وجيه قانصو يكتب لـ «جنوبية»: ما بعد بعد القرار السعودي!

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

يختلف قرار المملكة العربية السعودية الأخير بحق لبنان عن القرارات السابقة، بأنه اختلاف في النوع لا في الدرجة، بأن أحدث تغييراً جذرياً في قواعد الاشتباك ومنطق التحالفات وآليات المواجهة المعتمدة، وليس مجرد تصعيد في المواقف أو رفع السقف.  هو انتقال غير مسبوق يضع لبنان هذه المره أمام مفترق طريق: إما أو، إما تموضع صريح في الصف العربي أو الخروج منه، إما التحرر من السطوة الإيرانية على الدولة، مجسدة بحزب الله أو تحمل تبعات هذا النفوذ، إما استعادة الدولة لسيادتها ووضع حد لدولة داخل الدولة، أو اعتبارها دولة عاجزة وفاشلة، إما أن يكون لبنان دولة قانون تعاقب المخالفين والمطلوبين دولياً، أو التعامل معه كياناً مارقاً. 

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: تونس.. الديمقراطية «وجهة نظر»

هو قرار ضيَّق هامش المناورة أمام قوى السلطة في لبنان، التي أتقنت فن الجمع بين النقائض، وتفننت في لعبة التسويات التي لا تحل الأزمات، بقدر ما تدفع بها إلى الأمام،  وبرعت في لغة التمويه التي تنتج خطاباً متخماً،  ببهلونيات لفظية فارغة من المعنى والقصد الحقيقيين. كما إنها (أي قوى السلطة الحاكمة)، احترفت كسب التأييد السياسي والدعم المالي والتعاطف القومي، من منظومة الدول العربية، وفي الوقت نفسه تتحلل من الالتزام الصريح بنظام المصالح العربية، أو الوفاء للدول الداعمة للبنان، بحجة موانع خصوصية لبنان المذهبية أو الخوف من تفجر الفتنة الداخلية فيه.    

انتقال غير مسبوق يضع لبنان هذه المره أمام مفترق طريق: إما تموضع صريح في الصف العربي أو الخروج منه إما التحرر من السطوة الإيرانية على الدولة

هو قرار غيَّر قواعد اللعبة، وبدل معايير الربح والخسارة أو الانتصار والهزيمة،  لم تعد معها أساليب المعالجة التقليدية أو المألوفة التي تتبعها الدولة اللبنانية، تناسب جدية الموقف وخطورته.  ولأن السلطة اللبنانية لم تلتقط حقيقة هذا الموقف ودلالته، فقد استمرت في التعامل معه كحدث يومي، أو مشكل فني أو مجرد سوء فهم أو التباس شخصي، وسارعت إلى معالجته إما بدبلوماسية ساذجة، أو أداء داخلي أخرق، أو اعتذارات ضمنية، أو بتوسيط دول صديقة، أو حشد المواقف الداخلية المؤيدة للمملكة، والمعربة عن استنكارها الشديد لمواقف جورج قرداحي. 

هو قرار لم تلتقط القوى المناهضة للمملكة الجديد والمختلف فيه، فاستمرت في استراتيجيات المواجهة ومواقف التصلب والتشدد في الداخل اللبناني،  وتابعت معزوفة التحشيد والتعبئة، ورأت في بقاء قرداحي في الحكومة قضية مقاومة ومعركة ممانعة، لا بد من خوضها وفق طرق المواجهة المعتمدة، لإلحاق هزائم بالحليف القوي للولايات المتحدة، بالتالي إضافة إنجاز جديد إلى سجل الانتصارات ضد “الشيطان الأكبر”.

قرار غيَّر قواعد اللعبة وبدل معايير الربح والخسارة أو الانتصار والهزيمة،  لم تعد معها أساليب المعالجة التقليدية أو المألوفة التي تتبعها الدولة اللبنانية

القرار السعودي، هو بمثابة خروج من الداخل اللبناني بالكامل والتموضع خارجه. ما يعني أنه قرار يدل على أن المملكة لم تعد مهتمة برعاية حلفاء لها (بالمعنى السياسي-الاستراتيجي لا الشخصي) في الداخل اللبناني، أو الاشتباك مع خصوم محليين للتأثير على القرار اللبناني، ولم تعد معنية بمآلات الصراع على السلطة بين القوى اللبنانية المحلية، وأنها انسحبت من نادي الدول المتنافسة على النفوذ والهيمنة في الداخل اللبناني.

صحيح أن هذا الانسحاب يترك فراغاً في الداخل اللبناني، ويؤثر على موازين القوى بشكل مخل لصالح حزب الله تحديداً، ويوفر فرصاً أفضل لهذا الحزب في الإمساك بالقرار اللبناني ومقدرات الدولة. إلا أن القرار السعودي جاء إثر فشل القوى الداخلية في الحد من النفوذ الإيراني، وإثر تضعضع قدرات هذه القوى وتشتتها وسقوطها، في خلافات وصراعات شخصانية بينها، وإثر توفير مؤسسات السلطة في الدولة اللبنانية غطاء قانونياً وسياسياً لنشاط الحزب، يحول دون ملاحقته أو عقابه على أنشطته الخارجية.

القرار السعودي هو بمثابة خروج من الداخل اللبناني بالكامل والتموضع خارجه

هذا يعني أن الدولة اللبنانية، لم تعد عاجزة أو فاشلة أو منقسمة على نفسها فحسب، بل باتت معادية ومقوضة في سياستها، وآليات صناعة القرار فيها لنظام المصالح العربية. بالتالي فإن مواجهة النفوذ الإيراني في الداخل اللبناني لم يعد يجدي، بعدما باتت قواعد اللعبة السياسية في الداخل خاضعة لوصاية حزب الله ، وبعدما تحولت مؤسسات الدولة من هدف وموضوع تنافس بين القوى المحلية، إلى منصة وقاعدة توفر كل موجبات الدعم والقوة والشرعية لحزب الله. ما حول مؤسسات الدولة اللبنانية نفسها هذه المرة، إلى خط مواجهة متقدم ضد نظام المصالح العربية، وأداة حرب تهدد الأمن العربي، ببعديه الاجتماعي والسياسي.  بالتالي، لم يعد لاستقالة قرداحي، وفق هذا التموضع الجديد، أية قيمة أو معنى، بل بات بقاء الحكومة أو استقالتها قضية غير ذات صلة،  بحكم أن جوهر المشكلة بات مع الدولة اللبنانية نفسها، التي أصبحت بالفعل دولة حزب الله، وليس مع مكون داخلي فيها.

القرار السعودي بمثابة إحراج للقوى الدولية الغربية بالأخص فرنسا في موقفها المتردد والضبابي وليونتها غير المفهومة تجاه القادة والقوى الحاكمة في لبنان

القرار السعودي بمثابة إحراج للقوى الدولية الغربية، بالأخص فرنسا، في موقفها المتردد والضبابي وليونتها غير المفهومة، تجاه القادة والقوى الحاكمة في لبنان، والتي ما تزال تراهن على إمكانية إصلاح مؤسسات الدولة، وإمكانية تدجين حزب الله لبنانياً، وتحوله من ميليشيا عسكرية أمنية إلى حزب سياسي خالص. بل هو إحراج للسياسة الأمريكية نفسها في تعاطيها الغامض مع القضية اللبنانية، والتي تتصرف على أساس أن لبنان ساحة تسويات وتوافقات مرتهنة، بمآلات الملف النووي الإيراني. وهو تصرف يشي بإعتراف ضمني من الإدارة الأمريكية، بأن لبنان الداخل بات ساحة نفوذ إيراني لا يمكن تقويضه أو تقليصه أو تدجينه، إلا عبر المفاوضات النووية مع إيران.

القرار السعودي وضع اللبنانيين جميعاً أمام مسؤوليتهم وبمثابة الإنذار الأخير لهم بتدارك الأمر

أخيراً، فإن القرار السعودي وضع اللبنانيين جميعاً أمام مسؤوليتهم، وبمثابة الإنذار الأخير لهم بتدارك الأمر، لكن هذه المرة ليس عبر إصلاح العلاقة مع المملكة العربية السعودية، إنما عبر استنقاذ دولتهم وتصويب وجهة كيانهم، واستعادة التموضع الصلب والثابت داخل المجال العربي، بحكم أنه مصدر حقيقته وهويته، ومنبع حياته وبقاءه. 

السابق
لبنان معزول عربيا.. شركة «DHL» توقف البريد من لبنان إلى السعودية!
التالي
جشع أصحاب المولدات فاق كل التوقعات: الـ 5 امبير بـ 100 دولار والحبل على الجرار!