«حزب الله» والبرلمان في لبنان..صعودٌ صاروخي لـ «ترسانة الصواريخ»!

بيئة "حزب الله"

يَتصَدَّر «حزب الله» المشهد السياسي اللبناني، وغالباً ما يتم التعاطي معه على أنه «الآمر الناهي» والناظم السياسي – الأمني والمُمْسِك بـ «الإمرة» الإستراتيجية، وهي توصيفاتٌ تستند إلى «فائض القوة» الذي يتمتع به الحزب نتيجة أمرين:

الأول علاقته العضوية بإيران كرأس حربة لمشروعها الإقليمي، والثاني رسوخه في البيئة الشيعية التي تشكل «درعه» الشعبي.

ومع العَدّ التنازلي للانتخابات النيابية المرجحة في مارس المقبل يزداد الحديث في بيروت عن دور «حزب الله» ومكانته في إدارة اللعبة بعدما نجح في «حياكة» قانون إنتخاب ضَمَنَ له الغالبية في برلمان 2018، وسط أسئلة عن إتجاهات المزاج الشعبي بعد إحتجاجات ما عرف بـ «إنتفاضة» 17 أكتوبر 2019 وبلوغ البلاد على مدى العامين الماضيين أعتى أزمة مالية – نقدية – إجتماعية في تاريخها.

وثمة اعتقادٌ ان التمثيل النيابي لـ «حزب الله» يبقى ثابتاً رغم التحولات التي قد تشهدها البيئات الأخرى. ويعزو خصومُه السبب إلى وهج سلاحه وفائض القوة التي يتمتع بها وإمكاناته «الإيرانية»، إضافة إلى ما حققه من خلال إمساكه بمفاصل السلطة في لبنان.

وقد يكون «حزب الله» من الأحزاب التي كانت أسرع من غيرها في ترْك تأثيرات مباشرة على الساحة السياسية في فترة زمنية قصيرة، والتحوّل لاعباً من الطراز الأول في بلاد متعددة الأحزاب ومنها ما هو عمره من عمر الإستقلال.

يملك قوة تجييرية لا تضاهى ويتقاسم مع حركة «أمل» المقاعد الشيعية في البرلمان

دخول «حزب الله» إلى المجلس النيابي عام 1992، كان حجر الزاوية في مساره التصاعدي، وأسس من خلاله لعمله السياسي الذي تطورت أشكاله وشخصياته تبعاً لظروف المرحلة والتجربة التي خاضها خلال ثلاثين عاماً من العمل السياسي. ففي 6 دورات إنتخابية تَدَرَّجَ عدد أعضاء كتلة «الوفاء للمقاومة» التي تضمّ حزبيين منتمين إلى الحزب وحلفاء، ليبلغ عددهم 12 عضواً في دورة 1992، 10 نواب في دورة 1996، 12 نائباً في دورة 2000، 14 نائباً في دورة 2005، و13 نائباً في دورتي 2009 و2018.

إقر أ أيضاً: «حزب الله» يُقسّم صُور «مولدات بسمنة ومولدات بزيت»..والبقاع غارق في عتمته!

وبعد انتهاء الحرب اللبنانية، بدأ تَحَوُّل الحزب، الذي كانت تطلق عليه صفة «المقاومة الإسلامية» واتُهم بأنه ذراع إيران وبتنفيذ عمليات ضد غربيين في لبنان، نحو العمل السياسي متلازماً مع النشاط المقاوم ضد إسرائيل. كان لا بد للحزب الصاعد في بيئةٍ تُمَثِّلُ فيها حركة «أمل» وريثة الإمام موسى الصدر، حضوراً طاغياً، مع صعود نجم الرئيس نبيه بري ولا سيما بعد وصوله إلى رئاسة البرلمان، أن يفرض شروط لعبته إنطلاقاً من توسع إنتشاره في البيئات الشعبية.

وقد خاض الحزب أولى تجاربه السياسية عام 1992 من خلال المجلس النيابي، بعدما كان ملتزماً عدم الدخول إلى قلب لعبة السلطة التنفيذية – كما أن العين الخارجية كانت وما زالت تمانع وجوده في قلب السلطة – فارتأى بدايةً تحقيق حضوره في العمل النيابي، وتثبيت واقعه الشعبي، (عبر الإنتخابات البلدية والإختيارية لاحقاً) قبل الدخول في مرحلة لاحقة إلى الحكومة.

فمع إنطلاق الإنتخابات بعد الطائف على المستوى التشريعي، وضع «حزب الله» نصب عينيه دخول البرلمان فكانت فاتحة النتائج التي حققها عام 1992، باثني عشر عضواً لتكرّ السبحة ويتحوّل الحزب تدريجاً قوة سياسية نيابية، ومن ثم وزارية فاعلة.

تَمَيَّزَ دخول «حزب الله» إلى البرلمان بسلسلة قواعد نموذجية:

أولها نسبة التزام القاعدة الحزبية بالتصويت الكامل للمرشحين، وهذا الأمر مرده الأساسي إلى حضور قيادة الحزب الفاعل في تفاصيل الإنتخابات، وتفاعُل الجمهور الحزبي الكامل مع التنظيم الصاعد في الحياة السياسية والعسكرية (المقاومة). ومع ان القوى الحزبية الأخرى كانت تطبّق كذلك تعليمات قيادتها، إلا ان خصوصية الالتزام لدى ناخبي الحزب بدت وكأنها أقرب إلى «التكليف الشرعي» بوجوب الإحترام الكامل لقرار القيادة الحزبية. وقد أظهرت التجربة التي خاضها لدورات عدة، حجم الانضباط في الماكينات الإنتخابية وفي عمل المندوبين وحشد الإمكانات والطاقات لتحقيق نسبة مشاركة حتى في ظل عدم وجود منافسة قوية كما كانت الحال في غالبية الأحيان في الجنوب.

وثاني القواعد النموذجية هي أن حزب الله فرض منذ الدورة الأولى قواعد داخل البيئة الشيعية مع حركة «أمل» التي مرت العلاقة معها باختلافات جذرية كادت أحياناً تتحول صراعات مسلحة على الأرض، نتج عنها لجانُ معالجاتٍ مستمرة إلى الآن. وهذه القواعد سمحت للحزب بأن يتقاسم و«أمل» مناطق نفوذ بين البقاع والجنوب، في الدرجة الأولى قبل مقاربة مناطق نفوذ ودوائر متفاوتة الحضور كما في قضائيْ بعبدا وجبيل وبيروت.

وثالثها أن الحزب إحترم في شكل نسبي وأحياناً كلي حضور العائلات ونفوذها من دون أن يكون أسيراً لها على مثال الزعامات السياسية، فكان يختار مرشحيه استناداً إلى قواعد متعددة المستويات بالتشاور مع القاعدة الحزبية والعائلية، لكن القرار كان دائماً منوطاً بالقيادة. وقد يكون النائب علي عمار واحداً من الأمثلة عن الحضور العائلي في الخيارات الحزبية. فهو سليل عائلة سياسية تقليدية، وابن شقيق النائب محمود عمار أحد أبرز الوجوه البرلمانية المرموقة في السابق والقريبة من الرئيس كميل شمعون. وعمار ما زال نائباً منذ عام 1992.

ورابعها هو التحول التدريجي في اختيار شخصيات نيابية، مع دخول أول نائب معمم من «حزب الله» هو السيد ابراهيم أمين السيد، إلى اختيار أمنيين كنواب، وصولاً إلى اختيار شخصيات تقدّم إلى المسرح السياسي وجوهاً متنوعة ثقافياً وعلمياً وخبرة حضور في المحافل الغربية.

وخامسها أن الحزب وإن حافظ على شخصيات نيابية تُعدّ من أركانه كرئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد ومحمد فنيش ونواف الموسوي وحسين الحاج حسن وعلي عمار وحسن فضل الله وعلي فياض، إلا أنه قدّم وجوهاً جديدة بعضها تَكَرَّرَ حضوره وبعضها استبدل وفقاً للتجربة النيابية، لكنه ظل أميناً لفكرة التنوع داخل الصف الواحد. علماً انه لم يقدم أي امرأة بعد إلى الإنتخابات النيابية.

من الطبيعي أن تشكل دائرتا بعلبك – الهرمل والجنوب الساحة الأساسية لوجود «حزب الله»، ولا سيما في البقاع الشمالي حيث حضور الحزب ظل طاغياً فيما تَقاسَمَ النفوذ مع حركة «أمل» في الجنوب. لكن ذلك لم يمنع الحزب من أن يسعى إلى حضور نيابي في دوائر مؤثّرة في دلالاتها، كبيروت ومن ثم في جبيل التي خاضها في إنتخابات عام 2018 وخسر فيها، وبعبدا.

يشكل «حزب الله» قوة إسناد لا يُستهان بها لحلفائه في الدوائر المختلطة

ومن هنا كان لكل دورة انتخابية خصوصيتها. فالدورات الأولى الثلاث جرت في ظل الوصاية السورية، والدورات الثلاث الأخيرات تمت بعد خروج الجيش السوري في مقابل تصاعد دور الحزب وإيران في لبنان بعد عام 2005. لكن من الصعب إلقاء اللوم على النفوذ الإيراني في فوز «حزب الله» وصعوده الصاروخي في بيئته. فالفوز الحقيقي للحزب يتمثل في الحصول على المقاعد الشيعية التي يريدها لتأكيد حضوره في وجه منافسين يراوحون بين إقطاعٍ قديمٍ وأحزاب يسارية ومجتمع مدني أخيراً لم يستطيعوا تحقيق خرق في التركيبة الحزبية النيابية. من دون القفز فوق ثابتة ان «حزب الله» هو حزب الأصوات التجييرية التي يصبّها لمصلحة حلفائه، وفي مقدمهم «التيار الوطني الحر» كما فعل في الدورات الإنتخابية منذ 2005، في قضائيْ بعبدا وعاليه وجبيل وجزين، حيث الأصوات الشيعية ممسوكة وتشكل القوة التجييرية. من هنا شكل فوز النائب الراحل مصطفى الحسيني عن المقعد الشيعي في دائرة جبيل في وجه مرشح «حزب الله» الشيخ حسين زعيتر مفارقة أساسية في مشهد الحزب في انتخابات عام 2018. علماً ان اختيار الأخير عُد حينها أحد الأخطاء الانتخابية الأساسية في معاركه، كونه من البقاع أي من خارج منطقة جبيل، حيث تطغى العائلية على الحزبية.

خاض «حزب الله» الانتخابات النيابية الأولى في لبنان بعد الحرب بقوة، لثلاث دورات في 1992 و1996 و2000، وفي هذه الدورات شكلت دائرة بعلبك – الهرمل حيث معقل انتشاره الأساسي في بداية إنطلاقة عمله السياسي، الخزانَ الرئيسي، حيث كان يشكل اللوائح على نحو شبه منفرد، ويقرر هوية الحلفاء من المسيحيين والسنّة. وهذه المقاربة في تشكيل اللوائح تختلف في الجنوب حيث جلسات التفاهم الطويلة مع حركة «أمل» كانت وما زالت المعبر الوحيد لتأليف اللوائح. وفي حين لم تكن انتخابات هذه الدورات تقوم على شعارات سياسية، فإن مرحلة عام 2005، شكلت منعطفاً في حياة القوى السياسية، وكرس «حزب الله» فوزه في انتخابات ذلك العام بعدما اختار «احتواء العاصفة» التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من خلال ما عُرف بالتحالف الرباعي، ليخوض انتخابات 2009 تحت شعار مواجهة قوى «14 مارس» والقرارات الدولية.

قد تكون إحدى المفارقات الأساسية في انتخابات عام 2018 التي أُجريت على أساس قانون مزيج من النسبي والأكثري، ان نائب «حزب الله» أمين شري الذي فُرضت عليه لاحقاً عقوبات أميركية، نال أكبر عدد من الأصوات التفضيلية في بيروت متفوقاً على زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري. وبيروت تمثل للحزب خصوصية، إذ ان حضوره فيها منذ عام 1992، شكل له موقعاً متقدماً في العاصمة، وهو نجح في فرض إيقاعه الذي خُرق عام 2009 في تفاهم الحريري مع الرئيس نبيه بري لمصلحة ترشيح حركة «أمل» النائب هاني قبيسي للمقعد الشيعي في بيروت، وهو نُقل إلى دائرة الجنوب الثالثة في إنتخابات عام 2018.

لم يَعُد «حزب الله» في البرلمان مجرد قوة انتخابية نيابية، فهو مُشارِك أساسي في اللجان النيابية وفي رئاستها وصانع قرار في تشريعاته، لكن قوته لا تتأتى من كونه قوة نيابية تمثل من ضمن «الثنائي الشيعي» 27 نائباً، لكن حجم حضوره النيابي كان المعبر إلى السلطة التنفيذية والحكومة والقرار المؤثّر، وخصوصاً بعد عام 2000 تاريخ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان وصولاً إلى حرب يوليو 2006. لكن الانتخابات هي الوجه «الشرعي» لحضور الحزب التصاعدي في ثلاثين عاماً، وقد أثبت أنه قادر من خلالها على أن يكون فاعلاً فيها. أما انتخابات 2022 التي من المحسوم أن «حزب الله» سيكرّس تمثيله النيابي والشعبي فيها، فإن الحزب يقف فيها أمام اختبار تجديد فوز حلفائه، والأبرز استحقاق رئاسة المجلس النيابي، وهو التحدي الأكبر للثنائي الشيعي في تكريس التفاهم حوله.

السابق
بعدسة «جنوبية»: «بيروت نظيفة»..بهِمة شبابها!
التالي
«إبر المورفين» لا تُسكن أوجاع «جهنم اللبنانيين»!