حصاد 2020: عام التجديد الدموي للنص النقدي اللبناني

ماكرون

عام 2020 خرج شخصان عن المألوف حيال الوضع اللبناني. الأول قام بما يمكن اعتباره دون منازع أكبر إدانة يقوم بها رئيس دولة كبيرة للطبقة السياسية اللبنانية التي تدير الدولة اللبنانية المتداعية. الشخص هو إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا والإدانة تتخطى النطاق السياسي إلى القضائي. سياسيا اعتبر ماكرون السياسيين اللبنانيين خونة. خونة بالمعنى الحرفي. وقضائيا اتهمهم بنهب أموال الدولة اللبنانية و تهريبها بالتواطؤ مع المصرف المركزي والمصارف الخاصة. لو كان هناك مدعٍ عام لمحكمة دولية مالية لكان القبض على كل رموز الطبقة السياسية والطبقة المصرفية اللبنانيتين مسألة إجرائية.

اقرأ أيضاً: حصاد 2020 : الفشل الناجح أو النجاح الفاشل للنخبة الشبابية اللبنانيّة

الشخص الثاني هو البطريرك الماروني بشارة الراعي. لا أعرف من ساهم مع البطريرك الراعي في كتابة رسالته يوم عيد الميلاد الخميس المنصرم، لكن ما قاله حول اعتبار ” الجماعة السياسية” اللبنانية تتصرّف وكأنها تدير “دولة عدوة وشعبا عدواً” هو توصيف غير مسبوق ويشكِّل بكل معنى الكلمة حدثا كبيرا على الأقل في تاريخ النقد السياسي اللبناني ليس فقط منذ تأسيس دولة ” لبنان الكبير” عام 1920 بل منذ تأسيس متصرفية جبل لبنان عام 1861.
كانت هذه المتصرفية تمتد من الحدود الشرقية الجبلية لما بعد مدينة صيدا جنوبا إلى الحدود الشرقية لما بعد مدينة طرابلس شمالا دون أن تشمل أيا من المدن الثلاث طرابلس وبيروت وصيدا. ويحفل تاريخ المتصرفية بكتب عن فساد بعض المتصرفين (وكانوا تبعا للبروتوكول الدولي عثمانيين مسيحيين يعيّنهم الباب العالي في اسطنبول ويتبعون له) وفساد الطبقة البيروقراطية من الأعيان والإداريين اللبنانيين. أحد أهم هذه الكتب كتاب بالفرنسية عن فترة حكم المتصرف مظفر باشا الذي عُيّن عام 1902 وانتهى عام 1907. والكتاب يقدّم معلومات وفيرة عن كيف كان العديد من الأعيان في الجبل يشترون المناصب عبر دفع الأموال للمتصرف مظفر باشا وزوجته وعائلته. أو يخسرون هذه المناصب إذا تمنّعوا عن الدفع لهم أو لأحدهم. ويبدو أن الدلائل تتجه إلى كون الأمير شكيب إرسلان هو الذي كتب هذا الكتاب المثير والكاشف وقامت دار نشر مؤخرا بإصداره في طبعة عربية لم أطلع عليها بعد.

كتبتُ على صفحتي على الفايسبوك وعلى التويتر بعد أن سمعتُ ثم قرأت يوم الخميس رسالة البطريرك الماروني البوست التالي:
“لم يقل أحدٌ في تاريخ النقد اللبناني وغير اللبناني للحياة السياسية اللبنانية وللمنظومة السياسية اللبنانية كلمةً بقوة وعمق محتوى الجملة التي قالها البطريرك الماروني بشارة الراعي اليوم في رسالته لمناسبة عيد الميلاد هي التالية:
“أمام هذا الواقع لا يسعنا القول سوى أنّ هذه الجماعة السياسيّة إنّما تتولّى إدارة دولةٍ عدوّة وشعبٍ عدوّ”.
بحقٍّ… هذا تجديد أو رفع تاريخي شامل لسقف النقد السياسي اللبناني”. (انتهى البوست)

لاحظتُ أن أحدًا لم يخالفني الرأي على الفايسبوك أو التويتر في قوة هذا التصريح البطريركي لكن العديدين اعتبروا موقف البطريرك ولو أنه استثنائي إلا أنهم أخذوا على البطريرك، وبعضهم بحدة، موقفَيْه الداعمَيْن لموظّفَيْن نافذَيْن بارزَيْن حالي وسابق لأنه بهذين الموقفين تصرّف كما يتصرّف زعماء الطوائف الدينيون حيال آخرين من طوائفهم باعتبار التعرض لمسؤول بارز حالي أو سابق “خطا أحمر” للطائفة لا يجوز المساس به.
كل هذه الاعتراضات لن تلغي تاريخية تصريح البطريرك. فمن زاوية مهنية أنا كمعلق سياسي ينتمي إلى قطاعٍ مهنيٍّ عملُه هو الرصد السياسي، لا أعرف مقالا واحدا لباحث أو سياسي لبناني أو معلِّق صحافي، بمن فيهم كاتب هذه السطور، ذهب فيه إلى حد اعتبار تصرف الطبقة السياسية أو ما سمّاه البطريرك الراعي : إدارة لدولة معادية وشعب عدو.

من الناحية النصّية إذن، لا سابق لهذا المستوى من النقد بحيث يوصف سلوك منظومة سياسية محلية بأنه يتعامل مع أبناء بلده كأعداء ودولته كدولة عدوة. وبهذا يكون البطريرك الراعي هو الإسم الثاني عام 2020 الذي يخرج في اتهاماته للمنظومة السياسية اللبنانية عن المألوف ويسجّل موقفا نقديا تجديديا في نص النقد السياسي اللبناني.
كان العام 2020 فادحاً : جائحة كورونا عالميا وجائحة الانهيار الاقتصادي والمالي وما كشفت من دناءات سياسية ومصرفية أفضل ما قيل فيها أنها غير أخلاقية ولو كانت قانونية وأهمها تهريب الأموال إلى الخارج وحجز الودائع في الداخل. ثم جاء انفجار مرفأ بيروت الهائل في 4 آب ليعمّق الجحيميّة السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها لبنان وليضفي على صورة المستقبل اسودادا في الدور والإمكانات والموقع خرج منه بصيص ضوء واحد هو المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية على الحدود البحرية كإشارة على رضوخ إيراني لمتطلبات ترعى أو يمكن أن ترعى مصالح وطنية لبنانية لبنان هو في أشد الحاجة إليها.

ليس صدفة أن يبرز دوران هجوميان للمرجعيتين الدولية فرنسا، والمحلية البطريركية المارونية اللتين تشاركتا في تأسيس “لبنان الكبير” في السنة التي بدا فيها هذا اللبنان منهارا تحت وطأة اختلالات محلية وإقليمية وجودية. فرنسا حذرت من ” زوال لبنان” والبطريرك رمى قفاز المجاملات ودعا علنا إلى حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية.
إنهما صوتا البطريركَيْن. السياسي الفرنسي والديني الماروني. لكلٍ منهما قدرات محدودة ولوكانت كبيرة.
العام 2020 خرج بنظرية سياسية تعتبر الطبقة السياسية محتلة للدولة والشعب إذا كان سلوكها كمنظومة موصوفا بأنه يدير “دولة عدوة وشعباً عدوا”. فليس من تفسير آخر سوى أنها منظومة احتلال.

لقد تحوّل إيمانويل ماكرون عام 2020 إلى قائد الثورة الشبابية النخبوية الواسعة التي تواصلت منذ 17 تشرين الأول عام 2019. أما البطريركية المارونية فظهرت مرة ثانية المسؤولة المعنوية الأولى عن هذه الدولة. استراتيجياً تموضع البطريرك في مكان لائق بمكانة البطريركية كان يمكن أن يكون أقوى لولا بعض الأخطاء التكتيكية التي حجّمت من مكانته حين انضم إلى واضعي الخطوط الحمر في الطوائف الأخرى حول بعض السياسيين والموظفين.
ماكرون والراعي هما دون أدنى شك رجلا العام 2020 في لبنان. عام 2019 شهد تجديدا ثوريا للنص النقدي اللبناني عبر شعار ” كِلُّن يعني كِلُّن ” لكن الأحداث المأساوية عام 2020، وتحديدا انفجار المرفأ، جعلت هذا التجديد دمويّاً: “خونة” و “إدارة لشعب عدو ودولة عدوة”.

السابق
الإرهاب الفكري
التالي
جنبلاط ينتقد الحريري.. وعلّوش يرد: لا أدري اين تذهب مروحتك!؟