الإنتخابات.. بين «تكبير الحجر» و«السذاجة» والإصلاح!

الانتخابات النيابية

“إذا أردت أن تقتل مشروعا أحِله إلى اللجان”، هذا القول ينطبق اليوم على تعامل المجتمع الدولي، مع أزمات العالم والمنطقة العربية بشكل خاص بحيث يصح القول، إذا أردت أن تنهي أزمة بأية طريقة، فأحِلها إلى الإنتخابات. هذا ما يحدث في ليبيا وكذلك عندنا في لبنان، منذ وطأت قدما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أرضنا بعد كارثة إنفجار مرفأ بيروت، حاملاً ما أسماه “مبادرة فرنسية” للحل في لبنان تقوم على “الإصلاحات”، التي تبدأ من التأكيد على إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها، من دون التطرق إلى إصلاح القانون الذي يجب أن تجرى على أساسه هذه الإنتخابات، وهو ما ترك شكوكاً عن الهدف من وراء هذه المبادرة، وما إذا لم يكن تعويم الطبقة السياسية، وإلا لماذا تجاهل إصلاح القانون ما دام العنوان الرئيس لهذه المبادرة هو “الإصلاحات”، التي يبدو أنها كالعادة لن تكون سوى ستاراً، يخفي وراءه صراع الأمم والدول، كل على حفظ مصالحه وتقوية نفوذه عبر هذا الطرف أو ذاك.

طبعا لا نقول هذا الكلام للتقليل من شأن الإنتخابات، أو دورها في إحداث التغيير المطلوب، إذا ما أُحسن إدارتها عبر تحالفات، ينبغي أن تقوم على تفاهمات أولاً على الأهداف، هل هي الإصلاح ومحاربة الفساد أم هو تغيير النظام برمته؟.. عندما تتحدد الأهداف، يأتي ثانياً التفاهم على الوسائل التي توصل لتحقيق هذه الأهداف، عبر خطة واضحة ومتينة، مبنية على برنامج مرحلي، وإن كان على الحد الأدنى المطلوب للمواجهة، وليس على تحالفات إنتخابية تنتهي حال الوصول إلى الندوة البرلمانية، وذلك يكون حين تتحلى القوى المعارضة بالتواضع وبالواقعية السياسية وعدم “تكبير” الحجر، وإلا فإنها ستحصد نتائج عكسية. فالمواجهة ليست سهلة مع قوى ميليشياوية عميقة بأغلبيتها، تمسك بمفاصل السلطة كالأخطبوط، عبر العديد من أذرعتها السياسية والإدارية والمالية والأمنية وحتى العسكرية ، وبالتالي فالمواجهة صعبة، وهي تحتاج لحسن تخطيط وصبر وقوة تحمل ونضال طويل ونكران للذات، وعدم رفع سقف التطلعات والتمنيات كثيرا أقله في الوقت الحاضر.

المواجهة ليست سهلة مع قوى ميليشياوية عميقة بأغلبيتها تمسك بمفاصل السلطة كالأخطبوط

نقول هذا ليس تثبيطا للعزائم، ولا تنظيرا على من هم على “خط النار” في المواجهة مع قوى السلطة، إنما لأننا نشتَمّ رائحة إنقسامات عميقة، حول شكل الإنتخابات ومضمونها بين مختلف الفئات والمجموعات، التي تعلن الإنتماء لثورة 17 تشرين، فهناك من يدعو للمقاطعة بدعوى عدم صلاحية القانون الإنتخابي – وهذا صحيح – وبالتالي، فلا أفق للتغيير في ظل هذا القانون وهذه السلطة، وهذا ما قد يقودنا ربما إلى هدف تغيير النظام، الذي ليس ممكناً في الوقت الحالي، عوضا عن أنه سيخلف إنقساما بين المجموعات المختلفة، التي سقف توافقها هو الإصلاح ومحاربة الفساد والفاسدين.

وهناك من يرفع سقف التوقعات ويبني عليه، بأن قوى المعارضة ستكتسح قوى السلطة، ولو في بعض الدوائر، مستندين بذلك إلى نتائج إنتخابات بعض النقابات والمجالس الطلابية في الجامعات، دون الأخذ بالإعتبار الفارق الموضوعي بين الحالتين، وهناك فريق ثالث يعول كثيراً وبقوة، على مشاركة المغتربين بكثافة ويعتبرهم في صف المعارضة، وكأنهم من عالم آخر أو أنهم لبنانيون “إكسترا” مقابل لبنانيي الداخل العاديين.

الإختلاف في وجهات النظر هو ظاهرة صحية، شريطة أن لا يتحول الأمر إلى خلاف وصراع، على “جلد الدب” قبل إصطياده

الواقع بأن الإختلاف في وجهات النظر هو ظاهرة صحية، شريطة أن لا يتحول الأمر إلى خلاف وصراع، على “جلد الدب” قبل إصطياده كما يقال. ومن الطبيعي أن يكون لكل وجهة نظر مبرراتها، شريطة أن يكون لها أيضاً بدائلها الواقعية والمعقولة، وإلا تحولت إلى فكرة عبثية لا طائل من ورائها، سوى تسجيل موقف شعبوي غوغائي وتضليلي، قد لا يقدم ولا يؤخر، وهذا النموذج موجود للأسف ويقوده أناس، إنتفخت عندهم الأنا درجة الإعتقاد، بأنهم يشكلون “مجلس قيادة للثورة”، وهو الأمر الذي قد يصب في نهاية المطاف، من حيث يدري المرء أو لايدري، في صالح السلطة القائمة.

فأنصار المقاطعة – وبغض النظر عن سلبية هذا الخيار – ينطلقون من أن المشاركة في ظل هكذا قانون، لن يفيد سوى السلطة الحاكمة بإضفاء الشرعية عليها، ويمثل إعترافاً بها وتطبيعا معها، وهي وجهة نظر معقولة ووجيهة ولكن في المقابل ما هو البديل المطروح من قِبَل أصحاب هذا التوجه؟ سيما وأنه كان هناك تجربة أو أكثر تمت فيها المقاطعة للإنتخابات، ولم تغير من الأمر الواقع شيئاً، الأولى كانت تجربة العام 1992، من جانب الطرف المسيحي الذي قاطع، ومع ذلك دخل مجلس النواب أشخاص ب 40 صوتاً، وأعتمدت النتائج كما هي دون أي تشكيك قانوني بشرعيتهم، وحتى الإنتخابات الأخيرة في العام 2018، كانت نسبة المشاركة بها أقل من 50 %، ومع ذلك لم يُطعن قانونيا بشرعية المجلس ولا بنوابه، وفرض نفسه بقوة الأمر الواقع، من هنا يبدو بأن خيار المقاطعة ليس واقعيا ولا مجديا، وقد يكون له مردودا عكسيا بتثبيت حكم هذه الطبقة السياسية، ما لم يكن مقرونا بخطة بديلة لمقارعتها ومحاولة كسرها، هذه الطبقة السياسية المعترف بها للأسف، من قبل المجتمع الدولي حتى الآن، على الأقل بغض النظر عن بعض العقوبات المفروضة، من هنا وهناك على بعض أفرادها للتهويل عليها ربما، لمحاولة لجمها وليس حباً ولا دعما للشعب اللبناني كما تثبت الأحداث كل يوم.

يبدو بأن خيار المقاطعة ليس واقعيا ولا مجديا، وقد يكون له مردودا عكسيا بتثبيت حكم هذه الطبقة السياسية

أما الفريق الآخر الذي يرفع سقف المطالب والتمنيات عالياً، وقد يصل الأمر به حد أن يتهم الآخرين بالتراخي والتخاذل ربما، فإنما ينطلق من حماسة مفرطة بعض الشيء، ربما يجد لها مبررات بسبب بعض النتائج التي أفرزتها بعض الإنتخابات الطالبية والنقابية في الآونة الأخيرة، والتي تلقت صفعة بالأمس في إنتخابات نقابة المحامين، بسبب من الشعبوية والغوغائية والأنانية التي تحدثنا عنها قبل قليل، والتي أثبتت بأن الإنتخابات النقابية والطلابية إنما تختلف عن الإنتخابات النيابية، ولها معاييرها وحساباتها المختلفة، وبأن لكل مقام مقال، من هنا نرى بأن خفض السقوف بات ضروريا وواجبا، بغية الإلتقاء مع بعض المجموعات للحوار والتنسيق، ومحاولة الإتفاق حتى مع بعض المجموعات السياسية الأقل ضرراً وفساداً، على قاعدة للتعاون، لأن الهدف يجب أن يكون هو تغيير الممارسات وأساليب الحكم، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، وليس تغيير النظام وإلغاء كل الأحزاب الموجودة، والعمل على قاعدة “أنا أو لا أحد” لأن هذا الأمر غير متاح حالياً.

المراهنون بقوة على تصويت المغتربين درجة تكاد تضعهم في خانة الخط التغييري، وكأن معظم المغتربين هم من عالم آخر

وهذا الكلام ينطبق أيضاً على المراهنين بقوة، على تصويت المغتربين درجة تكاد تضعهم في خانة الخط التغييري، وكأن معظم المغتربين هم من عالم آخر. هذا الإنفصال عن الواقع كي لا نقول “السذاجة” في التفكير، فيه شيء من الطفولية خاصة وأنه لا يترافق مع خطة عمل، تتوجه لهؤلاء المغتربين الذين لهم جمعياتهم وتجمعاتهم، منها السياسية ومنها الطائفية، وهم يمثلون بالغالب الأعم صورة مصغرة عن الأوضاع في لبنان.

هذا هو الواقع المزري للأسف، وعلينا فهمه ودراسته إذا أردنا تغييره، والتغيير لن يكون سوى بالإتفاق على برنامج الحد الأدنى المرحلي، وطرحه على الناس في الشارع بجدية وسلاسة، بعيدا عن السفسطة الكلامية و”الهوبرات” والإعلانات التلفزيونية المدفوعة، وليضع كل طرف هواه الشخصي والسياسي والطائفي والإيديولوجي جانباً، إذا كنا نريد فعلا إقتلاع هذه العصابة المسماة سلطة، وذلك لن يأتي دفعة واحدة ولن يتم بين ليلة وضحاها بطبيعة الحال، بل بالتدرج عبر محاولة إضعافها أولاً قدر المستطاع، عبر إكتشاف مكامن ضعفها وضربها عبر الترشيحات الموضوعية، وليس الترشح من أجل الترشح ، وعبر الإقتناع بأن الإنتخابات هي خطوة في رحلة الألف ميل، المليئة بالصعوبات والعوائق والعقبات، من قبل مجموعة عصابات متحالفة ومتكافلة في سلطة واحدة، وبالتالي فمن أضعف الإيمان أن يكون معارضيها هم أيضاً متحالفين في مواجهتها، ولو عبر إتباع أساليبها الإنتخابية القائمة على تبادل الأصوات والمنافع من تحت الطاولة، لأن الطريق صعب وشاق وشائك، وليست نزهة تنتهي بإنتهاء الإنتخابات، وواهم كل من يعتقد بأن التغيير سيأتي من هذه الإنتخابات بالذات، وبأن العمل ينتهي بإنتهاء فرز الأصوات ، بل يجب أن تكون هذه الإنتخابات باكورة العمل الجدي والمسؤول، عبر تشكيل جبهة معارضة متماسكة وعريضة قدر الإمكان – طال إنتظارها بعد سنتين من الحراك – تحتكم إلى الأساليب الديمقراطية المدنية في إدارة شؤونها، بعيدا عن الشخصانية القاتلة والمزايدات الإيديولوجية، مدعومة من حراك شعبي فاعل ودائم الجهوزية لدى كل منعطف، فالبلد والناس ليسا ملكا لفريق واحد، والتعددية مطلوبة من ضمن وحدة الهدف، في سبيل الإنقاذ الحقيقي وليس الإنقاذ الصوري، عبر تغيير الوجوه كما تحاول أن تفعل بعض أطراف السلطة، لخداع الناس وتخديرها بلمسات تجميلية على وجهها القبيح.

واهم كل من يعتقد بأن التغيير سيأتي من هذه الإنتخابات بالذات، وبأن العمل ينتهي بإنتهاء فرز الأصوات

وإلا سيكون من يتصدون للسلطة ويدّعون المعارضة أو الثورة ويتقدمون صفوفها، هم الوجه الآخر لهذه السلطة على طريقة “قوم تأقعد محلك”، وبالتالي سيتعامل معها الناس على طريقة “بيروح الشبعان وبيجي الجوعان، والشخص إللي بتعرفو على علاتو أحسن من إللي بدك تتعرف عليه”، لتعود هذه الأطراف وتتهم الشعب بالخنوع والجهل والإستزلام للزعيم، من دون أن تُحمّل نفسها عبء النقد الذاتي والمكاشفة مع الذات، ومحاولة تغيير نفسها قبل تغيير الواقع المزري.

السابق
فيديو صادم من عكّار: تركوا جثمان الميت في الطريق وفرّوا!
التالي
بعد تراكم المخالفات المسلكية.. رامي عليق «يُشطب» من المحاماة مدى الحياة!