وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: خطاب البطريرك.. تصويب الوجهة

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

نقل البطريرك الماروني بشارة الراعي الجدل السياسي في لبنان إلى منطقة جديدة، تستدعي تحولاً في التحالفات والاستقطابات الداخلية، وتغييراً في عناوين الخلاف والمطالب ومنطق المواجهة، وتجاوزاً لثنائية 8-14 آذار التي تحكمت بالمشهد السياسي لأكثر من خمسة عشر عاماً، وانتهت بفوز كاسح لحزب الله في الإمساك بمفاصل البلد السيادية والأمنية.

اقرأ أيضاً: من نداء المطارنة إلى صرخة الراعي… إحذروا «الإنقلابيين الجدد»!

تبين منذ لحظة التجاذب الأولى بين قوى 8 و 14 آذار عدم التكافؤ بين الطرفين.  فقواعد التنافس لم تكن على أساس تمثيلي أو شرعي، لأن هذا يستدعي اعترافاً بسقف الدولة ومرجعيتها الكاملة والتقيد بأصول التنافس الديمقراطي، بل كانت قواعد التنافس على أساس القدرة في خلق معطيات أمر واقع، وعناصر غلبة محلية وإقليمية تؤهل طرفاً في فرض أجندته وترسيخ وصايته.

ثلاثية “حزب الله” أنشأت سلطة مقفلة خارج مصادر الشرعية تكون مرجعية نفسها، وسلبت من الدولة أقوى سمة سيادة لها وهي “احتكار القهر المشروع 

حين بقيت قوى 14 آذار في موضع المساومة المستمرة والتنازلات بالجملة في المسائل المبدئية والسياسية، بحجة الخوف من الإنهيار الشامل للبلد، كان حزب الله محتفظاً مع حلفائه بالوضعية القتالية الهجومية التي تذهب لتحقيق غرضها وغلبتها حتى النهاية مهما كانت التبعات.  وحين كانت قوى 14 آذار تعاني من تناقضات مروّعة بين قياداتها وتفتقد إلى برنامج واضح أو رؤية دقيقة لمشروع الدولة المزعوم، كان الطرف الآخر محتفظاً بتوحيد جبهته وتنسيق مواقفه وتوزيع أدواره رغم التباين الشديد بين بعض رموزه. وحين انكفأ حلفاء 14 آذار الدوليين من عرب وأوروبيين وأمريكيين، عن التدخل للحدّ من عسكرة المشهد السياسي في لبنان، بل كان الغضّ عن نشاط حزب الله داخل لبنان وخارجه بمثابة هدية أو تحفيز أمريكي_ أوروبي لإيران في إبرام الاتفاق النووي، كانت إيران بالمقابل تصعّد من انتشارها داخل المجال العربي، وتعلن لبنان النموذج الأمثل لتصدير ثورتها.

الهدف النهائي لأي حزب أيديولوجي، بحسب غرامشي، ليس استلام السلطة فحسب، بل ترسيخ هيمنة ثقافية مولدة للإنصياع والخضوع الطوعي للسلطة. 

ثلاثية حزب الله أو الفوز بالجملة

لم تلتقط قوى 14 آذار منذ العام 2006، أن حقيقة المواجهة مع حزب الله منذ العام 2006 لم تكن على قاعدة التنافس على المشروعية القائمة، بل كانت معركة ترسيخ شرعية جديدة يخوضها حزب الله  مناقضة ومباينة لأصول الشرعية التي تقتضيها مبادئ الدستور ومفهوم الدولة ذات السيادة.  لذلك، حين كانت قيادات 14 آذار تناضل لتثبت حضورها وتنتزع الإعتراف بها مقابل تقديم تنازلات سيادية خطيرة، نجح حزب الله في ترسيخ ثلاثية الجيش-الشعب-المقاومة، وهي ثلاثية ليس الغرض منها دعم الجيش وحماية الشعب، بل انتزاع ما كان لهما، أي نزع مهمة حماية الوطن عن الجيش، وإنشاء شرعية مستقلة وسلطة موازية للشعب الذي يفترض به أن يكون منبع أية شرعية ومصدر جميع السلطات.  ما يعني أنها ثلاثية أنشأت سلطة مقفلة خارج مصادر الشرعية تكون مرجعية نفسها، وسلبت من الدولة أقوى سمة سيادة لها وهي “احتكار القهر المشروع”. بذلك، حين نجحت قوى 14 آذار بالأخص قيادة تيار المستقبل في تحقيق فوز بالنقاط ضد حزب الله، فإن حزب الله نجح في تحقيق فوز بالجملة، ليس ضد خصومه فحسب، وإنما في تأسيس شرعية سياسية بديلة، جهد حزب الله في ترسيخها عرفاً ناظماً لكل وجوه الحياة السياسية وحركة القرار السياسي، يخوله لا منافسة سلطة الشعب وصلاحية الجيش فحسب، بل  ممارسة وصاية عليهما  والتحكم بجميع مفاصل القرار السيادي.

   خطاب البطريرك  غيَّر منطلقات الجدل السياسي، من تنافس على السلطة إلى المواجهة بين شرعية الدولة ومنطق اللادولة، ومن خطاب التعبئة لاستعادة حقوق الطوائف المهدورة، إلى ملحمة وجود الكيان اللبناني.

 الخطر المستجد والمؤتمر التأسيسي

ميزة خطاب البطريرك الراعي الأخير هو تسمية الاشياء بأسمائها، والتصويب الصريح والمباشر نحو الخطر المستجد، الذي لم يعد مجرد إخلال بموازين القوى الداخلية، أو قضية استنقاذ حق طائفة من أخرى مثلما يصوّر التيار العوني، وإنما إخلال بأصل الصيغة اللبنانية، التي باتت مستهدفة من دعوات المؤتمر التأسيسي الذي يصر عليه حزب الله. وهي دعوات لا تكتف بتحويل فائض القوة التي يملكها حزب الله إلى مسلمة دستورية، بل إلى إنتاج لبنان آخر ذي ثقافة مغايرة. إذ إن الهدف النهائي لأي حزب أيديولوجي، بحسب غرامشي، ليس استلام السلطة فحسب، بل ترسيخ هيمنة ثقافية مولدة للإنصياع والخضوع الطوعي للسلطة. حين دعا البطريرك إلى مؤتمر دولي لحل الأزمة اللبنانية، كان غرضه: استعادة الزخم الدولي للبنان مقابل بلد منعزل، وفي طريق وضعه على لائحة الدول الراعية للإرهاب، والاحتفاظ بمشهدية التعدد والتنوع مقابل مسلك إلغائي يعمّم منطق الغلبة، وإخراج لبنان من محور إقليمي ليس سوى وصاية إيرانية مُقنَّعة للبنان، إلى الحياد الإيجابي الذي يجعل الإلتزام بالقضايا القومية والعالمية من متفرعات سيادة الدولة وخياراتها.

من حقوق الطوائف الى حقّ الكيان

قد لا تشجع المعطيات الدولية الحالية على الإستجابة لدعوة البطريرك، بخاصة عهد بايدن الذي استأنف سياسة التسوية compromise  لا الحسم،  والصفقات الكبرى التي يذهب ضحيتها الضعفاء والابرياء. إلا أن خطاب البطريرك الأخير غيَّر منطلقات الجدل السياسي، من تنافس على السلطة إلى المواجهة بين شرعية الدولة من جهة ومنطق اللادولة من جهة أخرى، ومن خطاب التعبئة لاستعادة حقوق الطوائف المهدورة، إلى ملحمة وجود الكيان اللبناني في أن يبقى أو لا يبقى. 

السابق
ما حقيقة ما يشاع عن عدم توزيع البنزين والمازوت غدا؟
التالي
هذا ما جاء في مقدمات النشرات المسائية ليوم الاثنين 1/3/2021