حصاد 2020 : الفشل الناجح أو النجاح الفاشل للنخبة الشبابية اللبنانيّة

الثورة اللبنانية

يحدث شيء استثنائي فعلا في لبنان. لا سابق لهذا التشهير المعنوي الانتقامي الذي تقوم به مجموعات شبابية لبنانية بحق رموز وأحيانا “بمن حضر” من سياسيين أو مصرفيين في أماكن عامة. هذه ظاهرة العام 2020 الأهم في بيروت الكبرى. من هي هذه المجموعات التي تحضر فجأةً وتبدأ بالهتاف التشهيري ضد سياسي أو مصرفي؟
في ذاكرة الثورات الكبيرة العديد من ظواهر التشهير بل حتى التنكيل التي يقوم بها الثوار من أحزاب وطبقات جديدة ضد رموز وشخصيات من النظام القديم. حصل الكثير من ذلك خلال الثورة الفرنسية ولاحقا الروسية ولكن التحقير كان يتلازم مع العنف الشديد، إلا أن أشهر ظواهر تحقير الطبقة القديمة حصلت في الثورة الصينية عندما تعمّد ثوار ماوتسي تونغ التنكيل في الأرياف التي سيطروا عليها بالطبقات القديمة والاستهزاء بعناصرها بشكل مبالغ به من حيث عدم التمييز بينهم. وقد بلغ التنكيل في عهد “الثورة الثقافية” في منتصف الستينات من القرن المنصرم حد تجميع كل من اعتُبِر “بورجوازيا” من سياسيين وفنانين ومثقفين وبيروقراطيين في تجمعات أعمال شاقة في الريف كتب عنها لاحقا الروائي الصيني مو يان حامل جائزة نوبل مجموعةً من القصص المؤثرة إحداها تتحدث عن خصي لعجل فحل في مزرعة حيوانات أصرّ عليه مسؤولٌ حزبي شيوعي . الفارق بين مزرعة جورج أورويل وبين مزرعة مو يان أن الأولى تشهد الثورتين الأولى والمضادة بينما الثانية الحكم التوتاليتاري القاسي يبقى سائداً فيها.

اقرأ أيضاً: اللبنانيون رهائن التعطيل وجنون «الصهر» حتى ينهار الهيكل

لكن تلك الثورات على عمق وخطورة ما أحدثته من تأثيرات في تاريخ العالم كانت عموما، وتحديدا الروسية والصينية، تنتمي إلى فكر غير سلمي وغير ديموقراطي في الدعوة للتغيير، حتى الثورة الفرنسية، مؤسسة فكر حقوق الإنسان والدعوة المساواتية والعلمانية كانت سنواتها الأولى حافلة بالعنف والتصفيات حتى أنتجت أحد أعظم عسكريي التاريخ نابوليون بونابرت. العائلتان المالكتان في الثورتين الفرنسية والروسية أُعْدِمتا أما الأمبراطور الصيني فقد سجن وعومل بتحقير أسهل منه الموت وعاش طويلا في هذه الحالة كأي سجين عادي جدا وهو ما رواه، طبعاً بتصرف، فيلم هوليوودي شهير أخرجه برناردو برتولوتشي وعُرِض عام 1987 وسمحت السلطات الصينية للمرة الأولى لمخرج غربي بتصوير مشاهد طويلة منه في “المدينة المحرّمة” في بكين.

من حسن الحظ تنتمي الثورة الشبابية اللبنانية، في بدايتها الأولى عام 2015 يوم كان اسمها “طِلعتْ ريحتكنْ” كأول ثورة ربما في التاريخ، على الأقل في العالم الحديث، سببها تراكم النفايات في الشوارع، ثم في انفجارها الرائع في 17 تشرين الأول عام 2017 وقد بات اسمها “كلّن يعني كلّن”، هذه الثورة تنتمي إلى عصر الثورات الديموقراطية المتفاوتة الأشكال والتي بدأت ثورات “الربيع العربي” على أساسها قبل أن يستولي عليها فكر ” الإخوان المسلمين” الظلامي ويحولها إلى مادة حرب أهلية في سوريا وليبيا واليمن بينما في مصر نجح الجيش المصري في إنقاذ الدولة والمجتمع من براثن “الإخوان” في اللحظة المناسبة، لكنْ، جزئيا، على حساب بعض التيارات الليبرالية الشبابية مع أنها، هذه التيارات، وقفت ضد “الإخوان”.

ثورة 17 تشرين الشبابية، هي ثورة سلمية و ديموقراطية ونخبوية على غرار ثورات العصر الليبرالي في هونغ كونغ (ثورة المظلات) وحركة “احتلّوا وول ستريت” الأميركية بالمعنى الواسع للكلمة، اتساعُها لا يعني أن شعبيتها واسعة بل هي تضم عشرات الألوف من الطلاب والشباب الذين انفصلوا عن النظام السياسي بعدما أوصلهم هذا النظام إلى حضيض حياتي وسياسي بسبب جشع طبقتيه السياسية والمصرفية وفسادهما. لكن ما العمل في الأرياف والغيتووات الطائفية القابعة تحت قبضة تنظيمات ميليشياوية ممسكة بها وتجعل سقفها هو سقف الفكر الزبائني السائد؟
هذا هو مكمن نجاح هذه الثورة وفشلها في آن. نجاحها في أنها أحدثت أكبر حركة تعرية أخلاقية لنظام الفساد اللبناني وفشلها في إحداث التغيير السياسي لهذا النظام أو فيه رغم أن العالم الغربي كله معها حتى صار لبنان نموذجا معمّماً لإدانة فضائحية لطبقته السياسية بكاملها. هذا هو المعنى الجدي والإيجابي للعلاقة مع السفارات التي يعيّر بها الثورةَ عملاءُ عريقون للخارج والآن دخلنا في مرحلة ترهيب بوليسي مدروس في موضوع العلاقة بالسفارات. ولولا المعضلة المتعلقة بوضع النفوذ الإيراني في البلد كأحد أسباب وكنتيجة معا للتفتت والفساد لكان باستطاعة هذه الحركة الشبابية أن تنطلق بحرية أكبر بعيدا عن ثقل الانقسام الطائفي. لهذا يلعب هذا العامل حاليا دور عائق أساسي من عوائق التغيير بل يتحوّل إلى عنصر حماية للوضع القائم، تحت ذرائع مختلفة لمنع التغيير، هذا ناهيك عما يحصل أحيانا حين تسفر قوى سياسية عن سواعد ميليشياتها مباشرةً في شوارع بيروت ضد شباب الثورة فتسيئ إليها مرتين: مرةً بقمعها على منعطفات سياسيّة حسّاسة ومرة بإعطاء ذريعة طائفية للأحزاب الطائفية الأخرى لاستنفارٍ على أسس فئوية.

لهذا تبدو “حفلات” التشهير المعنوي برموز الطبقة السياسية والسياسيين والمصرفيين عموما نوعاً من التعويض، ذي الوقع المذهِل، عن الفشل السياسي. وأياً يكن تقييمه، فهو ظاهرة تاريخية ربما حصل مثلها جزئيا خلال الثورات الديموقراطية في أوكرانيا وجورجيا وحتى أرمينيا وطاجكستان. لكن ما يجري في لبنان صار ظاهرة واسعة ستُدرس كثيرا ذات يوم. لقد ربحت الطبقة السياسية المواجهة مع 17 تشرين ولكنها، أي هذه الطبقة، مجبرة على الاختباء في بيوتها لا بسبب الكورونا ولكن بسبب ظاهرة التشهير الشبابي المعنوي بمنظومة الفساد.
في كل تعميمٍ ظلمٌ ما ولكن، أكرر، الظاهرة استثنائية. لقد طغى وتجبّر العديدون في هذه الطبقة السياسية وذهبوا بالدولة حتى نحرِها من الوريد إلى الوريد باسم تعبئتها بالمحاسيب والأزلام من كل الطوائف، إنما يجب تسجيل أن العديد من الأنشطة الثقافية والفنية التي أمّنوا تمويلها بنفوذهم ويبدو أنهم حصلوا على ذلك أحيانا من مصرف لبنان كما من جهات غربية هي أفضل ما فعلوه من حيث وضع لبنان على واجهة المهرجانات الدولية ولكن تبيّن أنها كإنفاق الخديوي اسماعيل، خديوي مصر الشهير في القرن التاسع عشر، أموالُ ديون عامة ستتراكم لعقود وتسدِّد قيمتَها أجيالٌ عديدة آتية.

إنها ثورة نخبوية واسعة لديها مشكلة بنيوية عميقة هي امتداد الطبقة السياسية القوي لدى العامّة في الأرياف والمناطق والأحياء الشعبية في المدن. لا ضير في قول ذلك والاعتراف به. الضير قد يكون في أنها مشكلة لا حل لها قريبا في الأطر الديموقراطية التي تتمسّك بها ثقافة النخبة الشبابية الناضجة.
ربما لا تندرج ثورة 17 تشرين ظاهراً في سياق ما اعتبره فرنسيس فوكوياما في كتابه “الهوية” سمة الحركات السياسية المعاصرة وهي البحث عن تأكيد الهوية الاجتماعية أو الإتنية أو الجندرية، ولكن نظرة أعمق إلى ما يحصل عندنا ربما تجعل رد الفعل الشبابي في تصديه للحكم الفاسد ليس خارج سياق البحث عن هوية حياة عامة جديدة ونظيفة لأن الطبقة السياسية التي يقف ضد إدارتها للدولة هي طبقة استنفاد وتوظيف ومتاجرة بالهويات الطائفية والدينية والوطنية، وهذا الجيل الجديد بهذا المعنى يبحث عن هوية نظيفة للعمل العام الذي لطّخته تلك الطبقة المحترفة لاستغلال “الهويات الفرعية” بكل أنواع الفساد بما فيه الفساد الأيديولوجي.

إنها أوسع حركة انفصال النخبة الشبابية اللبنانية عن ما صار يسمى المنظومة السياسية، وربما هذه تسمية أدق من تسمية الطبقة السياسية التي هي طبقة متعددة الطبقات. لم يشأ العام 2020 أن يغيب دون أن يكرّس ظاهرة انفصال النخبة عبر النجاحات الواضحة ولو المتفاوتة التي سجلتها “النوادي العلمانية” في انتخابات مجالس طلاب الجامعات الكبيرة الخاصة. لكن لا زلنا في إطار النجاحات الاعتراضية النخبوية وليس في عمق المجتمع الذي تسيطر عليه المنظومة.
الشباب الجامعي اللبناني يصنع تاريخه المميز ولكنه لم يصنع التاريخ بعد. ولهذا سمّينا هذاالنجاح الرائع والمدوّي منذ 17 تشرين الأول 2019 بالنجاح الفاشل أو الفشل الناجح. وأرجو أن أكون مخطئاً في توصيف الفشل لا النجاح.

السابق
بعد لقاء الحريري – عون.. الدولار تحت عتبة الـ 8 آلاف للمرة الأولى منذ أسابيع!
التالي
٢٤ ساعة حاسمة في «ميلاد» الحكومة!