وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: متى تبدأ الثورة في لبنان؟

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

كشفت حنّة ارنت في كتابها “حول الثورة”، أن الثورة حين تنطلق، لا تنظر إلى الوراء، ولا تتحسر على الماضي، بل أفقها المستقبل، ولا تخاف من دمار الهيكل نفسه، طالما أن الجديد الذي ستحدثه هو إطلاق طاقة الإنسان وانبثاق حريته. وقد بيّنت أرنت أن مصطلح الثورة، صار يعني بعد الثورة الفرنسية المجيء بشيء جديد غير مسبوق وغير مألوف من قبل. أيّ نهاية طور وبداية طور آخر، خروج عن مسار سابق ومفترض وابتكار وضعية انتظام مختلفة، تحمل قيماً وروابط وقواعد مشروعية لم تكن معروفة أو على الاقل لم تكن متداولة في الممارسة والخطاب.

في معنى الثورة وتعريفها

وفق هذا التصور باتت الثورة تحطيماً لكل وضع قائم والمبالغة في مواجهته. هو قطيعة مع جميع مؤسسات الحاضر والماضي، قطيعة مع قيمه ورموزه وثقافته، هدم وإعادة بناء من الجذور، ثوره تنتج ثقافة وقيماً جديداً ليدخل المجتمع في وضعية انتظام كامل الجدّة والمغايرة. لم تعد الثورة مجرّد تغيير، بل بداية جديدة لتاريخ لم يكتب بعد، وظهور لقصة جديدة تماماً لم تُروَ سابقاً.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: خطاب البطريرك.. تصويب الوجهة

الشيء الجديد الذي وجدته أرنت في الثورتين الأميركية والفرنسية هو “ظهور الحرية” بصفتهاً مفهوماً سياسياً وليس معنى يقابل الرقّ أو العبودية، أي مفهوماً متقوماً بإطلاق طاقة الإنسان المتدفقة وتوسيع مداها إلى أقصاها. فلا يمكن التفكير في أي ثورة من دون الانطلاق من هذا التزامن بين بدء تجربة سياسية جديدة وبين الحرية، حيث لا تنطبق كلمة ثورة بحسب كوندرسيه “إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية”. هذه الحرية هي حصيلة الحقوق التي تُولَدُ مع المرء ولا يمكن انتزاعها منه أو تحويلها إلى غيره، هي تحرّر من الكبح الذي لا مبرّر له، والقدرة على التنقل والتجمع للمطالبة بالحقوق، والتحرّر من الحاجة والخوف.

متى يدرك كل لبناني أن الأسوأ من جوعه هو  صبره وكتمه الغيظ، والأسوأ من مهانته تردده وخوفه، والأسوأ من موته البطيء تشبثه بحبال الأمل الواهم؟

لذلك استقر مفهوم الثورة بعد الثورة الفرنسية والأمريكية على أنها تغيير أساسي، ومفاجئ، وصادم في القيم السائدة داخل المجتمع، وفي المؤسسات السياسية، وفي الهيكل الاجتماعي، وفي القيادة، وفي الأنشطة والسياسات الحكومية. فالانقلابات العسكرية أو الانتفاضات قد تغير القيادة السياسية، والسياسات، وفي بعض الأحيان قد تحدث تغييراً في المؤسسات السياسية، ولكن الثورة هي فقط التي تستطيع إحداث تغيير في الهيكل الاجتماعي social structure للمجتمع مثل تغيير الطبقة الاجتماعية الحاكمة، وتغيير علاقة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع بعضها ببعض.

في توصيف ما يجري في لبنان

انطلاقاً من توصيف أرنت، يتبين أنّ ما قيل أنه ثورة في لبنان، لم يتعدّ أكثر من شعار يرفع بكثافة , كلمة ترددها الحناجر بقوة، وجوه بارزة تصدوا للنطق بإسمها والتعبير عنها، صرخات احتجاج، بيانات استنكار، وبرامج عمل لمن يهمه الأمر، تطلعات مستقبلية، إعلان نوايا، ومطالبة السلطة بأن تصلح نفسها أو بالرحيل أو أن تستقيل طواعية. هي فعاليات لم تتجاوز عتبة الضغط المعنوي على أهل السلطة، وتمدد المهل لهم بإصلاح ما أفسدوه، وتمنحهم الفرضة تلو الأخرى لوضع سياسة خلاص اقتصادي وسياسي للبنان.

تبين أنها ثورة مترددة وحذرة، محملة بحسابات ربح وخسارة دقيقة، تميل إلى شخصنة صراعها وخصومها، تستبطن الخوف من جلادها، وتشعر بالذنب تجاه من استرقّها واستعبدها على مدى السنين، كأنها تتحسر على طول العشرة. تستجدي منه الإصلاح والتغيير وتتوقع الخلاص على يديه، تعوّل على صحوة ضميره وفيض شفقته، وتراهن على عودة الأمور إلى نصابها السابق. ما جعلها تلقي بنفسها طوعاً تحت وطأة رحمته، وتتقيد بقواعد لعبته، وتدخل طوعاً داخل مجال تحكمه ونفوذه، ما جعلها مكشوفة الظهر، متوقعة الأداء، محدودة الفعل والفعالية.

الثورة في لبنان هي فعاليات لم تتجاوز عتبة الضغط المعنوي على أهل السلطة، وتمدد المهل لهم بإصلاح ما أفسدوه، وتمنحهم الفرصة تلو الأخرى لوضع سياسة خلاص اقتصادي وسياسي للبنان

تبين بعد عام ونصف، أن ما لدينا ليس أكثر من أمنيات ورغبات تغيب بداخلها قابلية فعلية للثورة. أي غياب إرادة مقتحمة لزعزعة للأسس وتحطيم للأصنام، وافتقاد بصيرة الكشف عن المجد الزائف ونرجسية الغفلة، وعن الأصفاد التي كبلت به السلطة أرواحنا وحجّمت عقولنا ولوثت أحلامنا. هي قابلية تضع الذات نفسها أمام اختبار تجاوز نفسها، والتمرد على مبادىء فهمها لحقيقتها ومعنى وجودها.

بيَّن ألكسي دو توكفيل أن الجوع والظلم والاضطهاد وحتى الفساد، لم يكونوا يوماً أسباباً وعوامل محركة للثورات. فالذي تعوَّد على القهر والاستلاب والتواكل والفساد الطليق لزمن طويل، يكون قد تكيّف مع أخلاق القطيع المحببة إلى أكثر قيادات ورموز الواقع اللبناني، ورضي بمستوى وجود متدن. الثورة تبدأ بنظر توكفيل، حين نتحسس ونعاين مستويات وجود أرقى وأسلوب حياة أرفع. حينها لا تعود الثورة فعل سلب، أي مجرد تدمير لواقع قائم أو تمرد على قيم وثوابت مسلم بها، بل خيار وجودي عميق يقف وراءه توق إنساني لا يتوقف لحياة أكثر امتلاء وتدفقاً، وكينونة أكثر كثافة وشدّة (Intensity). بذلك، تصبح الثورة فعل خلق وفن وجود.

متى يدرك كل لبناني أن الأسوأ من جوعه هو صبره وكتمه الغيظ، والأسوأ من مهانته تردده وخوفه، والأسوأ من موته البطيء تشبثه بحبال الأمل الواهم؟ متى يقتنع كل لبناني أنه لم يعد هنالك شيء يستحق أن يخاف أو يحرص عليه؟ متى يحسم أمره بطرد الكهنة والعرافين واللصوص والأنبياء المزيفين من الهيكل؟ بل متى يعي أن دمار الهيكل نفسه يكاد يكون فعلاً ضرورياً لانبثاق أفق حرية جديد في لبنان.

السابق
مشهد سوريالي: نفط إيراني الى لبنان.. متى ينطلق «حزب الله» بتهريبه الى سوريا؟
التالي
ماغي بوغصن: «وأنا كمان ولادي رح يفلّوا»