بايدن وأفغانستان والأسئلة المحرجة والملحة

مع سقوط العاصمة الأفغانية كابل يوم أمس الاحد، في أيدي قوات طالبان، التي سيطرت على جميع المدن الافغانية خلال أيام بسرعة مذهلة صعقت المسؤولين السياسيين والعسكريين والاستخباراتيين في واشنطن، رفع مقاتلو طالبان على مقر الرئاسة علم إمارة افغانستان الإسلامية، بعد موتها رسميا لعشرين سنة في أعقاب الغزو الأميركي في أكتوبر 2001 بعد شهر من هجمات سبتمبر الإرهابية.  

بعد ثلاثة أسابيع سوف يحي الأميركيون الذكرى العشرين لأكبر هجوم إرهابي تعرضت له الولايات المتحدة في تاريخها، ولكنهم لم يتوقعوا قبل سنوات أو حتى قبل أشهر أن يروا عودة طالبان منتصرة إلى العاصمة الأفغانية، وأعلامها ترفرف على المرافق الحكومية، بعد تنكيس العلم الأميركي عن إحدى أكبر السفارات في العالم. بين صيف 2001 وصيف 2021 عشرين سنة من الإخفاقات والغطرسة والأخطاء والخطايا والتهور  من سياسية وعسكرية التي ارتكبتها الولايات المتحدة خلال ولايات اربع رؤساء أميركيين وحلفائها المحليين والغربيين وأدت إلى مقتل وجرح مئات الآلاف من المدنيين والجنود الأفغان والعسكريين الغربيين.  

اقرا ايضا: «روبن هود الجنوبي» يسطو على كهرباء كل لبنان!

الحرب كلفت الخزينة الأميركية أكثر من ترليون دولار من بينها حوالي مئة مليار دولار أنفقت على تسليح وتدريب الجيش الأفغاني الذي تبخر قبل دخول مقاتلو طالبان لمعظم المدن الافغانية وآخرها كابل التي قطفوها دون قتال كثمرة ناضجة حان قطافها. كلفة الحرب في أفغانستان كما في العراق لم ولن تتوقف بعد وقف القتال والانسحاب، لأن دافع الضرائب الأميركي سوف يستمر في تمويل الكلفة الضخمة للعناية الطبية والنفسية لعشرات الآلاف من العسكريين الذين أصيبوا بجراح خطيرة جسدية أو نفسية تتطلب عناية فائقة وطويلة الأمد وخاصة أولئك الذين فقدوا مفاصلهم ويعتمدون على مفاصل اصطناعية. وهذا من بين ما يسمى بالكلفة الخفية لهذه الحروب. 

زرت أفغانستان مرة واحدة في 2010 مع فريق من الصحافيين الأميركيين حين رافقنا وزير الدفاع الاسبق روبرت غيتس في آخر زيارة له لتوديع الجنود وتوزيع بعض الميداليات للجنود الذين أظهروا شجاعة فائقة في معاركهم ضد قوات طالبان. زيارة غيتس جاءت في أعقاب قرار الرئيس الأسبق باراك أوباما زيادة عديد القوات الاميركية التي كان يقودها آنذاك الجنرال  ستانلي ماكريستال الذي أجريت معه مقابلة لشبكة العربية، في قاعة قريبة من غرفته المتواضعة في اعقاب سلسلة من المعارك أبرزها “عملية مشترك”  التي حررت مدينة مرجة في مقاطعة هيلمند من سيطرة طالبان التي كانت تستخدمها ايضا لتصدير المخدرات.

معركة مرجة كانت أكبر عملية عسكرية مشتركة للقوات الأفغانية والدولية في أفغانستان منذ بداية الغزو الاميركي، وشارك فيها 15 ألف عسكري من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا والدنمرك وأستونيا. أحد أهم الأهداف السياسية من معركة مرجة كان إبراز الدور العسكري للقوات الأفغانية، وقدرة الحكومة في كابل على إرساء الهياكل البيروقراطية المحلية لإدارة المدينة بعد تحريرها وضمان توفير الخدمات الاساسية فيها مثل الكهرباء والمياه، بعد توفير الأمن الداخلي عبر قوات الشرطة التي دربها الأميركيون. الجنرال ماكريستال والحكومة الأفغانية والقادة العسكريين للدول الحليفة أرادوا تحويل الانتصار في مرجة إلى “نموذج”  للنجاح العسكري والإداري لمثل هذه العمليات المشتركة يحتذى به في المدن الأخرى التي ستحرر في المستقبل. الجنرال ماكريستال تحدث عن إقامة “حكومة” فعّالة في مرجة بعد تحريرها. قائد القوات البريطانية المشاركة في المعركة قال إنها “ستكون بداية النهاية” لحركة طالبان.  

بدأ القتال في مرجة ومحيطها في فبراير 2010 وانتهى “رسميا” في ديسمبر 2010 بعد دحر قوات طالبان وطردها من المدينة. ولكن “الحكومة” التي تحدث عنها الجنرال ماكريستال كما الوعود الحكومية الأفغانية لم تتحقق بمعظمها ما أدى الى استئناف الاعمال العسكرية لقوات طالبان في محيط مرجة، وما دفع بالجنرال ماكريستال إلى وصفها “بنزيف القرحة”. بعد الانتصار الاولي واجه الجنرال ماكريستال وزملائه المعضلة المزمنة في أفغانستان والمتمثلة بإنتاج وبيع المخدرات وخاصة نبات الخشخاش Poppies الذي يستخدم في مخدر الأفيون والذي كان العصب الاقتصادي في مقاطعة هيلمند. هل نتلف حقول الخشخاش ونحرم  أكثر من 60 بالمئة من المزارعين المحليين من مصدر رزقهم؟ أم نتغاضى عن إنتاج وبيع المخدرات اذا اردنا كسب ود وتأييد السكان المحليين؟ الأمر الذي تلقاه العسكريون الأميركيون كان في عدم التعرض لاقتصاد الأفيون في المقاطعة.  

معركة مرجة وما تلاها، لخّصت المعضلة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي واجهتها الولايات المتحدة في افغانستان، والتي بقيت في جوهر استحالة الانتصار في مثل هذه الحرب. مرجة تحولت الى انتصار تكتيكي محدود، ولكنها لم تكن النموذج العسكري والسياسي المنشود ولذلك لم تتحول إلى بداية الانتصار الاستراتيجي ضد طالبان الذي توقعه أو تمناه قائد القوات البريطانية قبل المعركة. 

نشرت كتب عديدة عن حرب افغانستان، وكتب أكثر عن حرب العراق. كتب عن تجارب عسكرية وشخصية، مذكرات، او دراسات ميدانية، بعضها قيّمة ومفيدة، وبعضها تركز على خطوط أو ظلال او ألوان محدودة في لوحة كبيرة ومعقدة، وبعضها بكل بساطة لا يستحق القراءة. التاريخ الحقيقي لهاتين الحربين سوف يكتب في المستقبل وليس اليوم او غدا. المؤرخون يعيدون كتابة التاريخ باستمرار. كل سنة تصدر عشرات الكتب عن الحرب الأهلية الاميركية التي انتهت قبل أكثر من 150 سنة. ما يمكن قوله على خلفية ضجيج انهيار الصرح الهش الذي بنته الولايات المتحدة وحلفائها في افغانستان خلال عشرين سنة هو ملاحظات أو خواطر أولية.  

خلال الأيام الماضية، وخاصة يوم سقوط كابل في أيدي طالبان، تعرض الرئيس جوزف بايدن إلى انتقادات كثيرة، بعضها لاذع وشديد وخاصة من قبل السياسيين الجمهوريين (الذين أيدوا او لم يعترضوا على قرار الرئيس السابق ترامب تخفيض عديد القوات في أفغانستان، او توصله الى اتفاق سيء مع طالبان تعهد فيه بسحب القوات في مايو 2021) ومن قبل بعض العسكريين المتقاعدين الذين خدموا في أفغانستان. وحتى المعلقين الذين أيدوا قرار بايدن سحب القوات، انتقدوه بقوة لأن السلطات الحكومية لم تضع الخطط الطارئة التي تتحسب لكل المفاجآت الميدانية، ولأن المسؤولين في البيت الابيض ووزراتي الدفاع والخارجية وأجهزة الاستخبارات لم يتوقعوا الانهيار الكارثي لقوات الجيش الأفغاني، ولم يتوقعوا السرعة المذهلة لتقدم قوات طالبان.

هؤلاء تساءلوا لماذا أخفقت إدارة بايدن بسحب الرعايا الأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأميركية كمترجمين أو إداريين للهروب من عقاب طالبان قبل أشهر او حتى قبل أسابيع. كما تعرض بايدن للانتقاد لأنه تحدث بثقة غير مبررة عن قدرة القوات الحكومية على الصمود في وجه تقدم مقاتلي طالبان، كما رفض إمكانية حدوث سيناريو في كابل مماثل لسيناريو سقوط سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية) في 1975 والذي تعبر عنه صورة مؤثرة لمروحية أميركية فوق سطح السفارة مكتظة بالهاربين تستعد للإقلاع تاركة ورائها صفا طويلا من المدنيين المتروكين لمصيرهم.

يوم الأحد، شاهد الأميركيون صورا لمروحيات أميركية تقلع من مجمع السفارة الإميركية لإجلاء الديبلوماسيين وغيرهم من العاملين في السفارة الى المطار تمهيدا لنقلهم إلى الولايات المتحدة. الصور لسفارتين مختلفتين تفصل بينهما حوالي خمسين سنة، ومروحيات مختلفة، ولكن الصور تعبّر عن الهزيمة ذاتها. أسئلة كثيرة طرحها مشّرعون، وديبلوماسيون وعسكريون متقاعدون ومحللون سياسيون وعسكريون، وكلها لا تزال تبحث عن الأجوبة. 

وضع اللوم على الرئيس بايدن لوحده بسبب انهيار أفغانستان وسقوط كابول، مجحف مثل لوم الرئيس جيرالد فورد على سقوط سايغون، وهو الذي ورث حربا كان الانتصار فيها مستحيلا بسبب السياسات المتهورة التي اعتمدها أسلافه الرؤساء جون ف كينيدي وليندون جونسون وريتشارد نيكسون. سقوط كابل كان النتيجة الحتمية للسياسات المتغطرسة والمتهورة التي اعتمدها الرئيس جورج بوش الابن عندما عدّل من الأهداف الاولية لغزو افغانستان، أي معاقبة تنظيم القاعدة التي جلبت إرهابها الى داخل الولايات المتحدة ونظام طالبان الذي وفرّ لها الملجأ، إلى طموح إمبريالي وخيالي بإعادة بناء الدولة الأفغانية بتناقضاتها الاجتماعية والإثنية واللغوية واقتصادها البدائي،  بعد عقود من الاقتتال الداخلي. أيضا التهور التاريخي الذي ارتكبه بوش الابن، كان في غزوه للعراق، وزجه للبلاد في حرب ثانية في دولة تصعب السيطرة عليها كما أفغانستان. 

 كما أن سقوط كابول هو جزئيا من مسؤولية الرئيس أوباما الذي ورث الحرب من بوش ولم ينجح خلال ثماني سنوات في إنهائها بعد زيادة ثم تخفيض عديد القوات الأميركية . تردد أوباما دفعه لتمديد أجل الحرب لثمانية أعوام، كان خلالها نائبه بايدن يحثه على إنهاء الحرب . سقوط كابل هو أيضا من مسؤولية الرئيس ترامب، الذي كان يتحدث دائما عن رغبته بإنهاء “الحروب التي لا نهاية لها” مثل أفغانستان، ولكنه لم يكن يتمتع بالصبر أو بالبصيرة لتحقيق هدفه، وانتهى بتوقيع اتفاق سياسي رديء مع حركة طالبان تعهد فيه بسحب القوات مع حلول مايو 2021، دون أن يشترط ذلك بتوصل طالبان والحكومة الأفغانية إلى اتفاق سلام أو حتى تسوية لمرحلة انتقالية. وقبل نهاية ولايته أمر ترامب بتخفيض عديد القوات الأميركية الى 2500 عنصر. وخلال فترة سريان هذا الاتفاق توقفت الاشتباكات بين القوات الاميركية ومقاتلي طالبان، الأمر الذي سمح لهذه القوات بإعادة تنظيم صفوفها دون خوف من ضربات الطيران الحربي الأميركي، الأمر الذي يفسر جزئيا على الأقل، أداءها الميداني خلال الأسابيع الاخيرة. 

الإجراءات التي اتخذها بايدن، مثل تحديد موعد الانسحاب النهائي للقوات الاميركية مع حلول الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر، ثم تغيير الموعد إلى نهاية الشهر الجاري، وسحب الطيران الأميركي من قاعدة باغرام، قبل سحب الرعايا الأميركيين او آلاف الأفغان الذين عملوا مع القوات الاميركية وأرادوا اللجوء إلى الولايات المتحدة، ساهمت في انهيار الجيش الأفغاني. وربما الأهم هو الإجراءات التي لم يتخذها بايدن، والتي عجلت في سقوط كابل مثل الإخفاق في التوصل إلى اتفاقات مع دولة أو دول مجاورة لنشر قوات جوية اميركية لاستخدامها في افغانستان ضد أي عودة ممكنة لعناصر تنظيم القاعدة، او للرد على أي إجراءات سافرة تتخذها طالبان.  

خلال الأيام الماضية كان أداء الرئيس بايدن وغيره من المسؤولين مثل وزير الخارجية  نطوني بلينكن محرجا ودفاعيا ومؤلما للعديد من مؤيدي بايدن، لأنه بدلا من تحمل مسؤولية إجراءاته وقراراته، حاول وضع اللوم على سلفه ترامب، وكأنه لم يكن مسؤولا عن قرار الانسحاب أو توقيته او ما أحاط به من إخفاقات.

الرئيس بايدن ومساعديه راهنوا على تأييد أكثرية الأميركيين للانسحاب من أفغانستان لوقايته من أي انتقادات جمهورية. وربما سينسى معظم الأميركيين صور انهيار أفغانستان في الأيام القليلة الماضية مع مرور الزمن، ولكن مواقف الأميركيين قد تتغير إذا لجأت طالبان إلى أعمال قتل جماعي أو انتهاكات مروعة لحقوق الأفغانيين وخاصة البنات والنساء، أو وهذا ما يعتبر أكبر خطر على سمعة ومكانة بايدن، إذا سمحت طالبان لتنظيم القاعدة بإعادة بناء قواعده في إمارة افغانستان الإسلامية.  

 خلال الأيام المقبلة سوف يواجه الرئيس بايدن الأمة  في خطاب متلفز، كما قالت مصادر في البيت الأبيض. الطريقة الوحيدة لكي يستعيد فيها بايدن بعض ما فقده من مكانة وسمعة في الأيام الماضية، هو في مصارحة الاميركيين بشأن هفواته الاخيرة والإجابة على الاسئلة المحرجة والملحة، وإذا تحمّل بشجاعة مسؤولية وتبعات قراراته.  

السابق
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الثلاثاء في 17 آب 2021
التالي
الترقب والحزن سيد الموقف: أهالي ضحايا انفجار عكار يدفنون أبناءهم.. وينتظرون التحقيق