إشتباك عين الرمانة: رابحون وخاسرون وضحايا لـ«الحرب الصغيرة»!

المآسي اللبنانية تتكرر

ليست منطقة عين الرمانة – الشياح وحدها التي انقسمت ليلة 14 اكتوبر. فالطابع الإعلامي والشعبي أمس بدا أكثر انقساماً وحدّة في التعامل مع الحَدَث الأمني – السياسي للمرة الأولى بهذا الحجم منذ 7 مايو عام 2008.

وعكستْ الصفحات الأولى لصحف بيروت ومانشيتاتها ومقدّمات نشرات الأخبار التلفزيونية وتغطياتها والضيوف السياسيون والاعلاميون وتغريدات اللبنانيين وصفحات التواصل الاجتماعي، أن البلد كاد يدخل مجدداً حرباً أهلية. لكن الحرب اليوم لم تكن طائفية بالمعنى الذي انطلقت منه شرارة الحرب عام 1975 مع بوسطة عين الرمانة.

فرغم أن الطابع الأولي يشير إلى أن ملامح الانقسام الطائفي كانت قوية بين فريق «أمل» (بزعامة الرئيس نبيه بري) و«حزب الله» الشيعي من جهة و«القوات اللبنانية» المسيحية من جهة ثانية، لكن جذوة المشكلة لم تكن طائفية بل هي تتعلق بالعمق في انفجار مرفأ بيروت، أي القضية التي ليست مسيحية ولا اسلامية، بل تعني الضحايا والمصابين والدمار الذي لحق ببيروت. وهي القضية التي يصرّ الثنائي الشيعي على تغيير المحقق العدلي فيها القاضي طارق بيطار.

تدابير الجيش كانت عملانية مسبقة ولكن النيات بافتعال المشكلة يبدو أنها كانت أكبر من أن يحتويها أي طرف عسكري!

بعد هدوء ميداني، واستعادة منطقة الطيونة – عين الرمانة بعض يومياتها على وقع أخبار الساعات الأخيرة، بدأت الروايات والسيناريوات تتوالى. فالجيش اللبناني أوقف عدداً من مطلقي النار من الفريقين، لكن النار السياسية أصابتْه بعدما وُجّهت إليه اتهاماتٌ من الثنائي الشيعي بأنه لم يقُم بالتدابير اللازمة من أجل منع وقوع إطلاق النار وسقوط الضحايا، وبأنه عدّل بيانه الرسمي في شأن ما حصل من أنه «خلال توجه محتجين الى منطقة العدلية تعرضوا لرشقات نارية في منطقة الطيونة – بدارو»، إلى أن الأحداث وقعت نتيجة «إشكال وتبادُل إطلاق نار»، وذلك «بعد ضغط أميركي على قيادته».

مصادر أمنية تبرر أن تدابير الجيش كانت عملانية مسبقة وكانت تحاول منْع أي توتر بين الفريقين كما حصل أكثر من مرة، لكن النيات بافتعال المشكلة يبدو أنها كانت أكبر من أن يحتويها أي طرف عسكري.

وقد بدأت التحقيقات الأمنية الاستخباراتية وخصوصاً أن القسم الأكبر من الموقوفين ينتمون الى فريق «القوات اللبنانية» التي لا تعترف بمسؤوليتها عن الحادثة وتؤكد أن أبناء المنطقة هم الذين دافعوا عنها وعن أنفسهم. علماً أن المعلومات الأمنية تتحدث عن وجود موقوفين لا ينتمون الى المنطقة بل جاؤوا من خارجها، وعن أن عدم توقيف عناصر أكثر من الفريق الآخَر هو حتى اللحظة بسبب كثافة أعداد المتظاهرين وسقوط قتلى والانشغال بالتشييع، وعدم السماح بمزيد من الاستفزازات قبل تهدئة النفوس.

وتلمح المعلومات الأمنية إلى أن ثمة تسرُّباً من المتظاهرين خارج الخط الذي كان معتمَداً للسير أو خروجاً من منطقة قصر العدل حيث كان مقرَّراً التظاهر تنديداً ببيطار، وأن الاعتداءت على السيارات والمارة في شارع خلفي أدى إلى إطلاق النار. وهذا لا يعني أن مطلقي النار لم يكونوا مستعدين. بل على العكس، واضح من طريقة الانتشار والتعبئة أن الأسطح والأبنية كانت مُعّدة لأي سيناريو أمني، والسيناريو يحتمل وجوهاً ونتائج عدة.

فالانقسام الذي حصل شعبياً عَكَسَ حجمَ الضغوط التي يعيشها اللبنانيون في ظل أزمة غير مسبوقة، وظلت كامنة في الأشهر الماضية، لكن «الحرب الصغيرة» التي اندلعت فجّرتْه ومعها صور الأطفال المحتجَزين في المدارس والعالقين على الطرق، ما انقلب شحناً حاداً بين المجموعات السكانية تجاه بعضهم البعض. والأكيد أن ذرات طائفية تجد دائماً مَن يستغلها لإشعال الحرب، فكيف الحال إذا كانت القوى السياسية حاسمةً أمرها في استغلال كل الضغوط الشعبية كي لا تنفجر في وجهها كما حصل في 17 اكتوبر 2019 بل لتنفجر تجاه الآخَرين من خصوم أو حتى حلفاء.

من هنا بدا سقوط ضحايا واعتقال حزبيين، أشبه بوقود الانتخابات والمشاحنات السياسية، أكثر منه معركة سياسية وعسكرية لها أبعاد وعناوين سياسية كبرى. فبالميزان الانتخابي خرجت حركة «امل» والقوات بالأمس منتصرتيْن من معركة قويةٍ بالمفهوم العسكري والأمني، وحساسة بالمعنى السياسي.

إقر أ أيضاً: بعدما كشفت قناة إسرائيلية عن دخوله لبنان.. حبيقة لـ«جنوبية»: لا يمكن تحديد جنسية الغاز!

فـ «أمل» التي سبق أن قامت قبل مدة باستعراض عسكري في الجنوب، فُهم أنه موجّه لحليفها حزب الله أكثر منه ضد اسرائيل، حاولت استعراض قوّتها لوحدها من دون الحزب في معركة القضاء وإقصاء بيطار التي تولاها حزب الله سياسياً، وحوّلتْها الحركة ورقةً شعبيةً تحاول معها قلْب الطاولة على كل مَن يحاول تحطيم صورتها قبل الانتخابات النيابية وجعْلها تخسر ولو مقعداً واحداً.

والخروج والدخول الى عين الرمانة على طريق المطالبة بإقالة بيطار، في ظل تَوَقُّع الجميع بأن أي زكزكة من هذا النوع ستؤدي إلى مشكلة أمنية، يمكن أن يعاود ضخ الحياة في شرايين «امل» وتعويمها.

لم يكن أحد يتوقّع أن تكبر المشكلة الأمنية إلى هذا الحد، وتكبر لائحة الضحايا والموقوفين، لكن الجميع يعرفون منذ ليل الاثنين على الأقل ان «القوات» مستعدة أمنياً في عين الرمانة.

لم تنسحب «امل»، بل هي حققتْ ربحاً صافياً في شارعها واستعادتْ جمهوراً كان يحاسبها أحياناً لاختيار شخصيات عليها علامات استفهام، لكنه بدا في معركة الخميس أقرب إليها من أي وقت. ولم تنسحب «القوات» كذلك، لأن كلاهما يستثمر في لعبة الشارعـ وهو ما ربحا به في شارعيهما.

«القوات» استعادت العَصَب المسيحي بقوة في وجه كل الأحزاب المسيحية الأخرى، بدءاً من «التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس ميشال عون) وظهرت وكأنها وحدها «أم الصبي» في معركة المرفأ ومواجهة حزب الله.

ولـ «القوات» حساباتها في لبنان والعالم العربي. حساباتها الخاصة انها حاولت استباق معركة تطويقها وإلصاق تهمة النيترات البقاعية بها وربْطها بالمرفأ، والضخ السياسي بما يشبه أيام اعتقال الدكتور سمير جعجع بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة، وهي وقفتْ في وجه الحزب الذي «اجتاح» بيروت عام 2008. وما لم يَقُم به تيار «المستقبل» قامتْ به «القوات» التي تصدّت لمَن يريد «غزو» عين الرمانة، وهذا تضعه في رصيدها مسيحياً في وجه الكتائب والتيار الحر قبل أشهر قليلة من الانتخابات. وهي حصدت في الساعات الأخيرة تفوقاً ملموساً في الشارع المسيحي.

ابرز الخاسرين هم: العهد والتيار الوطني الحر وحزب الله وكل واحد منهم تبدو خسارته نسبية قياساً إلى الأمر الواقع الذي فُرض مجدداً!

أما عربياً فـ «القوات» أصبحت مَن واجه «حزب الله» الذي يريد أن «يسيطر» على لبنان، وكل ذلك في ميزان دقيق تستثمره عربياً في ان تكون القوة الصاعدة في وجه مشروع «إحكام قبضة ايران».

لكن النتيجة التي خلص اليها الطرفان هي أن التهدئة السياسية لا علاقة لها بالخسائر الكثيرة التي وقعت، بشرياً وسياسياً، لأن هناك خاسرون، كما هناك رابحون. الخاسرون هم الذين احتُجزوا لساعات بين نيران طرفيْن سيجلسان جنباً الى جنب في المجلس النيابي على الأقل حتى الانتخابات المقبلة، وهم الذين استعادوا في ساعات قليلة سنوات الحرب الطويلة.

والخاسرون ايضاً هم قوى سياسية أساسية في لائحة طويلة، من العهد والتيار الوطني الحر وحزب الله، وكل واحد منهم تبدو خسارته نسبية قياساً إلى الأمر الواقع الذي فُرض مجدداً. وقد تكون قضية المرفأ على طريقها لتصبح ورقة مساومة، كي لا يقال خاسرة، على مذبح التهدئة الداخلية وسحب فتيل «الحرب».

السابق
أسرار الصحف ليوم السبت 16 تشرين الأول 2021
التالي
خلاف بين «حزب الله» و«الوطني الحر» حول تحقيقات المرفأ