النظام الإيراني كقوة رجعية في المنطقة

ناقلات نفط ايرانية

قياسا على ما أعرفه عن روبرت مالي الذي تولّى منصب المبعوث الأميركي للملف الإيراني ضمن فريق وزير الخارجية، ولا أعرف عنه سوى القليل جدا من لقاءين في مناسبتين بحثيتين في بيروت وثالثة في واشنطن خلال ندوة كنت فيها مع مايكل يونغ وجوزيف باحوط آتين من بيروت وباريس عام 2005، فإنه فعلاً من السخف اعتبار بعض السياسيين الأميركيين أنه متعاطف مع إيران. إذ لدى روبرت مالي تبعاً لانطباعاتي عنه، كل ما يدفعه ليكون حذراً من أي مد أيديولوجي ديني. لكن الرجل الذي كان مشاركا في المفاوضات السابقة مع إيران والتي أسفرت عن الاتفاق النووي هو كادر سياسي خبير في شؤون الشرق الأوسط وداعية دائم إلى سياسة أميركية متوازنة في الشرق الأوسط (بما فيها الانسحاب الإسرائيلي من الجولان)خصوصا في الموضوع الفلسطيني. في الوقت نفسه ورغم تأييده لحل الدولتين كتب مع باحث فلسطيني مقالات مشتركة تنتقد بشدة سياسة الاستيطان الإسرائيلية ولكنه في آرائه الشخصية ليس بعيدا عن تيار من المثقفين الفلسطينيين الذين كانوا ينتقدون العديد من سياسات ياسر عرفات. ومن خلال موقعه كرئيس لمنظمة بحثية دولية معنية بالنزاعات (ICG) كان روبرت مالي على صلة بمستويات عديدة في المنطقة بحثية وأكاديمية فضلا عن السياسية. وهو من هذا الموقع يستطيع أن يفهم جيدا تطلعات نخب المنطقة وإحباطاتها بشكل عام وحاجتها لبناء أنظمة ديموقراطية.

اقرأ أيضاً: بايدن بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى

لقد كشفت جلسات الاستماع في الكونغرس إلى ثلاثة من أبرز مساعدي الرئيس جو بايدن هم وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع ليودأوستن ومديرة الاستخبارات الوطنية آڤريل هاينز أمرين مهمين، الأول في الواقع تأكّد أكثر مما انكشف هو أن الإدارة الأميركية الجديدة ستكون صارمة في موضوع تأخير مهل التخصيب ونسبه الذي يسمح لإيران بإنتاج قنبلة نووية، وكانت المدة سنة واحدة تليها سنوات تمديد في الاتفاق “السابق” كذلك في إثارة موضوع الصواريخ الطويلة المدى التي تملكها إيران وسياساتها التوسعيّة في المنطقة التي تهدد جيرانها الخليجيين والتشديد على التنسيق الذي سيحصل مع هؤلاء الحلفاء في أية مفاوضات آتية مع إيران.. غير أن الأمر الثاني المهم الذي كشفته هذه الجلسات التي انتهت بتثبيت المسؤولين الثلاثة أن الإدارة الجديدة جازمة في سحب دعمها للسياسة السعودية العسكرية في الحرب اليمنية مع التشديد على الضغط على الحوثيين لمنعهم من مواصلة محاولات قصف السعودية بالصواريخ.. وكانت البداية ما أعلن عن “مراجعة” الإدارة الجديدة لعقود بيع أسلحة سبق أن قررتها إدارة ترامب.

تبدو إدارة بايدن هادئة حتى الآن في اختبار المسافات “الجديدة” مع إيران بينما طهران تُكثر من التصريحات و”الرقصات” وآخرها اعتقال الأميركي من أصل إيراني إلى حد صار من المتوقع معه أن تقوم ببعض الخطوات التي ترمي إلى تسريع ظهور التكتيكات الإميركية الجديدة. لكن تكرار إطلاق الصواريخ باتجاه السعودية يبدو كأنه يرمي تحديدا إلى دفع بايدن نحو التحرك العملي في الموضوع اليمني.
سنرى الآن مع الاختبار الجديد المتمثِّل بمجيئ إدارةأميركية جديدة مدى قدرة النظام الإيراني على بناء استراتيجية تتجاوز محض الكفاءة في البقاء على قيد الحياة.استراتيجية تكشف هل يستطيع أن يكون نظاماً “طبيعيّاً” في المنطقة والعالم كما يريد ملايين الشباب والشابات الإيرانيين المليئين بالطموح إلى جعل بلدهم بلدا حديثاً وديموقراطيا.
إدارة بايدن تعج يوماً بعد يوم بالمسؤولين الراغبين بعلاقات طبيعية مع إيران لكن في الوقت نفسه المصرّين على ضمان عدم تحوّل إيران إلى قوة نووية والأهم إلى إنهاء استمرارها قوة عدم استقرار في المنطقة.

يجب التذكير ببعض الحقائق:
ليس الشباب الإيراني وحده في الموقع الطامح لتفرغ بلده إلى التنمية والتحديث في عالم معاصر لا أولوية فيه أعلى من تلك الأولوية بل كل شباب وشابات المنطقة لا فارق بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت على هذا الصعيد.
مع تقدم القرن الحادي والعشرين في الثورة التكنولوجية وانعكاساتها الجيوبوليتيكية تبدوإيران، كنظام سياسي، قوة رجعية في المنطقة.
لاننكر أن الثورة الإيرانية انطلقت كواحدة من أكبر الأحداث السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين بما حملته من إعادة طرح لعلاقة الدين بالسياسة لكن تجمّدت مع الوقت ضمن أيديولوجية خوف وتخويف وقلق وتقوقع أمني وسلطوي حتى وهي تبني مشروعا توسعيا لنفوذها في المنطقة. وإذا كان الطموح النووي هو التعبير الذي أراده النظام الإيراني عن إطلاقه لمشروع الدولة – الأمة القوية، سواء كان يريده نوويا عسكريا أو لأغراض سلمية كما يزعم، فإن هذا الطموح يبدو مقطوعاً عن البنية الاقتصادية التي لا تزال تعتمد على نظام ريع نفطي وغازي وقدرة صناعية وخدماتية متخلّفة.

هناك فجوة وحيدة لا زال يستند إليها النظام الإيراني هي الفجوة التي يُحْدِثها رفض نظام التمييز العنصري في إسرائيل تقديم حل عادل للشعب الفلسطيني تقبل به الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة حركة “فتح”. لولا هذه المعضلة العميقة لكان بالإمكان تصور حاضر ومستقبل مختلفٍيْن للمنطقة لاسيما أن إسرائيل تحقق نجاحات كبيرة في التحول إلى دولة متقدمة تكنولوجياً في العالم. لكن إيران النظام الديني لا يستطيع الاستمرار في سياسة رهان على اللااستقرار. هنا الغرب، الحامل السياسي الوحيد، ولو العاجز، لمشروع الدولة الفلسطينية يتحمّل مسؤولية كبيرة في استمرار السعي لتغيير المناخ السياسي في الشرق الأوسط.
لاشك أن إدارة بايدن التي سنرى إذا كانت تحمل مستوى الالتزام الأخلاقي نفسه الذي حمَلَتْه إدارة أوباما في محاولة عدم التورط في حروب جديدة، يمكنها أن تعيد النصاب السلمي في الشرق الأوسط ولو المهدَّد، عبر معالجة استيعابية للحالة الإيرانية معقّدة بطبيعتها لكن تستحق المحاولة.
هذه بعض الأفكار التي بات علينا أن نقولها بالصوت العالي ليسمعها الإيرانيون خصوصا في لبنان حيث يتزايد الشعور بالضيق لدى نخب متعددة الطوائف، ومنها في المقدمة الشيعة، من انسداد أفق المشاريع الحربْ الأهلويّة، مهما سماها الإيرانيون بأسماء ملطّفة أو تعبوية.

جو بايدن في مقال له في أيلول المنصرم ذكّر كدليل على فشل سياسات ترامب أن الاتفاق النووي كان يضمن أن تكون إيران على مسافة سنة من أي قدرة على إنتاج قنبلة نووية بينما أصبحت اليوم (أي أيلول) على مسافة أشهر وذكّر بذلك مستشاره للأمن القومي قبل أيام. على أي حال حتى اللحظة لا زال الفريقان على موقعيهما المعلنين قبل عودة التفاوض من حيث اشتراط بايدن عودة إيران للالتزام غير المشروط ببنود الاتفاق النووي كشرط لعودة التفاوض واشتراط إيران إلغاء كل العقوبات التي فرضها ترامب عليها كشرط مقابل لهذه العودة وهو ما أكده يوم الخميس المنصرم في مقال له في النيويورك تايمز” السفير الإيراني في الأمم المتحدة الذي كان شارك في مفاوضات الاتفاق النووي.
أما نحن في لبنان، لبنان “الصغير”، فمهمومون بأن نفهم حدود طموحات إيران التي تكاد تسحق اقتصادَها وهي الدولة الإقليمية الكبيرة فكيف بنا؟ هل النموذج الذي تقدمه لنا هوالعيش الأبدي مع الخطر أم الحرب اليمنية أم الفقر العراقي في دولة، هي العراق، مدخولها النفطي من المفترض أن يتجاوز المائة مليار دولار؟

السابق
وهّاب يُبشّر بانفراجات كبيرة.. هل يستفيد لبنان؟
التالي
لبنان يتجاوب مع القضاء السويسري: عويدات سيُسلم أجوبته الخميس!