وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: «بدعة الطيونة».. حفظ السلم بمنطق الحرب!

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

لا يفترض بأحداث الطيونة أن تكون مفاجئة أو صادمة لأحد، بقدر ما هي متوقعة، وحصولها كان مسألة وقت أو حدوث صدفة أو إشكال عابر. هي تكرار لمشهد حصل منذ سنتين تقريباً، لكن الفارق بينهما أن الأول كان عفوياً ارتجالياً انفعالياً غرائزياً، اقتصر على شباب متحمسين أو أصحاب نخوة مناطقية وحمية مذهبية.  ولَّد هذا الحدث حينها صدمة، وربما رعباً، لدى سكان ضفتي الحدث (الشياح وعين الرمانة)، بحكم أن المنطقة شكلت رمزا لانطلاقة شرارة الحرب الأهلية الأولى في لبنان، وأخذ الشك يدك جدار طمأنينة اللبنانيين بأن الحرب انتهت إلى غير رجعة، فسارع أهالي الضفتين، بسلوك وجداني مؤثر، إلى إزالة تبعات الحدث وحصر تداعياته وإزالة آثاره المؤلمة.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: تونس.. من «بيت الطاعة» إلى الاختبار الديمقراطي الصعب!

نتيجة لذلك، لم يكن هذا الحدث سياسياً أو مدبراً أو مخططاً له، ولم يكن يصلح للتوظيف السياسي بحكم أنه كان استجابة عفوية لتعبئة وتحريض، سرعان من انطفأت جذوته بعد غياب سكرة الغضب والخوف. 

أما حدث الطيونة الأخير، فهو سياسي بامتياز، يندرج داخل سياق مبرمج ومعد سلفاً، تكون استثماراته السياسية والانتخابية والشعبوية أكثر من أن تحصى، ويخلق وضعيات ومشهدية جديدة، بلغة مختلفة وموازين قوى أخرى، بل قواعد لعبة صراع تنهي قواعد اللعبة التي ألفناها وتعودنا عليها. ما يجعلنا كلبنانيين نصحو على يوم آخر، يقطع مع الأيام السالفة ويبشر بنمط حياة مختلف.

ما أكدته أحداث الطيونة أن الفتنة أو الحرب الأهلية باتت ممكنة في لبنان

ما أكدته أحداث الطيونة أن الفتنة أو الحرب الأهلية باتت ممكنة في لبنان، لا لجهة وجود جهات تدعو إليها، بل لجهة أن المناعات الاجتماعية والمضادات الأخلاقية، والضمانات السياسية والقانونية والملاذات الأمنية السيادية (الجيش)، باتت مفقودة وغير متوفرة (غياب المانع).  ولجهة أن الأداء السياسي الحالي، بخطاب التعبئة عالي الوتيرة، واستعراض القوة المتهور والأيديولوجيات الخرقاء والطموحات الأنانية، جعلت البلد محكوماً للصدف والأمزجة الذاتية (وجود المقتضى)، وعاجزاً  عن صد تداعيات أي حدث أو منعه، حتى ولو كان عرضياً أو حصل بمحض الصدفة.

هو حدث بدأ البناء عليه سياسياً وانتخابياً، وبدأت معه حروب الإلغاء والتصفيات، التي قد تقتصر بدايتها على السياسة، لكنها تحمل قوة الدفع، باتجاه مواجهات دموية لا حدود ولا ضوابط لها. هو حدث باتت الدولة خارجه، إن لجهة التحكم به أو الحد من ارتداداته، وباتت الساحة مفتوحة للغرائز العدوانية، ورهاب الخوف ودهماء الهويات المتضخمة.    

الفتنة لا تحصل على يد الأشرار بقدر ما تولدها الحسابات الخاطئة والسلوك الأخرق

الفتن الموجبة للحرب الأهلية لا تخلقها النوايا السيئة، بل تخلقها وضعية متخمة بالتناقض والصراعات، والأيديولوجيات الرديئة والعقائد المغلقة والتفكير البدائي، ورعاع الشعبويات والمسلكيات المتهورة.   فالفتنة لا تحصل على يد الأشرار، بقدر ما تولدها الحسابات الخاطئة والسلوك الأخرق، وحماقة وغباوة القادة ومتصدري المشهد العام، وسذاجة وجهل وغوغائية المكونات المجتمعية، المتخمة بالخوف أو تضخم الهوية أو فائض القوة، أو كرهها لما يختلف عنها أو لا يشبهها.  

نجاح الحياة العامة لا يتحقق من خلال النوايا الحسنة، إنما من خلال الأفعال والوقائع والأوضاع. أي لا يعنيها صفاء سرائر الأفراد، والتزامهم الديني وورعهم الأخلاقي، بقدر ما يعنيها تقدير سير الأمور وصحة القرارات، وسلامة أداء مسؤول ونجاح تجربة وفعالية مشروع، وتماسك دستور وصلابة أو مرونة قانون وعقلانية خطاب.  فالفصل بين الفعل السياسي والفعل الأخلاقي ليس غرضه نزع الأخلاق عن السياسة، بقدر ما غرضه التنبيه إلى أن الأخلاق، قد تنتج سلوكاً فاضلا لكنها لا تنتج مدينة فاضلة أو دولة ناجحة، والورع الديني قد يحفز على صنوف التعاطف والتضامن بين الأفراد، لكنه لا يضمن السلم الأهلي ولا يحصن الهوية الوطنية.

يثير التعجب هو أن حزباً ينصب نفسه قيِّماً على السلم الأهلي يتفاخر بعديد مسلحيه وقوته التدميرية

ذكرت ذلك لأقول، أن تجنب الفتنة الداخلية أو الحؤول دون وقوع الحرب الأهلية، لا يتحقق من خلال معركة الأخيار ضد الأشرار وانتصارهم عليهم، أو غلبة الطيب على الخبيث،  أو الوطنيين على العملاء الخارجيين، أو المخلصين على الخونة.  فهذه كلها شعارات تعبوية وكلمات سابحة في الفراغ، لا قوام عقلي أو قانوني أو علمي لها، بل هي في تداولها الاستنسابي والتحريضي، لغة حرب ومنطق إلغاء، وذهنية إبادة مغلفة بدوافع أخلاقية ومسوغات دينية.

ما يثير التعجب، هو أن حزباً ينصب نفسه قيِّماً على السلم الأهلي، يتفاخر بعديد مسلحيه وقوته التدميرية، ويقدم نفسه ضمانة للعيش المشترك في لبنان.  يحذر الآخرين من المواجهة معه، ويخبرهم بأن نتائج المعركة مضمونة سلفاً لصالحه، يرشدهم إلى خياراتهم الخاطئة، يدلهم على زناة الهيكل وخونة الوطن، يعدهم بحملة تطهير لكل معكري ومهددي السلم الأهلي.

هو خطاب، سواء أكان أصحابه يدرون أو يدرون، متقوم بمنطق حرب ونزعة غلبة ولغة هيمنة، هو خطاب إما أو: إما سلم أهلي على شروطي أو لا سِلم، إما دولة على قياسي أو لا دولة، إما قضاء يتعامى عن تجاوزاتي وانتهاكاتي أو لا قضاء. أغرب ما في هذا الخطاب، إنه يواجه الفتنة بأدوات الفتنة، ويدعو إلى حفظ السلم الأهلي بنفير الحرب وأهازيجها.       

السابق
سيف لـ«جنوبية»: لا أزمة خبز.. والتعديل في الوزن لا السعر!
التالي
ترسيم الحدود على طاولة بعبدا.. والتدقيق المالي في حسابات مصرف لبنان يبدأ غداً!