العلامة الراحل الأمين في لقاء مع الأديب تاجا: الفكر الإسلامي يقرّ بحق الاختلاف

السيد محمد حسن الامين
نشر الأديب والكاتب السوري وحيد تاجا لقاءا كان قد أجراه مع العلامة الراحل محمد حسن الأمين، ونشر في كتابه "الخطاب الإسلامي المعاصر" الذي تمّ نشره مطلع الألفية الثالثة عام 2000.

اكد سماحة السيد محمد حسن الامين أنّ التجديد في الفكر الإسلامي يطال الفكر، وليس الدين نفسه، أي القراءة التي تحاول أن تستلهم النص الديني في ثوابته الأساسية، ولكن في الوقت نفسه أن تضفي على هذه القراءة روح العصر التي تتم فيه هذه القراءة، وبالتالي يصبح لكل عصر، ولكل مرحلة سماتها المميزة لقراءة النص الإسلامي. واشار سماحته إنّ ثبات النص لا يعني ثبات قراءة هذا النص، أي إنّ هذا النص الذي يكون ثابتاً ومقدساً لا تكون قراءته ثابتة ومقدسة، مؤكدا في الوقت نفسه انه لا يمكن أن نفصل موضوع الاجتهاد عن موضوع التجديد. مشيرا انه لا يمكن حصر الاجتهاد في مجال واحد من المجالات، فالاجتهاد مبدأ فكما أن الاجتهاد ممكن عندما نقرأ النص القرأني ، فانه هذا الأمر ينسحب كذلك على النص النبوي الشريف.

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الامين (2):الحرية الفكرية أطلقها الإسلام وقيّدها الحكام‏


والمعروف ان سماحة العلامة السيد محمد حسن الأمين، من الشخصيات الإسلامية البارزة على الساحة اللبنانية والإسلامية، ولد عام 1946 في جنوب لبنان في بلدة شقراء، ومن أسرة دينية، تلقى الدروس في مدرسة شقراء حتى نهاية المرحلة المتوسطة، حيث سافر إلى النجف الأشرف بالعراق لتلقي العلوم الدينية وذلك عام1960 وقضى في النجف الأشرف 12 عاماً، وعاد عام 1972 بعد تلقي العلوم المقررة في جامعتها وفي كلية الفقه.بعد عودته إلى لبنان، تولى وظيفة القضاء الشرعي في مدينة صور ثم في مدينة صيدا، ويتولى الآن مقام المستشار القضائي في محكمة الاستئناف العليا في بيروت


ـ معروف أنكم من دعاة التجديد في الفكر الإسلامي، فما المقصود بالتجديد؟

إذا جاز لنا أن نتكلم عن التجديد في الفكر الإسلامي، وهو شأن يصح الكلام فيه، فمن الواضح أنّ التجديد هنا يطال الفكر، وليس الدين نفسه، لأن الدين كما هو مرتكز في أذهاننا جميعاً ثابت في عناصره الأساسية والجوهرية، وفي نصوصه الثابتة، وبالتالي فإنّ التجديد لا يمكن أن يطال القيم الأساسية والمبدأية والثابتة للدين، وإنما يطال الجوانب القابلة للتغيير والتطور، وأبرز ما يمكن أن يكون ميداناً للتجديد هو قراءة النصوص الإسلامية، وقراءة المفاهيم الإسلامية التي تتغير من مرحلة إلى مرحلة، ومن عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع، على نحو يكون التجديد فيه هو القراءة التي تحاول أن تستلهم النص الديني في ثوابته الأساسية، ولكن في الوقت نفسه أن تضفي على هذه القراءة روح العصر التي تتم فيه هذه القراءة، وبالتالي يصبح لكل عصر، ولكل مرحلة سماتها المميزة لقراءة النص الإسلامي، وهذا أمر طبيعي.

التجديد  يطال الفكر وليس الدين نفسه لأن الدين  ثابت في عناصره الأساسية والجوهرية


لماذا؟

نحن نعرف أنّ القرآن الكريم، وهو النص المنزل في الإسلام، لم ينزل وفق العقيدة الإسلامية ليخاطب المسلمين الأوائل الذين عاشوا في عصر نزول النص فحسب، إنما نزل ليخاطب ذلك العصر، وما يليه من عصورحتى آخر الزمان، وإذا صحّ هذا التعبير فهذا يفترض بالضرورة ألاّ تُستنفد قراءة القرآن في عصر واحد، وأن تكون هذه القراءة ممكنة في العصور كلها، وهذا يعني أنّ الفكر الإسلامي هو فكر متغير، وإن كان النص الإسلامي نصاً ثابتاً.

ما المقصود تحديداً بالفكر الإسلامي؟

كل ما ينتجه الفكر انطلاقاً من العقيدة الإسلامية هو فكر إسلامي بطبيعة الحال، بمعنى المسلم الذي يؤمن بالإسلام عقيدة، ويفكّر وينتج نصوصاً ذات علاقة بالفقه، أوالحديث، أوالتفسير، أوبالفلسفة، أوبالاجتماع الإسلامي، أوفي القانون، أوفي أي مجال من المجالات. إذن هو يعمل في نطاق فكر إسلامي، وفي إطار رؤية إسلامية. هذا ما أعني به عندما أقول: الفكر الإسلامي. أما المقصود بالنص الإسلامي فهو النص القرآني، والنص الثابت صدوره عن الرسول . فهذه النصوص التي تتسم بعنصر الثبات من حيث النص، ولكنها تخضع للفهم المختلف أوالمتغير من حيث معناها، ومن حيث انطباقها على الأحداث، أومن حيث انطباقها على الرؤية التي نراها نحن.ويمكن أن ألخّص فـأقول: إنّ ثبات النص لا يعني ثبات قراءة هذا النص، أي إنّ هذا النص الذي يكون ثابتاً ومقدساً لا تكون قراءته ثابتة ومقدسة، فالجيل الأول من المسلمين عالج النصوص القرآنية ونصوص السنة النبوية،ضمن نمط معرفي مشتق من عصره، وبالتالي استطاع أن ينسج أدبيات حول هذا النص كانت معبّرة عن النص من جهة، وعن عصر النص من جهة أخرى. وهكذا فإنّ عصرنا يمكن أن ينسج حول هذه النصوص مفاهيم معبّرة عن النص وعن عصرنا نحن، والتجديد يقع في هذا الإطار.


هل ينسحب هذا الكلام على تجديد الفقه، أوتجديد أصول الفقه؟

لا شك في أنّه ينسحب على المعارف الإسلامية كلها، ومنها الفقه الإسلامي، وحتى أصول الفقه، لأنّ كلمة الفقه في اللغة العربية تعني الفهم، والفقه هو غير الشريعة، فالشريعة هي الأحكام المنزلة، والفقه هو فهم هذه الأحكام، ومن الطبيعي أن يكون الفقه موضوعاً من موضوعات التجديد، وكذلك أصول الفقه، لأنّ هذه الأصول لا علاقة لها بالنص، بصورة مباشرة، أوبالشريعة بصورة مباشرة، وإنما هي القواعد العقلية التي وضعها الفقهاء لتكون وسيلة من وسائل فهم النص الشرعي، أواستنباط الحكم الشرعي في مجال الاجتهاد.إذاً من حيث المبدأ فإنّ التجديد في هذين يشكلان مجالاً واسعاً بطبيعة الحال، ويجب أن تشهد هذه الحقول عمليات إعادة نظر، وعمليات إضافات، وعملية تجديد مستمر بدون توقف.

الرسول قام بتنظيم السلطة وفق متطلبات عصره بما يعني أنه اقترح المبادئ العامة في السلطة ولم يطرح شكلاً نهائياً للسلطة


هل يمكن القول: إنّ التجديد هو الاجتهاد؟

لا يمكن أن نفصل موضوع الاجتهاد عن موضوع التجديد. نعم من حيث المعطيات العادية لمفهوم الاجتهاد يمكن للبعض القول: إنّ الفقيه المعاصر بإمكانه أن يعتمد على القواعد والمصطلحات الفقهية التي كانت سائدة في بدايات القرن الرابع الهجري، ولكني أجيب على هذا القول بأنّ هذا شبه مستحيل، لأنّ الاجتهاد يتضمن معرفة بالمناهج، وبالقواعد التي تمّ انتاجها طوال هذه الفترة، أي منذ بدأت محاولات الاجتهاد إلى اليوم. فهذه لا بدّ من استعراضها، ولا بدّ من تمثّلها جميعاً لكي يشعر المجتهد بأنّه استطاع أن يتعرّف على أقوال الفقهاء، وعلى مناهجهم وطرائقهم، وبالتالي استطاع هو أن يقتنع بمنهج معيّن، أوبطريقة معيّنة، أوأن يبتكر منهجاً أوطريقة معيّنة، وبالتالي يوجد هناك مجتهدون محافظون إن صحّ التعبير، كما يوجد مجتهدون مجددون. وأنا أميل إلى القول بأنّ المجتهد لا بدّ بالضرورة أن يكون مجدداً بصورة أوبأخرى، وحتى المجتهدون المحافظون لا أعتقد أنهم محافظون بالمعنى الذي يجعل شخصيتهم غير مستقلة اطلاقاً؛ إذ لو كانوا كذلك لما كانوا مجتهدين، وكان يمكن أن يكونوا مقلدين للسلف. أما أنهم اجتهدوا فلا بدّ أن يكون لديهم إضافات معيّنة مكّنتهم من الاجتهاد، ولكن هذا لا يعني أن تكون سمة بعض أنواع الاجتهاد هي المحافظة، وسمة بعضها الآخر هي سمة التجديد، وهذا التجديد تاريخياً في تاريخ الفقه، وفي تاريخ المعرفة الإسلامية، نلاحظ أنّه في كل مفصل من المفاصل توجد حركة اجتهادية ذات طابع تجديدي وثوري، وتوجد بعد ذلك حالة من التقليد لهذه الثورة الاجتهادية ما تلبث أن تنتهي بقيام ثورة جديدة في الاجتهاد، وهذه سنّة الفكر الإنساني، وسنّة المعرفة البشرية التي تنطبق على حقول المعرفة جميعها، ومن حقول المعرفة هذه الفكر الإسلامي، لأنه في النهاية مظهر من مظاهر المعرفة الخاضعة للتغيير والتجديد خلافاً للنص الإسلامي الذي هو نص ثابت.


ما هو منهجكم في التجديد؟

نحن نرى أنّ اللغة العربية التي هي المادة الأساسية للتعامل مع النص الفقهي، ومع النص المعرفي تعد موضوعاً أساسياً، لتكوين منهج الاجتهاد، ولقراءة النصوص الفقهية وغير الفقهية أيضاً، وإذا كانت اللغة هي كائناً متطوراً باستمرار، وكائناً يختزن المعرفة البشرية، فهذا يعني أنّ أي منهج يتناول المعرفة الإسلامية، أوالموقف الإسلامي، أوالفكر الإسلامي في المجال الفقهي، أوفي المجال الفلسفي، أوفي أي مجال من المجالات الأخرى، لا بد أن ينطلق من هذه العلاقة مع اللغةالعربية، ومع حساسية هذه اللغة العربية، مستنداً إلى التراكم الحاصل بعد المراحل الزمنية في القراءات وأشكال الاجتهاد التي مارسها العلماء المسلمون بحيث يكون الفقيه متوفراً على معرفة هذه المناهج، وبالتالي قادراً على المقارنة فيما بينها، وعلى البحث عن التغيرات التي مازالت قائمة فيها، وأن يكون في الوقت ذاته متوفراً على علوم العصر، ومفاهيمه وحساسيته المعرفية، بحيث يتمكن من بناء منهج يتكامل فيه عنصر معرفة التراث من جهة، ومعرفة المعاصرة، أوالتوفر على المعاصرة في جهة أخرى، لتقديم رؤية أوموقف، أولتقديم رؤية معرفية يمكن وصفها بأنّها مبتكرة أوأصلية أوجديدة، لنسمِّها أصيلة أكثر مما نسميها جديدة، لأننا قد نختلف على موضوع الجديد وما هو الجديد، ولكن عندما نقول رؤية أصيلة، لا بدّ أن تتوفر لهذه الرؤية ــ كما أسلفت ــ معرفة اللغة العربية معرفة دقيقة، ومعرفة التراث، ومعرفة العصر، والإلمام بقضايا العصر وبحساسيته المعرفية، لأنّه لا يمكن بناء منهجية للتجديد بدون التوفر على هذه العناصر.

هل يمكن إعطاء مثالٍ على هذه الرؤية؟

إذا أردنا إعطاء مثال نقول: إنّ عصرنا أكثر من أي عصر مضى استطاع أن يتوصل إلى ما نسميه بـ “حقوق الإنسان”، ومن هذه الحقوق حق مشهور اسمه “حق الاختلاف”، أي أنّ من حق البشر أن يكونوا مختلفين، و”حقّ الاختلاف” الذي يتداوله المسلمون الآن، كما يتداوله كل أصحاب المعرفة والمفكرون. لو أردنا أن نبحث عن هذا المفهوم في فكر الفقهاء المسلمين والفلاسفة المسلمين السابقين لرأيناه موجوداً فعلاً، ولكن لم يصل إلى الدرجة التي يتم فيها صياغة مفهوم اسمه مفهوم “حق الاختلاف”، ولكن عصرنا استطاع أن يصل إلى هذا المفهوم. المصادر التي وصل بوساطتها عصرنا إلى مفهوم »حق الاختلاف« متعددة، منها مصادر فلسفية، جاءت من عصر التنوير الغربي، ومصادر ثقافية واجتماعية، ومصادر سياسية فيما يسمى بالديمقراطية، والتي تتضمن اعترافاً بالاختلاف داخل المجتمع، وإقراراً بّحق الاختلافپ. المسلم عندما يتكلم عن “حق الاختلاف” بطبيعة الحال لا يمكن أن يأتي بنص من نصوص السلف الصالح يدافع فيه عن »حق الاختلاف«پ، أوينفي فيه هذا الحق، كما يجري فيه التداول في عصرنا، لأن عصرنا أخذ هذا المفهوم من مصادر لم تكن موجودة في العصور الماضية، وبالتالي المسلم مطالب أن يكون له حضور في مفهوم كمفهوم “حق الاختلاف”، والآن كيف يصوغ المسلم رؤيته الإسلامية حول »حق الاختلاف«؟ هل يصوغها من أقوال الفقهاء المسلمين فقط، دون النظر إلى الظروف التي أحاطت بهذا المفهوم عبر عصرنا الراهن؟ طبعاً لا يستطيع أن يفعل ذلك. إذاً لا بدّ من أن يقرأ ذلك المفهوم في ظل المعاصرة، وفي ظل طبيعة المعاصرة، لكي يستطيع أن ينتج في النهاية فكراً إسلامياً قائماً على فهم هذا الاتجاه المعاصر، وربطه مع بعض الاتجاهات الفقهية والفلسفية التي تشي بها النصوص الإسلامية، أونصوص الفقهاء والفلاسفة والمفكرين المسلمين لكي يستطيع أن ينتج فكراً له صفة الإسلامية من جهة، وله صفة المعاصرة من جهة أخرى.


إذا بقينا ضمن الأجواء نفسها، فإنّ “حق الاختلاف” بلغة العصر هو الديمقراطية والتعددية. كيف تنظرون إلى ذلك؟

إنّ الاختلاف هو حقيقة لا مجال لنكرانها، وقد أشار النص القرآني بالذات إشارة بالغة الدقة والوضوح لطبيعة الاختلاف القائمة بين البشر، ولرعايته لهذه الطبيعة انطلاقاً من قوله تعالى: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود:711 ــ 811] .ويرى بعض المفسرين أنه للاختلاف خلقهم، ونحن لا نستطيع أن نفهم القيمة العليا للإنسان فهماً حقيقياً، وأن نعطي له ما يستحق من هذه القيمة إلا إذا أدركنا قدرة هذا الإنسان على أن يكون له سماته المختلفة عن الآخر، وفكره المختلف عن الآخر، الناس يختلفون عن بعضهم، والإنسان هو الكائن الأسمى بين الموجودات، إذن هو يختلف عن الكائنات الأخرى التي تكاد تكون نسخاً متكررة بعضها عن بعض. أما الإنسان فلا يوجد منه نسختين متكررتين، فهو بتكوينه يحمل بذور الاختلاف، وبهذا المعنى يصبح من حق الإنسان أن يكون له رؤيته المختلفة أيضاً، وهذا التنوع في الفكر الإنساني هو مصدر الغنى، ومصدر السمو والرقي عند الإنسان، ولكن لا بدّ أن تكون هناك قواعد لرعاية هذا الاختلاف، أي ليكون ضمن الوحدة، إذ يغني هذه الوحدة. هذا الكلام بصيغة عامة، فإذا حاولنا أن ننتقل من هذه المبادئ العامة إلى الفكر السياسي نقول: لا بدّ أن يكون هناك داخل المجتمع الواحد والأمة الواحدة مظاهر الاختلاف، ولكن هل هي مظاهر الصراع والانقسام والتجزئة؟ لا. نحن نقول: إن مظاهر الاختلاف هي مما يساعد على بناء الوحدة التي يدعو إليها المجتمع الإسلامي، وبالتالي نقول: إنّ الوحدة التي هي شأن مقدس في الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي تقوم على الاعتراف بالاختلاف، وعلى الاعتراف بالآخر، أوبالكائن المختلف في داخل المجتمع الواحد والأمة الواحدة، كما إنه من الطبيعي أن يكون الاختلاف قائم بين الشعوب والأمم وفقاً لقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)الحجرات:31[.مع فارق أساسي أنّ الفكر الإسلامي الذي يقرر حقيقة الاختلاف كظاهرة بشرية هو فكر يدعو لحوار المختلف، وتعارف المختلف، لأن التعبير عن التعارف هنا هو من أجمل وأقوى التعابير عن الحوار. هذا التعبير الوارد في القرآن الكريم (لتعارفوا) أي لتحاوروا بما يغني.إنّ الاختلاف هو من أجل الحوار، وبالتالي فالحوار مظهر من مظاهر الحيوية البشرية الإنسانية، التي تنتهي إلى الوحدة الإنسانية، الوحدة داخل المجتمع الواحد، والوحدة داخل مجموعة مجتمعات، لكنها لا تنهي هذا التنوع والتعدد في إطار هذه الوحدة الشاملة.

من الأمور المطروحة على الساحة مسألة الاجتهاد في الحديث النبوي الشريف، فهناك من يرى أنّ المرجعية الأساسية هي القرآن الكريم. ما رأيكم بهذه المسألة؟وما مدى الاجتهاد في الحديث النبوي؟ وما حدوده؟

لا يمكن أن نحصر الاجتهاد في مجال واحد من المجالات، فالاجتهاد مبدأ، وعندما يوجد فإنه يوجد في كل المجالات، فكما أن الاجتهاد ممكن عندما نقرأ النص القرأني فنقرأه ونستوحي منه، ونخرج بحصيلة معرفية، قد تكون غير مطابقة لنظر البعض بالنص تماماً، وهذا الأمر ينسحب كذلك على النص النبوي الشريف، فالحديث النبوي الشريف مادة من المواد التي تشكل موضوعاً من موضوعات القراءة الفقهية، والقراءة الإسلامية، وبالتالي فهو موضوع من موضوعات الاجتهاد. صحيح أنّ البعض يرى أنّ الاعتماد على النص القرآني يجب أن يكون أساسياً، ومقدماً على ما سواه، وقد يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فيقول إنه علينا بالقرآن، وما لنا بالأحاديث، لأنها غير قطعية الورود والثبوت. أن يذهب البعض إلى ضرورة التركيز على القرآن بدرجة أساسية، وعدم التركيز بالدرجة نفسها على الحديث النبوي الشريف لاعتبارات عديدة، نحن نقول: نعم، ونوافق على أنّ الأولوية للنص القرآني، أي ما وجدناه في القرآن نأخذه، ولكن إذا لم نجد في الآيات القرآنية أية ظاهرة واضحة في هذا الحكم فمن الطبيعي عندها أن نبحث في السنة النبوية، انطلاقاً من قول القرآن نفسه (وما آتاكم الرسول فخذوه)الحشر:7. فلا بدّ من اعتبار أنّ سيرة الرسول وسنته هي تطبيق للنص القرآني، أوتطبيق للآوامر الإلهية، وبالتالي اكتسبت صفة المصدر، ولا بدّ أن نعتبرها مصدراً. نعم في التعامل مع السيرة النبوية لا بدّ لنا من منهج يختلف عن التعامل مع النص القرآني، ذلك أنّ في السنة أحياناً أي في كلام الرسول  أوفي فعله ما يوحي أنه كلام أوفعل أوتقرير له علاقة بشخصية الرسول كقائد في عصر معيّن، وفي حدث معيّن، وأنّ ما قاله هنا ينطبق على عصره، بمعنى أنه كان تدبيراً خاصاً، له صلة بظروفه عليه السلام. وأحياناً يصدر عن النبي قول أوفعل يكون أوسع في مساحة عصره، ويمكن تطبيقه على العصور كافة، أي يصدر عنه بما هو نبي، وليس بما هو رئيس دولة. مثلاً: الرسول أقام مايشبه سلطة أوما يشبه شكلاً من أشكال السلطة في المدينة. فهل هذا الشكل ملزم للمسلمين اليوم؟ لا أعتقد هذا. إنّ الرسول قام بتنظيم السلطة وفق متطلبات وحاجات عصره،بما يعني أنه اقترح المبادئ العامة في السلطة، ولم يطرح شكلاً نهائياً للسلطة، لأن هذا الشكل يجب أن يكون متغيراً بتغير الظروف والعادات، ومن هنا يمكن التمييز بين سنّة الرسول  والنص القرآني الذي يخاطب البشر في كل العصور بالرغم من وجود خطاب في النص القرأني موجّه أحياناً للمسلمين في ذلك العصر، وهذا واضح ولا مجال للاختلاف فيه.


يُلاحظ في العقدين الأخيرين تزايد الاهتمام بالمسألة الثقافية الإسلامية؟

هذا صحيح، وهي ظاهرة صحية وسليمة، ففي هذا العصر يشعر المسلمون أكثر من أي وقت مضى بضرورة التعبير عن هويتهم الإسلامية، فالمسلمون الذين أطلقوا ما نسميه بـ “الصحوة الإسلامية” في عصرنا الراهن يشعرون بأنهم لا يمكن أن ينجزوا هذه الصحوة بالصورة التي تطلبها منهم العقيدة وتفرضها تحديات الحياة إلا بالتجديد والاجتهاد، إذ لا يمكن أن ينجزوها بالشكل الذي يجعلهم مجرد مقلدين للأجيال الإسلامية السابقة التي أنتجت رؤيتها للإسلام في ظروف مختلفة عن الظروف التي ننتج فيها رؤيتنا للإسلام.

من هنا نلاحظ أنّ هاجس التجديد في الفكر الإسلامي هو هاجس أساسي لدى كثير من المفكرين الإسلاميين الذين يساهمون في إنتاج الصحوة الإسلامية الجديدة، إذ إنهم يصرون على أن ينتجوا هوية لها ملامح مختلفة عن الهوية التي كانت في العصور السابقة، ومن هنا نلاحظ محاولة التجديد القائمة والصراع حول مناهج التفكير الإسلامية التي قد يرى بعضهم أنها مناهج متطرفة أومناهج منحرفة.ومن وجهة نظري الشخصية أرى أنه لا يوجد خطر في الحرية المطلقة في إنتاج رؤية إسلامية، وإن وُجد بعض الخطر فهو حتماً أقل بكثير من الخطر المتأتي من إغلاق باب التفكير، ومن محاصرة حرية التفكير الإسلامي، وإذا أردت أن أستطرد، أقول: مثلاً إن كاتباً مثل نصر حامد أبو زيد، الكاتب المصري المعروف، عندما ينتهي إلى بعض النتائج بشأن قراءة النص القرآني قد أختلف معه فيها، ولكنني لا أستطيع منعه من هذا التفكير، لأنه إذا مُنع أوإذا وضعت حدود للتفكير الإسلامي فسوف نخسر إمكانات ضخمة وكبيرة.إنّ مزيداً من الحرية في مقاربة المفاهيم والأفكار الهامة والمركزية للهوية الإسلامية هو مزيد من انتعاش هذه الصحوة الإسلامية، ومن مدّها بأسباب الحياة الحقيقية، ولا خوف من حرية الفكر، فمساوئ الحرية نعالجها بقواعد الحرية نفسها. أما الاستبداد الفكري فإنّ مساوئه لا يمكن معالجتها على الإطلاق، وربما كنّا نحن المسلمين ضحايا الاستبداد الفكري، فكيف نواجه أونقف في وجه حرية الفكر لمجرد أننا نخاف من بعض الاستعمال السيء لهذه الحرية في الوقت الذي تكون فيه هذه الحرية مصدراً من مصادر كشف آفاق لا حدود لرحابتها وأهميتها في تكوين الصحوة الإسلامية .

السابق
بالفيديو: غضب أمام «المعلومات» في الأشرفية.. ويليام نون: دماء أخي لن تذهب هدرا!
التالي
قوة الاشقاء العرب في لبنان.. «العين الثالثة»!