وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان.. «من بعدي الطوفان»!

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

عندما وصف الفيلسوف توماس هوبز السلطة السياسية بأنها كائن صناعي، وأنها نتاج الفن والابتكار الإنساني، ولم تعد كما فكر اليونان بأنها ثمرة تطور الطبيعة لا يد للإرادة الإنسانية في نشوءها وظهورها ومسارها. كان هوبز بذلك ينقل الوعي بالمسألة السياسية، من التعامل العفوي والغريزي، والاستجابة الآنية والفورية والجزئية لتفاعلات ومستجدات المشهد السياسي، إلى التعامل مع السياسة بصفتها فعل خلق وإبداع، ثمرة تفكير وتخطيط إنسانيين. ويحولها في الوعي والسلوك من كيان محكوم لمعايير وقيم من خارجها، إلى كيان يضع معاييره وقيمه بنفسه لنفسه. ما جعلها أي السلطة موضوعاً مستقلاً للتفكر، مهد لأول مرة نشوء علم السياسة الذي يتعامل مع السياسة والسلطة كشيء له خصائص واستراتيجيات وآليات تجعله مستقلا عن موضوعاته وعن الجهات التي تمارسه.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اللبنانيون ضحايا أنفسهم

تصبح السياسة وفق هذا المنظور الجديد مجالاً يُفهم ويُعالج بالعقل لا المزاج الشخصي، مجالاً موحداً يربط الأجزاء في كُلٍّ موحد لا يقبل التجزئة أو التبعيض، مجالاً باتت السيادة فيه الروح الجامعة لأجزائه، مجالاً مؤلفاً من بنى وأجهزة وأطر تدخل الإرادةُ الإنسانيةُ في صميم تكوينها وابتكارها وهندستها، مجالاً لا يستدعي ماضيه بقدر ما يطلق قدرات الإنسان الإبداعية ويوصبها باتجاه الحاضر والمستقبل الآتي.   

 هذا التحول، في الوعي والسلوك، أدى إلى نشوء ما يسمى بالطابع المؤسساتي للدولة، الذي يتجلى في مستويين: أولهما الفصل بين الشخص الطبيعي للحكام  والتصور المجرد للقوة العامة، يكون فيها الحكام أجهزة للدولة، ويمارس رئيس الدولة وظيفة لا امتيازاً لشخصه. هذا الفصل يسمح باستمرار الدولة، التي لن يضيرها بعد ذلك تعاقب الأشخاص الطبيعيين القابلين لأن  يجسدوها وقتياً.  ثانيهما تعميم الأنظمة القانونية المكوِّنة لدولة القانون، لتحديد إمتيازات (عامة لا شخصية) كل أولئك الذين يمارسون السلطة بإسم الدولة، وتحديد التزاماتهم، بالإضافة إلى حقوق والتزامات الذين تتحكم السلطة بهم.

قوة الدولة ليست شيئا آخر غير فعالية نظامها القانوني

هذا الأمر مهَّد لظهور الدولة الحديثة التي أهم ميزة فيها هو أنها سلطة قانونية – عقلانية بالمعنى الذي يفهمه ماكس فيبر. فالحكام والوكلاء الإداريون على حد سواء، يجب عليهم احترام الدستور والقوانين النافذة، وسلطتهم لا تمارس إلا وفق الأشكال الإجرائية المحددة، وفي ميادين اختصاص محصورة. ما يجعل التعسف المزاجي وعدم اليقين بالنسبة للقانون القابل للتطبيق مستبعدان بالكامل على كل مستويات البناء التسلسلي للدولة. إذ بقدر ما تمارس الدولة الحديثة سلطة الأمر هي أيضاً خاضعة له.  وهذا هو مفهوم الدولة القانونية التي تخضع لاحترام الحريات الأساسية وتُكرَه على عدم انتهاك القواعد الإجرائية أو الاساسية.  فقوة الدولة ليست شيئا آخر غير فعالية نظامها القانوني، بحيث يكون كل من السلطة السياسية والإدارية، أجساماً مكونة من أفراد خاضعين لعلاقات منظمة قانونياً تنظم حقوقهم وواجباتهم تجاه الأفراد الآخرين.

الواقع الاجتماعي والسياسي

حين يكون الواقع الاجتماعي والسياسي في لبنان محكوماً بدرجة عالية لقيم الانتماءات الجزئية والمحلية كالطائفية والقَبَلية، وهي انتماءات عضوية محددة ومقدرة لكل فرد قبل الولادة، والخروج منها هو بالنسبة إليه عزلة وسقوط ونهاية.  وحين تتحكم البنى الابوية في سير وتسيير الشؤون العامة، أي العلاقات القائمة على الزعيم (الأب) الذي يحصر كل شؤون التدبير بشخصه، ويضع الناسُ مصائرهم طوعاً بين يديه، حيث بقدر ما يُظهر هذا الزعيم تفرداً واستبداداً وحتى قسوة وبطشاً، يزداد الناس تعلقاً به ويقيناً بأنه مصدر أمانهم.  حين ذلك كله، لا تعود مشكلة الحياة العامة في لبنان، تتمحور حول وجود أو عدم وجود دولة ذات أجهزة ومؤسسات، إنما تكمن في المفهوم الذي نسبغه على الدولة وعلى المؤسسات حين نمارس السلطة أو ننشط داخل الحقل السياسي.  فالدولة لا تسيِّر نفسها إنما يسيرها بشر بذهنية وثقافة خاصتين، والمؤسسات لا تحمي نفسها من سوء الاستعمال إذا لم يكن هنالك وعي مجتمعي جلي ومنظومة قيمية ينسجمان مع حقيقة الدولة الحديثة وأصول التفكير العقلاني.  

باتت السياسة في لبنان تُفهم على أنها: معركة وجود وبقاء، صراع الأقوى، حرب إلغاء متبادل

 باتت السياسة في لبنان تُفهم على أنها: معركة وجود وبقاء، صراع الأقوى، حرب إلغاء متبادل، تحطيم الآخرين وكسر إرادتهم، إما النصر أو من بعدي الطوفان، استعراض لا متناه للقوة، تضخم في شخصية الرموز السياسية مع ما يستتبع ذلك من جنون عظمة ونرجسية ذات، تصلب مطلق في المواقف والمواقع حتى لو انهار الهيكل على رؤؤس ساكنيه، تعميم الخوف المتبادل، نشر الخطاب الاستفزازي والسلوك العدواني. هي مظاهر نمارسها ونعيشها وتآلفنا معها وباتت جزء من تقاليدنا ويومياتنا وذهنيتنا تجعل المجتمع معها يفقد حساسيته إزاء مظاهر العبث والفساد والخراب.    

استحالة عقلنة الحياة العامة في لبنان

أمام هذه المعطيات، نفهم استحالة عقلنة الحياة العامة في لبنان، أي تدبيرها وإدارتها بطريقة عقلانية، ونفهم لماذا تبقى السلطة في لبنان إمتيازاً شخصياً للزعيم،  ولماذا يغرف من في السلطة من الموارد العامة كما لو كان يأخذ من جيبه الخاص، ولماذا يتسامح المجتمع مع انتهاكات قادته، ولماذا ذاكرة المجتمع ضعيفة إلى حد أنه يعيد إنتاج نفس التركيبة السياسية في كل مناسبة انتخابية، ولماذا يتردد عموم الناس ويخافون النزول إلى الشارع ضد حاكميهم.

إنها الثقافة العامة التي نجحت في ترسيخ الشعور: بالمديوينة في حق من يحكمنا، وبالقُصور في حق أنفسنا.    

السابق
قنبلة موقوتة في مرفأ بيروت.. تحذيرات من خطر انهيار صوامع القمح!
التالي
دولار السوق السوداء ينخفض.. كم بلغ سعر صرف؟