وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: اللبنانيون ضحايا أنفسهم

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

الأزمة التي تفجرت في العلن بين الرئيس عون والرئيس المكلف سعد الحريري، لم تكن بدايةَ معركةٍ سياسية لفرض وجهة نظر على أخرى، أو تغليب طرف على آخر،  بل لم تكن مستندة إلى أي معطى خارجي أو كلمة سر أطلقها حلفاء الطرفين لإنهاء كارثة الإنهيار الداخلي وتوليد معطيات جديدة تنقل المشهد السياسي إلى مستوى الإنفراج أو الحسم.

يؤيد ذلك تداعي سفراء الدول الغربية بعد قنبلة الحريري السياسية في بعبدا بالدعوة إلى التهدئة والتسوية، وتريث المحور المؤيد لعون في التصعيد والاحتفاظ بلغة هادئة نسبياً.  ما يدل على أن لبنان لم يدرج على جدول أية دولة للحسم القاطع أو لتغيير موازين قواه الداخلية.  فاللذي يقلق المجتمع الدولي، لا انهيار لبنان الداخلي أو أزماته المالية والاجتماعية، بل وضعه الاستراتيجي، أي تموضعه الخارجي داخل خارطة إقليمية بالغة الحساسية والهشاشة.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان.. إما ممانعة أو دولة

تصعيد حزب الله الأخير هو تحذير من تجاوز الخطوط الحمر ومن نقض التوزيع القائم والمستقر للعبة السياسية الداخلية

بذلك نفهم أن الغرض من تصعيد الإيرانيين الأخير عبر أمين عام حزب الله، ليس لحسم عقدة التأليف المستعصية واجتراح حلول جذرية للأزمة الاقتصادية، إنما هو تحذير من أي مسعى لتقويض الترتيب الداخلي، الذي نجح حزب الله في ترسيخه، ومنحه اليد العليا في صناعة القرارات الكلية وتحديد وجهة لبنان الاستراتيجية، والأهم من ذلك تحويل جهازه الأمني الكامل العدة والعتاد، إلى معطى حُسِم أمرُ النقاش الداخلي حول مشروعيته أو صحة وجوده، وبات بمثابة البديهة والمُسلَّمة التي تقف وراء أي فعل سياسي داخلي.  وهو وضع لن يخاطر الحزب بخوض حملات أمنية أو سياسية مستفزة للدول الكبرى، تعرض منجزه للخطر أو الاهتزاز.  وما تصعيد حزب الله الأخير سوى تحذير من تجاوز الخطوط الحمر ومن نقض التوزيع القائم والمستقر للعبة السياسية الداخلية.

تبين أن رحلات الحريري المكوكية بين العواصم، لم تكن في سياق تأمين غطاء دولي لمبادرة حل خلاصي، بقدر ما كانت لتدعيم موقع الرئاسة الثانية

تبين أن رحلات الحريري المكوكية بين العواصم الغربية والعربية المتعددة، لم تكن في سياق تأمين غطاء دولي لمبادرة حل خلاصي، بقدر ما كانت لتدعيم موقع الرئاسة الثانية وتقديم مسوغات لتشدده الأخير في طريقة تأليف الحكومة، لوقف الهجوم المنظم والممنهج من الرئيس عون لتحجيم هذا الموقع والتلاعب به. هو دور يمارسه الرئيس عون، لا استناداً إلى صلاحياته الدستورية، وإنما إلى تحالفه مع حزب الله، المتراخي في الظاهر والمتين والصلب في الباطن، الذي منح ميشال عون مرتكز قوة ونفوذ له ولتياره، يشبع هوسه العصابي بالسلطة، ويغطي تصلبه الجنوني، ويرفع حظوظ تأمين الرئاسة الأولى لصهره من بعده، ويطلق إرادة الرئاسة الأولى لا من منطلق دستور الطائف، وإنما من منطلق المساحة الواسعة والحرة التي وفرها تحالف مار مخايل المقدس.

هذا يعني أن تصريح الحريري الناري من بعبدا لم يكن لخلق مشكلة وإطلاق حملة، وإنما لعرض ظلامة، والاستنجاد بالمجتمع الدولي لتدارك حال اللاتوازن والخلل القاتل في ميزان القوى الداخلي، والحد من تدهور مكانة الرئاسة الثانية التي وصلت إلى حد غير مسبوق من الهشاشة والضعف، بل حد غير مسبوق من الاستخفاف والتلاعب المهين بها.

أميركا ودعوتها للتسوية

دعوة السفيرة الأمريكية إلى التسوية، تحمل دلالات عدة، أولها: أنه لا يوجد مشروع حل حاسم تحمله إدراتها المركزية للبنان، ثانيها: التحول عن سياسة ترامب التصعيدية ضد إيران وأذرعها المنتشرة داخل العمق العربي بما فيه لبنان، إلى سياسة التهدئة، والتسوية البطيئة والمجزأة، التي تميل إلى إبقاء الأمور على ما هي عليه حالياً من دون تخفيف للعقوبات الحالية أو القيام بأي تصعيد مفاجىء. هو موقف يناسب النظام الإيراني، الذي غرضه لا طرد الأمريكي (أو غيره) من المنطقة وإنما انتزاع الاعتراف به فاعلاً استراتيجياً في تقرير قواعد التوزيع ومبادىء الاشتباك في المنطقة.

المشكلة اللبنانية فقدت حرارة الاهتمام الدولي الجدي بها

هذا يدل على أن المشكلة اللبنانية فقدت حرارة الاهتمام الدولي الجدي بها، ولم يعد بالإمكان إحداث اختراق دولي لحل معضلاتها، أو توقع مبادرات جديدة حولها، بخاصة مع الإفشال المتعمد والممنهج للمبادرة الفرنسية، يضاف إليه تصويب الأولويات الأمريكية باتجاه معاركها الاقتصادية مع الصين والسيادية مع روسيا والنووية مع إيران.  هذا يعني أن لبنان بات متروكاً لوحده عربيا ودولياً، وأن حل أزمته الداخلية في حالة إرجاء طويل الأمد، لصيرورة لبنان تفصيلاً بسيطاً وحتى هامشياً في مشهد التجاذب الدولي الحالي، وفي معادلة التسويات الإقليمية المنتظرة.   

ما حصل في بعبدا ليس سوى كشف مخيف عن حجم التناقضات داخل الواقع اللبناني التي تهدد لا الدولة فقط بالسقوط، بل تهدد الكيان اللبناني بالتفكك، وتدفع المجتمع إلى مزيد من التشظي.  هو تناقض نمى على فراغات تركها الدستور، قُصد منها توفير مساحة مرونة سياسية وحيز تسويات متبادلة بين المكونات، فإذا بهذه الفراغات تصبح منفذاً لسوء استعمال وسوء تأويل، ومدخل لاختراقات سيادية خطيرة.  هو تناقض خلقته الطموحات الأنانية ومظاهر الاستقواء الصبياني والمخاوف الساذجة والايديولوجيات العفنة والتبجيل الأحمق للذات والقيادات الوضيعة والثقافة الضحلة وسفاهة الخطاب السياسي وصيرورة الفساد خلقاً وسلوكاً عامين. وهي مظاهر باتت جميعها علامة فارقة لأكثر أوجه النشاط العام في لبنان.

تناقضات انعدمت فيها الجرأة الذاتية على أن نفكر ونقرر لوحدنا، وتضخم الخوف والرهاب من نقد الذات

هي تناقضات انعدمت فيها الجرأة الذاتية على أن نفكر ونقرر لوحدنا، وتضخم الخوف والرهاب من نقد الذات، وتعاظم التطلع الكسول والخامل لحلول جاهزة ومعلبة تأتي من الخارج، تعكس العجز الداخلي عن إدارة واقع عام أو تعديله أو حل مشكلاته أو تغييره.   هي تناقضات جعلت اللبنانيين ضحايا بيئة وذهنية ووضعيات خلقوها بأيديهم وارتضوا بها وتساكنوا مع عواقبها الكارثية، فباتوا نتيجة لذلك، ضحايا أنفسهم. 

السابق
على وقع الفشل الحكومي.. كلمة لنصرالله غداً!
التالي
الراعي يدعو لمعاقبة الجميع: لا خطوط حمراء على أحد!