العلامة الراحل محمد حسن الأمين في حديث شامل مع «صوت الشعب»: سلطة الإسلام السياسي فشلت!

السيد محمد حسن الامين
تميّز العلامة الراحل السيد محمد حسن الأمين، بأنه داعية حوار حضاري من الطراز الأول. وفي 9 نيسان الماضي 2021، أعادت إذاعة "صوت الشعب"، حواراً لسماحته مع الإعلامي عماد خليل، حيث تم هذا الحوار في حلقة من حلقات برنامج "إشكاليات"، الذي أعاد هذه الحلقة: "تكريماً لسيرة المفكر العربي والإسلامي السيد محمد حسن الأمين، تحمل عنوان: "حدود السلطة في التاريخ العربي والإسلامي".

ولا بديل عن الحوار. أسدل ستار الحياة، ليستمر رؤية فكرية، في كتاب المعرفة، فالتحية إلى روحه.
اليوم، تبث إذاعة “صوت الشعب”، هذه الحلقة التي، تمت مع الراحل السيد محمد حسن الأمين، في 1/8/2018، تقديراً لسيرته.

وهنا نص الحوار الذي استهلّه خليل بالقول:
ما من إشكالية تشكل عبئاً على أرض الواقع، كما هو الحال مع إشكالية السلطة، عبر مسارها في التاريخ الإنساني، إذ شكلت وتشكل محور الصراع الحقيقي، بين المفهوم والتطبيق، بين النظرية والممارسة.

في ضوء إشكاليات السلطة وتعدُّد المصادر تم إنجاز العديد من النظريات والدراسات والأفكار حول مفهوم السلطة، منذ أقدم الحضارات الإنسانية، ولحينه. وكان لمفهوم السلطة في التاريخ العربي والإسلامي، الحيّز الوافر من هذه الدراسات والإشكاليات، لا سيما ونحن نعيش في عصر، تستبدّ فيه السلطات، وعلى كل المستويات: السياسية، الفكرية الدينية والاقتصادية.

لمناقشة مفهوم حدود السلطة، في التاريخ العربي الإسلامي، نستضيف، مفكراً وباحثاً، وعالماً في الفقه والأدب والفكر، العلاّمة السيد محمد حسن الأمين.

• إسمح لي سماحة السيد محمد حسن الأمين، وقبل أن نبدأ بالحديث عن السلطات السياسية أو عن حدود السلطة، في التاريخ العربي الإسلامي، هناك مقولة، منذ العهد الإغريقي، عند بعض الفلاسفة، يعتبرون أن الشرق، ربما الشرق الأدنى، هو محكوم بالعبودية إلى أي مدى تصحّ هذه الفكرة؟

بسم الله. أودّ أن أُجيب، باختصار، على هذه المقولة التي لم تتردد على ألسنة اليونانيين، أو غير اليونانيين، وإنما هي تتردد، الآن، وفي عصرنا الراهن، بكل أسف، بأن العرب (- سألتني عن العرب والمسلمين -) محكومون بما يسمى “الاستبداد”. هذه مسألة، أعتقد أنها تعبّر عن قصور واضح، في النظرة إلى الكائن الإنساني، بصورة عامة. ليس العرب الذين، لا أريد، الآن، أن أفتح التاريخ المشرق للأمة العربية، وإنما الأمم كلها، من وجهة نظرنا، هي متساوية في طبائعها، ومتساوية في ردود أفعالها، وفي تأثّرها في البيئة وفي المناخ وفي الأجواء وفي الظروف التي تعيش فيها.

العرب إن لم يكونوا أقدر من سواهم على تحقيق الإنجازات الحضارية فهم لا يقلّون عن الأمم الأخرى في هذا المجال

فالعرب، إن لم يكونوا أقدر من سواهم على تحقيق الإنجازات الحضارية، فهم لا يقلّون عن الأمم الأخرى في هذا المجال. أما، الاستبداد، وهو أمر واقع، فإن له أسبابه العديدة التي ستردُ في مقابلتنا، بالتأكيد.

• دائماً سماحة السيد، عندما، تاريخياً الحديث عن السلطة، يأخذ أبعاداً وأشكالاً مختلفة ومتعددة، ولكن صفة الاستبداد، دائماً تكون هي العنوان الرئيس؛ برأيكم، لماذا؟ ونتحدث حصراً في التاريخ العربي الإسلامي عن مفهوم الاستبداد؟

هنا، إسمح لي أن أقارب رؤية فلسفية واجتماعية في جوهرها، وقد عُرِفَ عني، أنني صاحب هذه المقولة، في مجالات كثيرة، وهي: “أنّ الكائن الإنساني، بطبعه أو بغريزته، هو كائن مستبد وكائن شرير”.

وهذا، لا يعني أن الله خلقه كذلك، وإنما لدى الكائن الإنساني طرفان: أحدهما الغريزة والطبع؛ والآخر، هو الفطرة والعقل.

الشورى في الإسلام هي تعبير واضح وبليغ وصريح على أن أمور الأمة لا تبرم الا عن طريقها

والغريزة والطبع ميّالان إلى الاستكبار وإلى الاستبداد. أما الفطرة والعقل، فهما العنصران اللذان يشكّلان النزعة الإنسانية الخيِّرة في الكائن الإنساني، وهذا لا يشمل أمّة من الأمم – كما أشرتُ قبل قليل – وإنما يشمل الكائن الإنساني بأكمله.

وطوال التاريخ، هناك صراع متفاوت، بين هذين الاتجاهين في حياة الكائن الإنساني: بين الغريزة وبين العقل، ولكن، بكل أسف، فإن التاريخ، بصورة عامة، والتاريخ القديم، كانت ظاهرة الاستبداد التي تعبّر عن الغريزة الإنسانية، وليس عن العقل الإنساني، هي السائدة، وكان ما يسمّى بـ”الفطرة والعقل” مغيّباً، وما أودّ أن أشير إليه هنا، أن التاريخ بمجمله، هو هذه الحلقات المتوالية من هذا الصراع.

هنا، يمكنني القول بأن الأمم والشعوب مختلفة، كما هو الواقع، وكما هي النصوص التاريخية. وفكرة أن مصدر السلطة وشرعية السلطة، تنبع عن القهر والاستبداد، أو القهر والغلبة، كانت هي الغالبة في التاريخ كله. أنت تعرف أن أوروبا، قبل حركة النهضة، كان الملوم في أوروبا هم الآلهة على هذه الأرض.

وكذلك في العصور التي سبقتها. وهنا أود أن أكون صريحاً – لأنك أشرت بالنسبة للعرب خصوصاً وللمسلمين خصوصاً -. من أين جاء الاستبداد، هنا أود أن أكون صريحاً، صراحة كاملة، هو أنني، أنا المسلم والفقيه والعالم الديني، أعترف؛ بل أُدين التاريخ الإسلامي.

التاريخ السياسي الإسلامي سلسلة متلاحقة ومتعددة من دوائر الاستبداد والتي كانت تعتبر أن السلطة وشرعيتها تقوم على القهر والغلبة

أنا لا أدين الإسلام؛ أُدين التاريخ الإسلامي، وأعتبر أن التاريخ السياسي الإسلامي، هو سلسلة متلاحقة ومتعددة من دوائر الاستبداد، والتي كانت تعتبر أن السلطة وشرعيتها تقوم على القهر والغلبة، فمن يقهر ويتغلّب يصبح سلطاناً. ومن المؤسف أن هذه الفكرة، أو هذه النزعة تسرّبت إلى أذهان الكثير من الفقهاء أنفسهم، فقالوا بهذه المقولة: “أن من تغلّب كانت له السلطة ووجبت طاعته”.

وبتقديري، أن هذا هو أحد الأسباب الأساسية لظاهرة الاستبداد، أي التسلّط، أي السلطة التي تقوم على محورية الفرد، أو محورية الجماعة المحدودة، ولا يتجه الاجتماع العربي إلى جعل السلطة تعبيراً عن الإرادة العامة للشعوب والأمم.

• طبعاً، سماحة السيد، طرحتم الآن، أيضاً، في سياق هذا الردّ، إشكالية أساسية، وأنتم تفضّلتم وقلتم: “أنتم لا تدينون الإسلام، بل تدين التاريخ الإسلامي، وهذه هي إشكالية حقيقية. والبعض من الباحثين المفكرين، وهنا أقول، على سبيل المثال، الشاعر أدونيس، عندما يقول: “أن الإسلام قام على السلطة وقام على الدم أو قام على التجارة. ولكم، أيضاً حديث مسبق، سماحة العلاّمة: اعتبرتم أن التاريخ العربي الإسلامي، حُكِم، بشكل أو بآخر، عندما، انتصر مشروع معاوية على مشروع علي بن أبي طالب. إلى هذا الحد يمكن لنا أن نقرأ تاريخ الإسلام أو تاريخ المسلمين، هو صراع على السلطة، منذ وفاة النبي محمد؟

أما أن يكون الصراع على السلطة أمراً ظهر وبرز، بعد غياب القائد الأعظم، الرسول الأعظم، فهذا شأن طبيعي جداً.
إن البشر هم البشر، ولا يعني أن البشر عندما يكونون مسلمين، يتغيرون كثيراً فيما يتعلق بطبائعهم الأساسية، وفيما يتعلق بما يشتركون فيه مع الآخرين، مع الشعوب الأخرى، ومنها الصراع على السلطة. عندما قلتُ أنني أدين التاريخ الإسلامي، كنت أقصد – تماماً – القول: بأن الإسلام، كان نقلة نوعية، في حياة أو في تاريخ البشرية.

جوهر هذه النقلة النوعية يكمن في تحرير الكائن الإنساني. ويبدأ هذا التحرير أي عبودية غير عبودية الإله، الكائن المطلق. وأن الكائن الإنساني يملك من الحرية وحرية تقرير المصير، درجة، لا يمكن لأي شكل من أشكال العبودية الاجتماعية أو السياسية، أن تصادر، على الإطلاق. هذا هو طموح الإسلام؛ بل هذه هي أدبيات الإسلام، وأنا أتحدى أدونيس وغير أدونيس (الذين حشدوا) وناقشته كثيراً في هذه المسألة، أن يعطيني ما يدل على أن الإسلام يجيز أي شكل من أشكال الإكراه، ومن أشكال الاستبداد في أدبياته أو في الآيات القرآنية أو في أي مكان من الأمكنة.

الإسلام كان نقلة نوعية في حياة أو في تاريخ البشرية ولإنه منح الكائن الإنساني حرية تقرير المصير

ولكنني لست من المغالين. أو أكثر، لست من المتوقفين عن نقد التاريخ الإسلامي، أو لأقل، بصورة أكثر وضوحاً، الفكر الإسلامي، لأن كثيراً من الناس، ومنهم أدونيس، لا يستطيع، مع الأسف، أن يميز بين ما هو إسلام وبين ما هو فكر إسلامي، أي أن الفكر الإسلامي هو الفهم التاريخي للإسلام من جميع جوانبه الفقهية، وجوانبه الأصولية والعقائدية والأدبية والاجتماعية.

وفي كل عصر من العصور، كان هناك محاولات لفهم الوحي، لفهم النص الأساسي للإسلام. وكانت هذه المحاولات ما يسمى بـ”الاجتهاد”، تختلف من عصر إلى عصر، لأن النص القرآني، الوحي نفسه، يتميز بأنه وحي واسع إلى أبعد الحدود، إلى الدرجة التي يستطيع فيها، أي مفكر حقيقي أن يتفهم، أو أن يفهم هذا الوحي. وغالباً بصورة تختلف عن فهم آخر لهذا الوحي. فالذي كان يحصل – باستمرار – ووصولاً إلى القرن السادس الهجري، أن التطور كان واضحاً في الاجتماع الإسلامي، يعني على مستوى العلوم الإسلامية، ثم توقف هذا التطور، إلى أن توقف هذا التطور. ونظرة التقديس للوحي تحوّلت إلى النص الفقهي، إلى الفكر الإسلامي، يعني أصبح الفكر الإسلامي، الذي تم إبداعه وإنتاجه، خلال هذه العصور، هو المقدس.

وهنا وقعت الواقعة المؤلمة بالنسبة لتاريخ المسلمين ولحياة المسلمين عندما توقف دور العقل بوصفه شريكاً للوحي، وشريكاً للنصوص في استنتاج الأحكام الشرعية، وفي استنتاج المسارات الحضارية، ومنها: النظرة إلى السلطة التي هي موضوعنا الآن، والتي أريد أن أركّز عليها، فألفت النظر لإخوتي الباحثين والعارفين بالتاريخ الإسلامي، إلى أنه يجب أن يثير انتباههم شيء ما، قلما انتبهوا له، وأثار انتباههم: أن الإسلام شهد في القرن الثالث وفي القرن الرابع الهجري، حركة تطوّر غير عادية ومظاهر إبداع، في مجال العلوم، مختلف العلوم، سواء العلوم الدينية والعلوم الفلسفية والاجتماعية و… وتفاعل وتماس وتشاكل مع الحضارات الأخرى، على نحو ملفت للنظر.

نلاحظ، وهذه هي الملاحظة الدقيقة، التي أودّ أن أشير إليها، لعلاقتها بموضوع الاستبداد، هو أن علماً واحداً من بين هذه العلوم، حتى في عصر “المأمون” الذي عُرف بأنه أشهر الخلفاء المسلمين لجهة انفتاحه على العلوم وتشجيعه للعلوم، للدرجة التي تعرفونها جميعاً، أن المأمون كان يُعطي كل من يترجم كتاباً عن اليونانية أو الهندية أو كذا…. متعلقاً بالعلوم وبالفلسفة، كان يعطيه وزنه ذهباً، فشجّع ذلك الثورة العلمية التي حصلت؛ الذي لم تشجعه السلطة الإسلامية، حتى في عصر المأمون، هو نوع من العلوم إسمه “العلوم السياسية”. نلاحظ أن الفقه السياسي غير موجود إلا في مقادير جداً قليلة وجداً عابرة. فكانت من اختصاص الدواوين، فقط.

الواقعة المؤلمة بالنسبة لتاريخ المسلمين وحياتهم عندما توقف دور العقل بوصفه شريكاً للوحي وللنصوص في استنتاج الأحكام الشرعية

مفكّر مثلي أو غيري من المفكرين، يلفته هذا الأمر، ولكنه يُدرك، للتوّ، أن انفتاح العقل في تلك الفترة، على موضوع العلوم السياسية كان سيؤدي، بالضرورة وبالمقارنة مع التطورات التي أنجزها، في مجالات العلوم الأخرى، سيؤدي بالضرورة إلى تطوير العلوم السياسية، بما يجعلها تصل، قبل ألف سنة، إلى ما وصلت إليه في عصر النهضة الغربية، وأن تصل إلى ما نسميه، اليوم، بـ”العقد الاجتماعي”.

أليست الشورى في الإسلام هي تعبير واضح وبليغ وصريح على أن أمور الأمة، لا يمكن أن يتم إبرامها، إلا عن طريق الشورى؟ فلم يهتد العلماء المسلمون أو المفكرون المسلمون، لم يهتدوا إلى هذه المسألة، نظراً لمنع هذه العلوم واستغلالها للدواوين، دواوين الخلفاء التي كانت تشرّع ما يؤكد حق الحاكم في أن يكون هو مصدر السلطة. وإلى درجة – أنا مصطر لأُعلن أسفي الشديد عليها – هو أنها شكلت انقلاباً على فكرة الإسلام الأساسية، وهي أنه لا يوجد على الأرض من يمثل الله في السماء. يعني أن الإنسان لا يمكن أن يكون – مهما كان – أن يكون ناطقاً بإسم الحق الإلهي على الأرض.

• سماحة السيد، في سياق حديثكم، الآن، هناك ربما خيط رفيع بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي، وهناك خلط بين هذين المفهومين، ربما أدّيا إلى إشكاليات في فهم الإسلام كجوهر وكعمق، وأشرت إلى مسألة أساسية عندما تحدثت عن عصور إسلامية أو عصر إسلامي، وصل إلى قمة التطور الحضاري وبروز علوم وفنون وغير ذلك.

ولكن هناك إشكالية أساسية، سماحة السيد، عندما تحدثت عن العقل وعن القداسة وعن التقديس. البعض يعتبر أن هناك صراعاً حقيقياً في السلطة، كان ما بين الحركة “النقلية” وبين حركة العقل، وهذا ما وجدناه أو ما تعر له إبن رشد، على سبيل عندما أراد أن يفرز للعقل مكاناً في التفسير وفي التأويل. حدثت أيضاً إشكاليات سلطوية. هل هناك أيضاً سلطة أيديولوجية أو سلطة دينية تحت ما يسمى بـ”المؤسسة الدينية المستبدة” أيضاً؟

أنا قلت إن كل السلطات، باستثناء فترات قليلة من التاريخ، هي كانت سلطات استبدادية، بطبيعة الحال. استبدادية، بمعنى أن سلطة الحاكم ليست مستمدة من تمثيله للأمة، بقدر ما هي مستمدة من تمثيله للذات الإلهية على الأرض. وهنا الانقلاب الخطير الذي حصل في الإسلام، إنه بدل من أن يكتمل تحرير الكائن الإنساني، وتصبح علاقة الله بالكائنات الإنسانية متساوية، أمكن بإسم السلطة وبإسم رغبة الاستبداد وغريزة الاستبداد، أن ينشأ ما يسمى بـ”السلطات المطلقة” التي كان على رأسها الخليفة او على رأسها ما يسمى بـ”السلطان”، وإلى ما هنالك.

أما بالنسبة إلى العقل: نحن نعلم أن النقلة التي حصلت بين ما أسميه اعتماد العقل بوصفه رديفاً للوحي، يعني بمعنى أن العقل مصدر من مصادر الفكر والشرع، كما هو الوحي، هذه النقلة حصلت في فترة متأخرة – كما قلت – وفي أواخر العصر العباسي، وكان هناك صراع، واضح بين المدارس المختلفة في هذا المجال.

وأستطيع أن أذكر مثالاً على ذلك، هو موقف اثنين من فلاسفة الإسلام ومن فقهاء الإسلام العظام، هما: الإمام الغزالي، الذي شن هجوماً ما زالت آثاره قائمة حتى الآن، على الفلسفة أي على العقل، عندما كتب كتابه المشهور “تهافت الفلاسفة”، واستطاع، خلال مئة سنة، أن يلغي التفكير الفلسفي، إلغاء كاملاً، إلى أن جاء إبن رشد والذي حاول، ولكنها كانت محاولة في وقتها الأخير، وإن كانت – على ما أعترف به – قد تركت لنا تُراثاً نستطيع أن نعتمده، الآن، ونحن نعمل على استرداد قيمة العقل في الفكر الإسلامي، إلا أنه لم يتمكن من أن يوقف ظاهرة الانحياز إلى ما يسميه الغزالي: إلى التصوّف وإلى الروح والقلب.

وأن الحقيقة ليس مصدرها العقل… وكما أشرتُ، إن هذا يشكل جذراً تاريخياً مهماً للتطلعات النهضوية ف الفكر الإسلامي الحديث، لاستعادة الاعتبار للعقل الذي تم تغييبه كل هذه القرون التي ذكرناها، والتي كانت سبباً جوهرياً في استمرار الاستبداد، وبكل أسف، في إنتاج استبداد غير ديني، علماني أيضاً، لأني عندما أقارن بين استبداد حصل في عصور الخلافة، وبين أنظمة سياسية نشأت بعد سقوط الخلافة العثمانية بإسم العلمانية في بلادنا، في أقطارنا، فإنني لا أستطيع، على الإطلاق، أن أفضِّل هذا الاستبداد الجديد الذي اتخذ شعار “الدولة المدنية” والعلمانية. فلقد استمر هذا الاستبداد، ربما بأفظع مما كان عليه في السابق.

• ولكن لنربط، أيضاً ماله علاقة، قلت بالتطلعات النهضوية، سماحة السيد. وقدمت، ربما نوعاً من المفارقة أو المقاربة عندما قلت: إن النهضة الغربية استطاعت أن تطور علوماً سياسية وأن تصل، ربما إلى مفهوم السلطة، إلى تطوير مفهوم الديموقراطية، إلى أن السلطة مصدرها هو الشعب وهذا التمثيل الديموقراطي.

ولكن الإشكالية الحقيقية، سماحة السيد، محمد حسن الأمين، عند العرب، أن النهضة لم تكتمل. هناك أسئلة ولكنها لم تلق أجوبة. طبعاً هناك دائماً، نقول: ما حصل مع الإمام محمد عبده؛ ما حصل مع عبد الرحمن الكواكبي (“طبائع الاستبداد”). هناك محاولات تنويرية ولكنها لم تلق النور، كما ربما أن نقول لماذا دائماً المحاولات التنويرية كانت دائماً تصل إلى مكان مسدود؟ الاصطدام بمن؟ هل هناك مؤسسة دينية كانت أقوى دائماً او مؤسسة سياسية تعترض كل خطاب تنويري في التاريخ العربي الإسلامي؟

شكراً على هذا السؤال. نحن عندنا ما نسميه في الإسلام أو في التاريخ الإسلامي حركتان نهضويتان: إحداهما التي تكلّمنا عليها قبل قليل، وهي في القرن الثالث والقرن الرابع الهجري. وعندنا نهضة ليست بسعة وشمول هذه النهضة الأولى، هي النهضة الأخيرة، الحديثة التي حصلت بعد سقوط اليان الإسلامي الممثل بـ”الدولة العثمانية”، في أواخر القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين، والتي برزت رموز مهمة في هذه النهضة: ومنهم من ذكرت: الإمام الشيخ محمد عبده، وقبله ومعه السيد جمال الأفغاني، والكواكبي، وعدد كبير ممن نسميهم رموز النهضة الحديثة.

ولكن لا ننسى أن هذه النهضة أيضاً تمت محاصرتها إلى حد كبير، جراء استمرار ما أسميه بمنطق ضرورة عودة الخلافة كشكل وحيد للتعبير عن الكيان السياسي والاجتماعي للمسلمين، والتي كانت تصرّ على أن المسألة لا تتطلب أكثر من نهضة أو ثورة تعيد الخلافة إلى المسلمين. وثمة أيضاً فريق ثالث: يمكن “فرح أنطون” و”سلامة موسى” وعدد منهم كان يمثّل هذا الاتجاه، يتكلم على انفصال كامل عن التاريخ الإسلامي، والتحاق كامل بالحضارة الغربية.ومع الأسف إن طه حسين في بداياته تكلم عن هذا الموضوع، ثم، لاحقاً، غيّر رأيه.

لماذا فشلت النهضة؟ فشلها يستند إلى الأسباب التي ذكرتها:أن الاجتماع الإسلامي نفسه، لم يكن مهيّئاً لها، بشكل كاف. الأمر الآخر والأهم، هو الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين؛ والمفارقة المؤلمة، في تاريخنا الإنساني، والذي أقدّر فيه، شخصياً، وأحترم كثيراً، حركة النهضة الغربية، وخصوصاً فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة، أقول: إن هذا لن يستولد بُعداً أخلاقياً للعالم الغربي، بل إن هذه القوة التي نشأت على أثر فصل الدين عن الدولة، وكيان الدولة القوية في أوروبا، أكد أكثر فأكثر، وألهب، أكثر فاكثر نزعة السيطرة والاستبداد، على مستوى الدول الضعيفة ومنها: الدول العربية والإسلامية.

وكما تعلم: “الرجل المريض” كانوا يسمون تركيا: “الرجل المريض”، فكانت تركيا “تحلّت” – إذا صح التعبير – لدى الدول العظمى، الكبرى على اقتسام هذه المنطقة. وبطبيعة الحال على تغيير الهوية الأساسية لهذه المنطقة، والتي تتضمن ما أسميه بـ”وحدة الأمة”. وفعلاً، استطاع الاستعمار الغربي، وبحكم موازين القوى المختلّة بصورة كاملة لصالح الاستعمار الغربي، أن يجزئ، مجدداً، هذه الدول، وأن يقيم فيها أنظمة ذات طابع استبدادي.

من هنا، ما أشرت إليه، إن المستوى الأخلاقي لم يكن متساوياً مع المستوى الحضاري لتطوُّر العالم الغربي، وتطوُّر الاجتماع الغربي. هذا أدى، فعلاً، إلى التعامل مع المنطقة هنا، بوصفها “منطقة استثمار”، وهذا لا يتم بان ينقل إليها جوهر الحضارة الغربية، المتعلقة بالتطور السياسي، بل تركت كوريث لتاريخ الاستبداد الموجود فيها، وأقيمت فيها حكومات سمّيت مدنية؛ ولكنها حكمات مستبدة وتستمد شرعيتها من نفس المصدر الذي كانت تستمد الدول المستبدة شرعيتها منه، وهو “القهر والغلبة”. فعندما يستطيع حزب من الأحزاب، أن يقهر ويتغلّب، يحكم دولة، وهو لا يمثّل دولة. هذا ما حصل، وهذا ما هو قائم الآن.

• هل تُحب أن تتحدث عن هذه النقطة: “فصل الدين عن الدولة”؟

ما سميته بـ”العلمانية”، أنا متأسّف، أن أكثر، أو الكثير، ليس من العامة، فحسب، حتى من النخب الإسلامية، وغير الإسلامية، هي لا تعرف، معرفة عميقة معنى “العلمنة” أو “العلمانية”. من وجهة نظري أن العلمانية التي تسلب المؤسسة الدينية سلطتها، بوصفها “سلطة الله على الأرض” هي انحياز إلى جوهر الفكر الإسلامي الحقيقي، فلذلك، انا أعتقد أنه، نحن المسلمين، أحوج ما نكون إلى هذه العلمانية. بهذا المعنى والعلمانية، حتى في نشأتها، لم تكن عدوة للدين.

إنها كانت عدوة لادعاءات السلطة الدينية المتمثلة بالكنيسة، التي هي مصدر السلطة. والآن، أن أعتقد أن دُعاة الدولة الدينية في الإسلام، هم يسيئون إلى الإسلام، أكثر مما يسيئون إلى الأمة وإلى الناس، لأن كل سلطة، لا تستند إلى هذا العقد الاجتماعي، الذي تحدثت عنه قبل قليل، هي سلطة مؤهلة لأن تكون فاسدة ومستبدة، بل أزيد على ذلك، أن الاستبداد، حينما يكون بإسم القومية، مثلاً، كما هي أنظمتنا السيئة، هو أقل خطراً من الاستبداد عندما يكون بإسم الدين.

لأن الاستبداد بإسم القومية لا يملك عنصر قداسة، ويمكن الثورة عليه وتغييره، بأكثر مما يمكن الثورة على الاستبداد الديني وادعاءاته بأن الدولة يجب أن تكون دينية ويجب أن تكون السلطة فيها مستمدة من الله سبحانه وتعالى، وليس من البشر، فيما الله سبحانه وتعالى فوّض أمر السلطة وأمر إدارة الأمور إلى الناس، إلى القوم، دون ان يجعل من الدين ذريعة للاستبداد أو للنطق بإسم الحق الإلهي على الأرض.

المستوى الأخلاقي لم يكن متساوياً مع المستوى الحضاري لتطوُّر العالم الغربي وتطوُّر الاجتماع الغربي

ولا يعنيني كثيراً أن هناك من يستاء من هذا الكلام، لأنني أعتبر أنه، نحن أحوج ما نكون إلى، نقلة نوعية في وعينا: في الوعي الديني وفي الوعي السياسي وفي الوعي الحضاري بصورة عامة.

• أنتقل الآن، إلى ما نعيشه الآن، سماحة السيد، وأنتم قلتم أن، حتى ليست الاستبداد، كان حصراً في المؤسسة الدينية، حتى في الأنظمة العلمانية والأنظمة المدنية التي حكمت بعد التحرر، وحكمت بلادنا أيضاً كانت استبدادية، وهذه أيضاً كانت إشكالية نعيشها، الآن، في ظل ما يشهده عالمنا العربي والعالم الإسلامي، ما يسمى بـ”الثورات”، وما يسمى بـ”التغيير” والانقلابات ولصورة الأنظمة. برأيكم، الآن، كيف نوصِّف هذا الواقع الذي نعيشه، نحن بحاجة إلى ماذا؟ إلى وعي؟ ولكن كيف نتعاطى مع التيارات المتشددة، الأصوليات الإسلامية التي تحكم بإسم الدين وتُمارس ما تمارسه من قمع ومن ذبح؟

هناك كارثة حقيقية، وليست أزمة. كارثة حقيقية. وأنا الذي أعتبر نفسي مختصاً بتاريخ الإسلام، لا أعتقد ان حلقات هذا التاريخ تتضمن حلقة مشابهة لما يحصل في عصرنا الراهن: العنف بإسم الإسلام؛ الجريمة بإسم الإسلام؛ التكفير (تكفير المسلم والآخر) بإسم الإسلام.

هذه الظاهرة يمكن للمحلل السياسي أو المحلل التاريخي العادي، أن يرى فيها شذوذاً عابراً في المرحلة الراهنة. لكنني، أرى فيها تاريخاً من التراكم. ثمة تراكم تاريخي حصل في هذه المنطقة، كما قلت، ابتداء من العصر الأموي، وصولاً إلى نهاية الدولة العثمانية، وإضافة إليه، المرحلة التي كانت تشكّل باب أمل لنهضة جديدة، سقوطها بأيدي الأنظمة العلمانية المستبدة، شكلت ما أسمّيه بـ”التراكم”.

ما يجري الآن، هو انفجار لهذا التراكم. أي حتى لا نطيل ونفصِّل، لكن، بالاختصار، وبالرؤية التاريخية الموجزة: ما يجري الآن هو انفجار لهذا التراكم التاريخي. وأنا لست من القائلين، بأن التاريخ له حيثيات منظمة، ولكن، في الوقت نفسه، أن التاريخ هو عملية تواصل، وبالتالي، أي تراكم دون أن يُعالج، في مرحلة من المراحل، سوف يؤدي إلى انفجار.

ما يجري هو انفجار لا علاقة لهؤلاء الذين يقتلون ويذبحون ويجرمون بإسم الإٍسلام، لا علاقة لهم بجوهر الإسلام، على الإطلاق، وبالتالي ما هو العمل؟ هناك مساران لمواجهة هذه الظاهرة: أحدهما المسار الذي تتوجه عنايتي وعناية بعض المفكرين إليه، وهو أن الأمة بحاجة إلى نقلة نوعية على مستوى الوعي، الوعي الذي يتعلق في وعي الدين نفسه، بوصفه هو المجال الذي تتحرك فيه المجالات الأخرى. وعي حقائق الدين من جهة، ووعي الأسباب التاريخية لما حصل، وتشكيل وعي جديد للأمة. وهذا مساره، مسار طويل؛ وهناك مسار آخر، مع الأسف، هو مسار المواجهة، لكن هذا المسار، ما نسميه بـ”المواجهة الميدانية”، العسكرية والسياسية، مع هذه الظاهرة تخوضه، اليوم، قوى، ليست أفضل من هذه القوى الظلامية، ليست أفضل منها، على الإطلاق. ولكن هذا، لا يعني، أبداً، أني أنا مع انتصار القوى الظلامية.

أنا أريد، وأعتقد، ووجهت، منذ فترة، رسالة إلى الغرب، قلت فيها: “إن الغرب مسؤول عما يجري لدينا، وأن الغرب الذي دعم أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية، هو من اصطنع هذه الكارثة التي نعيشها اليوم، وأن بوسع الغرب، إذا صحت ادعاءاته أن يساعد المنطقة العربية، من الانتقال في أنظمة حُكمها من حالة الاستبداد إلى ما هو طبيعي، وهو حالة التحرر من الاستبداد والتوجه إلى ما أسميه بالتنمية وباستعادة الحريات. وهذا ما يستطيع الغرب، إذا أراد، أن يساعد عليه.

أما أن يتم حسم المعركة عسكرياً، فأنا، لا يشكل لي الأمر مصدراً للتفاؤل، لأن هذا سيُعيد تكريس، أيضاً، أنظمة الاتسبداد التي تسمي نفسها علمانية. وهي ليست علمانية بالمعنى الجوهري للكلمة. إذ لا علمانية حقيقية بدون ديموقراطية. ولا ديموقراطية حقيقية بدون حريات حقيقية في المنطقة، وهذه عوامل كلها غير متوفرة.

الغرب الذي دعم أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية يمكنه المساعدة بالانتقال في أنظمة الاستبداد إلى التحرر

وإذا سمحت لي، أنا من دُعاة الحوار الحضاري، شرط أن يكون الطرف الآخر مستعداً لهذا الحوار الحضاري، الذي يساعد – كما قلت، أممنا وشعوبنا، على التطور من جهة، ويساعد، أيضاً، من جهة الغرب. وهذا ما قلته منذ فترة في الفاتيكان، وكنا في مؤتمر مهم، إنه أيضاً أنتم (أنتم الغرب)، بحاجة إلى قيم روحية مستلهمة من تراثنا، نحن العرب والمسلمين، وأحد عناصر هذا التراث أن تكون لحضارتكم غايات إنسانية. هذه حضارة تتراكم، تتراكم تتراكم ولكن لا نشعر أن لها غايات إنسانية.

• سماحة السيد طالما تتحدث عن الغرب، لماذا السياسة الغربية الآن، ضمن لعبة الأمم، تعمل على بثّ الفتن بين المسلمين: تعمل على بث الفتنة الطائفية والمذهبية، والإثنية. البعض يقول: بأن العرب دائماً يعودون إلى القبيلة، إلى العصبية القبلية، لأن العربي مفطور بالذهنية على التعصّب وعلى العصبية. إلى أي مدى تصحّ هذه المقولة؟

لماذا الغرب؟ أنا، حتى أختصر أجبتك، بأن مع كل تقديري للإنجازات التاريخية، وكل إنجاز حضاري، من وجهة نظري، وملفت للإنسانية كلها، لكن بالرغم من ذلك، إن الغرب ما زال يفتقد لما أسميه لعنصر الأخلاق. وأن الغرب ما زال يعتقد أن هذه المنطقة هي منطقة موارد: موارد استراتيجية واقتصادية و..و… وغيرها، وليس مهتماً على الإطلاق، وأكبر دليل على ذلك، هذا الدرس واضح من تقوية الكيان الصهيوني، في المنطقة، والعمل على تجذيره، أكثر فأكثر، ليس لدوافع عاطفية، وليس لدوافع سياسية، إنه لدوافع الاستبداد والإمساك بهذه البُنية العربية والبُنية الإسلامية، والسيطرة على ثرواتها وإبقائها منطقة صراعات. ولقد رأى أن أفضل وسيلة لذلك، هو موضوع الطوائف والمذهبيات وتحريكها. وما يجري من صراعات ذات طابع مذهبي وديني و..إلخ.

إقرأ أيضاً: «حزب الله» يتخلص من «عبء باسيل» الحكومي..ولودريان يزخم مبادرة ماكرون؟

لا أرى أن هذا الغرب أدرك أن هذا سيؤدي إلى الضرر، ليس في المنطقة، وإنما بالغرب نفسه. وإذا لاحظتم أن الغرب، ربما بعض الاتجاهات قد بدأت تتحسن الأخطار الناجمة عما يحصل في المنطقة لجهتين: لجهة، أولاً: العنف الذي بدأ يتفجّر في المؤسسات الغربية من خلال ما يسمى الانتحاريين، وغيرهم.

ولجهة أخرى أكثر أهمية، هي أن استمرار الأزمة القائمة، سيؤدي إلى هجرة، هي نوع من الاقتحام للغرب لا يستطيع أن يوقفها. فهل يؤدي ذلك إلى إعادة النظر، نظر السياسة الغربية إلى تدخُّل منطقي وعقلائي في إنهاء هذه الأزمة الراهنة؟ وهذا هو السؤال الكبير.

السابق
«كورونا» يَنهش مجدداً الجيش الأبيض..طبيب لبناني شهيد الواجب في مصر!
التالي
الدولار «يَشقّ» صفوف «حزب الله»!