً، ولكنّ الفراغ الذي صنعه و”حزب الله” جعل كبار الناخبين الذين كانوا يتصدّون لوصوله، يتنازلون لمصلحة صفقة سلطوية-سياسية- ادارية، سرعان ما تسبّبت انتفاضة اللبنانيين في السابع عشر من اكتوبر ٢٠١٩، ب”فرطها”.

ولكنّ غالبية القوى السياسية ومعها غالبية اللبنانيين، وفي ضوء النتائج المأساويّة التي حصدتها البلاد، من جرّاء صفقة “ترئيس” عون، باتت “تترحّم” على الفراغ.

في “عهد الفراغ الرئاسي” لم يكن هناك انهيار على كل المستويات، ولم يكن هناك جوع، ولم يكن هناك مرضى يسترخصون الموت في مقابل الغلاء الفاحش للاستشفاء والطبابة، ولم تكن سمعة لبنان الدولية في الحضيض، ولم تكن العلاقات مع أكثر الدول فائدة مقطوعة، ولم تكن قيمة الليرة اللبنانية بلا قعر، ولم تكن ودائع اللبنانيين في المصارف في “خبر كان”.

في عهد عون الذي خلف “عهد الفراغ”، حصلت كل هذه المآسي، وتالياً فإنّ الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، باتت تفضّل الفراغ على استمرار عون أو على وصول من هو على صورته ومثاله الى القصر الجمهوري.

بطبيعة الحال، لا تنبع ثقة عون، صاحب “السجل الرئاسي الأسود”، بمستقبله أو بمستقبل صهره “الملعون” من أكثرية شعبية والمعاقب فاسداً من وزارة الخزانة الاميركية والمرفوض زائراً من غالبية عواصم العالم، من قوته الذاتية والحزبية بل من  ايمانه بأنّ حساب المصالح المفتوح بينه وبين “حزب الله” لم يقفل بعد، اذ لا يزال في الجمهورية، على ما يبدو، بعض التفاصيل التي  لم يتم الانتهاء من تسليمها الى “الدويلة الايرانية في لبنان”.

خطة عون للبقاء في رئاسة الجمهورية، بعد انتهاء ولايته، كانت معروفة. سبق أن كتبنا وآخرين عنها، وكشفنا “الفتوى” الخاصة بها التي جهّزها سليم جريصاتي، كبير مستشاري عون. هذه المرّة قالها عون نفسه، من دون خجل ولا وجل، وكأنّ في سجله ما يسمح له بأن يفاخر ويتيح للبنانيين بأن يقبلوا بذلك.

إنّ إعلان عون نيته الاستمرار في القصر الجمهوري،لما بعد ٣١ اكتوبر المقبل، مرهون بعاملين حاسمين. أوّلهما، حصول عون على موافقة “حزب الله”، وثانيهما، حصول فراغ كبير.

وثمّة من يعتقد بأنّ عون حصل على موافقة “حزب الله”، ولذلك اختار صحيفة هذا الحزب (“الأخبار”) للإعلان عن “رفض تسليم الجمهورية للفراغ”.

ولكن كيف يمكن أن تكون صناعة الفراغ؟

إنّ وجود مجلس الوزراء  لا يسمح لعون برفع مقولة استمراريته لملء الفراغ، لأنّ هذا المجلس، وفق الدستور، يمسك بصلاحيات رئيس الجمهورية، وتالياً فوجود مجلس وزراء يحول  دون حصول الفراغ.

وهذا يعني أنّ صناعة الفراغ تقتضي عدم وجود مجلس للوزراء.

راهناً، وبفعل ارادة “حزب الله” استغلال مجلس الوزراء للإطاحة بالمحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، تعطّل هذا المجلس، بحيث أضحى في لبنان حكومة عاجزة عن أن تكون مجلساً للوزارء.

وزاد تعقيد إمكان انعقاد مجلس الوزراء إصرار فئة منه على وجوب إقالة او استقالة وزير الاعلام جورج قرداحي الذي كانت مواقفه المؤيّدة لحوثيي اليمن “الشعرة التي قصمت ظهر البعير” في نظرة عدد من الدول الخليجية تتقدمها المملكة العربية السعودية، الى لبنان.

وإذا كان انعدام وجود مجلس للوزراء، حالياً لا يعني حلول استحقاق الفراغ، المقصود من عون، لأنّ هذه الحكومة ينتهي عمرها، مع انتهاء الانتخابات النيابية المقبلة، فإنّ الأنظار سوف تشخص الى الانتخابات النيابية والاستحقاق الحكومي الذي سوف يليها.

وهذا يعني أنّ الحكومة الحالية، بكل ما ظهر فيها من عورات مانعة لانعقادها، ستنقلب حكومة تصريف أعمال، اذا حصل الاستحقاق الانتخابي النيابي، وحينها، وبعد منع قيام حكومة جديدة، يمكن أن يجتهد عون ويعتبرها شبيهة بالفراغ فيفرض استمراريته.

ولكن قبل حصول ذلك، إنّ الاستحقاق الانتخابي النيابي نفسه بخطر، فعون الذي لا يمكن أن يتنازل عن القصر الجمهوري إلّا لصهره جبران باسيل، قد يستغل كل الثغرات الممكنة لمنع حصول هذه الانتخابات.

وليس خفياً على خبراء الانتخابات في لبنان أنّ تيار عون الذي يقوده باسيل معرّض لخسارة كبيرة في الشارع المسيحي.

وقد جاء العدد الكبير نسبياً للمغتربين الذين سجّلوا أنفسهم في القنصليات اللبنانية في المهاجر، على “لوائح الشطب”، ليرفع من قلق عون وتياره، لهذه الجهة.

وهذا يعني أنّ رئيس الجمهورية، في حال تأكّد من صحة تعرّض تياره لانتكاسة انتخابية، سوف يعمل على نسف هذا الاستحقاق، لأنّه ستكون لنتائجه انعكاسات مباشرة على الاستحقاق الرئاسي، إذ يصبح مستحيلاً إبقاء عون في منصبه أو تسليمه لصهره.

ولا يمكن نسف الانتخابات النيابية “على البارد” هذه المرّة، لأنّه، من جهة أولى، ثمّة قوى سياسية اساسية في البلاد قررت الاستقالة من مجلس النواب اعتراضاً على أي مسعى تمديدي، ولأنّ المجتمع الدولي، من جهةٍ ثانية، سبق أن هدّد باتخاذ خطوات قاسية ضد “التمديديين”، في حال لم تحصل الانتخابات في مواعيدها الدستورية.

وهنا يكمن الخطر، اذ إنّ نسف الانتخابات النيابية لا يمكن إلّا  أن يكون “على الحامي”، أي أن تتوافر له ذرائع أمنية تملي إرجاء الانتخابات.

وهذا التهيّب من توفير الحجج لنسف الانتخابات يثير ريبة البعض ليس من موجة اغتيالات نوعية فحسب، بل من افتعال احتكاكات أهلية تؤدي الى فوضى عسكرية وأمنية في البلاد التي بدأت تعاني، بفعل الحرمان والغلاء والبطالة والجوع، من ارتفاع ملحوظ في الجرائم.

في الدول الطبيعية، يسارع المسؤولون، أمام المعطيات الكارثية المتراكمة، الى تقديم استقالاتهم. في لبنان، يسارع عون الى ترشيح نفسه لتمديد ولايته، في نهج يعبّر، في آن، عن احتقار الشعب، وعن انقطاع عن الواقع، وعن نهم لا متناه، للسلطة.

السابق
«صداى آب» صدى انتفاضة العطش
التالي
«كورونا» يضرب مجددا في الجنوب!