وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: تونس.. الديمقراطية «وجهة نظر»!

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

لا يمكن تفسير ظاهر الصراع الدائر بين تيار الرئيس التونسي قيس سعيد وحركة النهضة التونسية، على أنه مجرد صراع على السلطة أو قضية التزام أو خرق للدستور، وتقيد أو مخالفة لقواعد اللعبة السياسية.  كذلك فإن عمق الأزمة ليست أخلاقية تتمحور حول صراع الحق والباطل، وليست أيضاً قضية كفاءة أو عدم كفاءة أي طرف من أطراف الصراع، أو حتى مشكلة صواب أو خطأ أحد، أو حسن وسوء أداءه. إنها مسألة وجهة وخيار وهوية، لا تقتصر على طبيعة النظام وحقائقه، بل تمتد لتشمل الكيان التونسي نفسه، بما يحويه من مكونات مجتمعية وخصوصية ثقافية وسمة تاريخية.

اقرا ايضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: «بدعة الطيونة».. حفظ السلم بمنطق الحرب!

في مشهد صراعي كذلك، لا يمكن استدعاء معايير الديمقراطية، لتقييم قرب أو بعد أي طرف عن الديمقراطية، بحكم أن أصل الديمقراطية، ما تزال أبعد من أن تُنال أو تتحقق، على الرغم من توفر مظاهرها وأشكالها وإجراءاتها.  فالديمقراطية ليست مجرد تحديد من يحكم عبر صناديق الاقتراع مثلما يقترح شومبيتر، بل هي أيضاً أرضية ومرجعية وموجه ومحدد لكل فعل سياسي.  

إنها مسألة وجهة وخيار وهوية لا تقتصر على طبيعة النظام وحقائقه بل تمتد لتشمل الكيان التونسي نفسه

مشكلة الديمقراطية في تونس، مثلما هي مشكلة أكثر البلاد العربية، أنه يتم تحويلها إلى منصة صراع على السلطة، وليس إلى إعادة إنتاج حقيقة السلطة نفسها، إلى آلية لتحديد من يحكم وليس وضع ضوابط وقواعد ديمقراطية للحكم نفسه. ما جعل النقاش والجدل وحتى الاصطفاف الدائر، ليس في كيفية جعل الديمقراطية أرضية تؤطر أي نشاط سياسي، أو تنصيبها القيمة الفصل في فض النزاع أو حسم النقاش،    بل يدور حول أية أيديولوجية أو عقيدة يجب أن تحكم، وأية قوة سياسية يجب أن تسود.

فالديمقراطية ليست صفة تضاف إلى الفعل السياسي أو إلى السلطة، بقدر ما هي الوعاء الذي يتحدد بها الفعل السياسي، والحقيقة الجوهرية التي تنبثق على أساسها السلطة السياسية، لتكون الديمقرطية شرط وجود السلطة، لا فضيلة تضاف إليها من خارجها. وهي الطريقة الوحيدة التي يكون بالإمكان سد منافذ أشكال السلطة الأخرى، التي تختزل تعطل طاقة المجتمع وقدراته، وتحول أفراد المجتمع إلى قطيع.

مشكلة الديمقراطية في تونس مثلما هي مشكلة أكثر البلاد العربية أنه يتم تحويلها إلى منصة صراع على السلطة وليس إلى إعادة إنتاج حقيقة السلطة نفسها

ظلت المقترحات والمشاريع السياسية في تونس، خصوصاً والمجال العربي عموماً واقعة بين منطقين:

  • منطق الإستبداد كضرورة لمنع المجتمع من الوقوع في الفوضى. وهي مقولة تفترض المجتمع في حالة قصور ثابت، تمنعه من أن يدير نفسه بنفسه أو أن يعالج تناقضاته، ما يتطلب وصاية دائمة من حزب أو زعيم يكفل للمجتمع رفاهه وتقدمه.  هو منطق يظهَرُ أحيانا بطريقة متنكرة وضمنية، من قبيل تعطيل العمل بالدستور وحل البرلمان، وإعلان الطوارىء والانقلابات العسكرية.  ويتبدى بوضوح أيضاً في مقولة المستبد العادل أو المستبد المستنير، التي تسبغ على الاستبداد صفة عقلية، باعتباره يستهدي بأفكار المتنورين والحكماء، وصفة أخلاقية باظهار المستبد شخصية ورعة ومستقيمة وزاهدة. بل قد يذهب البعض إلى اعتبار الاستبداد المؤقت، ضرورة وصمام أمام للديمقراطية نفسها، بحمايتها من أعدائها وخصومها والمتآمرين عليها.  وهو منطق يعطل الديمقراطية ويعرضها للإلغاء التام، لأنه يؤسس الديمقراطية على روافع منافية ومناقضة لها.  
  •  أما المنطق الثاني فيقوم على عقيدة سلفية،  لا تنظر إلى قصور المجتمع أو عدم كفاءته في إدارة نفسه، بل ترى أن السلطة ليست من شؤون المجتمع، بقدر ما هي أمر رباني وشأن إيماني. هذه هي سمة عقل الإسلام السياسي المعاصر بتنويعاته المتعددة، الذي يصويب إلى وجهته الصحيحة، من خلال إعادة تأسيس المجتمع والمؤسسة السياسية، على مرجعية النص الديني وإيحاءات التجربة النبوية، في التدبير والسلوك والتفكير والعلاقات، أي سيادة الله في الشأن العام لا سيادة المجتمع أو الشعب.  بالتالي هي منظومة تريد استعادة وإحياء الاصل المنسي والمهجور، ذي المعالم والقواعد المقررة سابقاً، التي تشكل أساس الهوية ومنطلقاتها.

 هو منطق لا يكتفي بإقالة المجتمع من مهمة التدبير وذاتية الانتظام، بل يعادي في جوهره فكرة الديمقراطية، لا في شكلانيتها الإجرائية، ولكن في أصل حقيقتها ومعناها. فالديمقراطية تقوم في جوهرها على أن المجتمع يملك زمام أمره، وأن الإرادة العامة هي الأصل، الذي لا أصل فوقه والمرجع الذي لا مرجع له. 

بين هاجس الوقوع في الفوضى وقلق ضياع الهوية والأصل، تقوم أكثر التضامنات السياسية في العالم العربي، التي يتنازعها منطقان يتناقضان في المبنى، لكنهما يتفقان على حقيقة واحدة، وهي حكم المجتمع من خارجه، وضرورة تعزيز الوصاية عليه، إما وصاية مشخصنة متمثلة بفرد أو قيادة جماعية، وإما وصاية أيديولوجية وعقائدية  متمثلة بحزب، أو مؤسسات تقليدية نافذة أو منظومة قيم سلفية وتقليدية راسخة.

أهمية الديمقراطية أنها تحمي نفسها بنفسها لا من خلال وصاية أو قوى ردع وحماية

أهمية الديمقراطية أنها تحمي نفسها بنفسها، لا من خلال وصاية أو قوى ردع وحماية، بل من خلال تحولها إلى حقيقة مجتمعية، تتسرب إلى مجريات نشاط المجتمع ومنطلقات تفكيره ودوافع سلوكه. لا أن تبقى مجرد نزوعات ورغبات طافية على السطح، أو مجرد مهرجانات انتخابية .  فالديمقراطية لا تكتفي بتحديد من يحكم أو كيف يحكم، بل تتطلب لتحقق فعاليتها وبقاءها أن تكون خاصية المجتمع نفسه، بل حتى سمة جوهرية فيه، يعتبر نفسه صانعاً وخالقاً لقيمه، وأن إدارته لنفسه، وحقه في تقرير مصير مسألة وجودية ومعنى حياة، وأن شكل النظام ابتكارات متجددة لا هياكل عبادة، وأن الحرية لا تكون بمجرد رفع القيود عنها، بل بأن تملك قدرة ذاتية على أن تحقق ذاتها بذاتها.

ما يحصل في تونس اختبار لا بد منه قد يطول ليله وقد يتسارع انبلاج فجره الجديد

ما يحصل في تونس اختبار لا بد منه، قد يطول ليله، وقد يتسارع انبلاج فجره الجديد. فهنالك الكثير من المخلفات والرواسب، تحتاج إلى مراجعة حساب وإعادة نظر، وهنالك الكثير من القدرات والإمكانات والذهنيات لا بد من بناءها وتأسيسها وتعميمها. فالديمقراطية ليست فعل إزاحة لشيء فقط، أي فعل سلب، بل هي أيضاً فعل اختبار وفعل خلق وابتكار، واستدعاء لمكونات وعناصر جديدة تتسرب إلى مجرى الحياة العامة والخاصة، لتغير نظرتها إلى نفسها ونظرتها إلى العالم.

السابق
سجال بين نائبين يفجّر الجلسة النيابية.. وبرّي: إرتاح يا حبيبي!
التالي
بالصور: مغردون «ناقمون» على قرداحي: لا يمثلنا ابن القرداحة!