بايدن بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى

الخلافات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري عميقة، ووصل التنافس بين الحزبين خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب إلى مرحلة العداء المفتوح، كما يتبين من الخلاف المستمر حول الانتخابات الرئاسية حيث ترفض أكثرية من الجمهوريين الاعتراف بشرعية انتخاب الرئيس جو بايدن، ولا تزال تصدق ما يسمى “بالكذبة الكبرى” والتي تدعي أن الديمقراطيين سرقوا الرئاسة من ترامب. هذا الادعاء هو في جوهر اجتياح الكابيتول من قبل عناصر متطرفة وعنصرية موالية بشكل أعمى للرئيس السابق. ولكن هناك قضية خارجية يلتقي حولها معظم قادة الحزبين، وهي أن الصين تشكل المنافس الأكبر، ومصدر التهديد الحقيقي والاقتصادي بالدرجة الاولى للولايات المتحدة، كما أنها القوة العسكرية الصاعدة في شرق آسيا والتي تهدد مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في تلك المنطقة ومصالح أصدقائها.

إقرأ أيضاً: بايدن والمنطقة العربية… الواقع والطموح

بروز الصين كقوة اقتصادية منافسة للولايات المتحدة، اكتسب أهمية متزايدة بعد أن تخطت الصين الاقتصاد الياباني، لتصبح الاقتصاد الثاني في العالم بعد اقتصاد الولايات المتحدة. في العقود الماضية أصبحت الصين شريكا اقتصاديا ضخما للولايات المتحدة التي بدأت تستورد كميات كبيرة من منتجات الصين الرخيصة نسبيا والتي كان المستهلك الأميركي يقبل عليها بنهم كبير. وبعد أن أصبحت العولمة الاقتصادية حقيقة لا يمكن تجاهلها، وما صاحب ذلك من هجرة الكثير من الصناعات في الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة إلى أسواق الدول ذات العمالة الرخيصة نسبيا مثل الصين والهند وغيرها، ازدادت علاقات الاعتماد المتبادل بين أسواق الولايات المتحدة والصين إلى مرحلة متقدمة وغير معهودة في العلاقات الاقتصادية بين أي دولتين في السابق.  الولايات المتحدة تقترض من المصارف الصينية، وتعتمد على صناعاتها الرخيصة الثمن، بينما تستورد الصين الطائرات الأميركية المدنية وغيرها من المنتجات الأميركية المتطورة، والمنتجات الزراعية الأميركية. وهكذا أصبح مستقبل هذه العلاقات المعقدة بين الصين والولايات المتحدة مسألة تهم المزارع الأميركي في الولايات الزراعية الهامة في الانتخابات الأميركية، كما تهم المستهلك الأميركي الذي يعيش في المدن ويعتمد على منتجات الصين.

خلال جائحة كورونا، اكتشف العديد من الأميركيين أن بلادهم، على الرغم من تقدمها العلمي والطبي والصناعي، تستورد الكثير من الأدوية – وغيرها من المواد الهامة والحساسة – التي يستهلكها المجتمع الأميركي من الخارج. ومنذ أن بدأ التبادل التجاري بين البلدين بالنمو بوتيرة سريعة، بدأت الحكومات الأميركية المتعاقبة من جمهورية وديموقراطية تشكو من الممارسات التجارية السلبية للصين، بدءا من تخفيض العملة الصينية ومرورا بإجراءات الحماية وانتهاء بالشكوى من انتهاكات الصين السافرة للملكية الفكرية، ولجوئها إلى الهندسة العكسية لسرقة الاختراعات الأميركية.
الرئيس السابق ترامب استخدم سياسة الجزرة والعصى مع الصين، وفي كلا الحالتين واجه خصما صعبا لا تؤثر فيه العقوبات الأميركية بشكل جذري كما تؤثر بخصوم آخرين مثل روسيا وإيران. وفي النصف الثاني من ولايته اضطر ترامب إلى فرض عقوبات اقتصادية هامة ضد الصين الذي يحكمها صديقه السابق جي شينغ بينغ. 

مواجهة الصين سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا، كانت الهاجس الأساسي للرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب، وسوف يرث الرئيس جو بايدن هذا الهاجس خلال السنوات الأربعة المقبلة. الرئيس أوباما الذي حاول في ولايته الأولى معالجة بعض أزمات الشرق الأوسط القديمة وفي طليعتها النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، والانسحاب العسكري من العراق، قبل أن يركز اهتمامه الرئيسي على معالجة التحدي الصيني، أخفق في تحقيق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، ونجح مؤقتا في العراق حين سحب القوات الأميركية عام 2011. ولكن موسم الانتفاضات العربية، والائتلاف الجوي الذي اضطر أوباما لقيادته للمساهمة في إسقاط طغيان معمر القذافي في ليبيا، ولاحقا بروز ظاهرة الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، سحبته من جديد إلى الرمال المتحركة في الشرق الأوسط، وحرمته من التركيز على ما أسماه “التحول باتجاه آسيا”، وتحديدا التحول لمواجهة الصين.

تبين مختلف المؤشرات الصادرة عن إدارة الرئيس بايدن الجديدة، وخاصة التعيينات المكثفة في المناصب المعنية بشرق آسيا والصين، أن بايدن وفريقه سوف يركزون اهتماماتهم وطاقاتهم على منطقة شرق آسيا لأنها المنطقة الجغرافية الأكثر أهمية للاقتصاد الأميركي في العالم، وهي المنطقة التي تعتبرها الصين حديقتها الخلفية، والتي تحاول في السنوات الماضية تعزيز نفوذها العسكري، من خلال الاستيلاء على جزر متنازع عليها وتحويلها إلى قواعد عسكرية، وتعزيز نفوذها الاقتصادي من خلال زيادة اعتماد بعض دول المنطقة على مساعداتها الاقتصادية والتقنية.

حاول الرئيس السابق ترامب إنهاء ما كان يسميه “الحروب التي لا نهاية لها” في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ولكنه لم يحقق هدفه بشكل كامل وإن أفلح في تخفيض عديد القوات الأميركية في سوريا والعراق وأفغانستان، وفي سحبها من الصومال. خلال العقد الماضي، حققت الولايات المتحدة استقلالها النفطي عن الشرق الأوسط، بعد أن تحولت إلى أكبر منتج للنفط في العالم، حيث تنتج حاليا 19 مليون برميل من النفط يوميا. وهناك إرهاق أميركي – في الكونغرس وفي المجتمع ككل- من مواصلة أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة، في أفغانستان والعراق. 

الانتشار العسكري الأميركي الكثيف في منطقة الشرق الأوسط لم يعد مبررا استراتيجيا او ماليا. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة سوف تنسحب كليا – أو يجب أن تنسحب كليا – من المنطقة، لأن ذلك سيخلق فراغا أمنيا ستسارع روسيا وبعض الدول الإقليمية الطموحة إلى ملئه كما رأينا في سوريا التي تحولت إلى ساحة اقتتال بين دول مثل روسيا وإيران وإسرائيل وتركيا، إما بشكل مباشر أو بالوكالة، وكما رأينا في ليبيا. 

وكان من اللافت أن إدارة الرئيس بايدن طالبت روسيا وتركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة التي تتقاتل فيما بينها بشكل مباشر أو عبر قوات مرتزقة فوق أرض ليبيا منذ سنوات، بالانسحاب من ليبيا. ولكن ما هو ضروري هو أن تتوقف واشنطن عن معاملة “حلفائها” القدامى بمن فيهم إسرائيل والسعودية ومصر وتركيا وكأنها ترتبط بهم بعلاقات خاصة. من الأفضل للولايات المتحدة أن تكون لها علاقات طبيعية مع هذه الدول وليس أكثر، وأن تتوفر لها قدرات عسكرية كافية للدفاع عن مصالحها إذا تعرضت للتهديد، ولكن ليس للتدخل في نزاعات لا تهدد أمنها القومي بشكل مباشر.

وسوف يكون من الصعب على إدارة الرئيس بايدن في السنوات المقبلة تبرير وجود عسكري أميركي في سوريا والعراق والكويت والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين. تركيز الاهتمام السياسي والاقتصادي والاستراتيجي على منطقة شرق آسيا سوف يؤدي بالضرورة إلى تقليص الانتشار العسكري في الشرق الأوسط. التحالفات الجديدة في المنطقة بعد تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودولة الإمارات والبحرين، والتعاون والتنسيق الضمني بين إسرائيل والسعودية، وما تشكله هذه الدول من كتلة واحدة في مواجهة إيران من جهة وتحالف سني يشمل تركيا وقطر وتنظيمات إسلامية في المنطقة من جهة أخرى، هذه التحالفات مبنية على توقع تقليص الانتشار العسكري الأميركي وحتى الاهتمام السياسي بالشرق الأوسط. هذه الدول تسعى الآن إلى حماية مصالحها ومواجهة خصومها، لأنها لا تستطيع الاعتماد في المستقبل على الغطاء أو الحماية الأميركية. تقليص الحضور العسكري الأميركي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا هو خطوة ضرورية سوف يرحب بها الأميركيون الذين أرهقهم تهور رؤسائهم في منطقة تهدر ثرواتها على نزاعات مستعصية على الحل، ويحكمها قادة متسلطون ولا يخضعون إلى المحاسبة والمسائلة.

التحوّل الأميركي تجاه شرق آسيا لمواجهة الصين، يمثل سياسة عقلانية وضرورية لمستقبل أميركا الاقتصادي والاستراتيجي. وتجربة الولايات المتحدة المرّة خلال العقدين الماضيين في الشرق الأوسط وجنوب آسيا: حربان كارثيتان اختارهما بتهور الرئيس الأسبق جورج بوش، وأديا إلى خسائر بشرية ومالية كبيرة ناهيك عن الأضرار المعنوية التي لحقت بسمعة ومكانة أميركا في العالم، يجب أن تضع حدا نهائيا لأي تدخل عسكري كبير في المنطقة إلا إذا كان للدفاع عن النفس.

التحالفات الجديدة في الشرق الأوسط تقول لنا بوضوح إن دول المنطقة تحضر لما تراه بداية النهاية للحّظة الأميركية الكبيرة في الشرق الأوسط. لقد آن الاوان لكي تضع أميركا منطقة الشرق الأوسط في مرآتها الخلفية.

السابق
فنان تركي يرتدي فستان الزفاف دعماً للمساواة بين الجنسين
التالي
ما صحة تمديد الاقفال لمدة 10 ايام ؟